عاشت تونس أمس فترة «صمت انتخابي»، وسط تصعيد سياسي غير مسبوق، واتهامات متبادلة بالضلوع في فساد مالي، واستبداد بعض الأطراف المشاركة في الحكم منذ ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، وتجاذبات السياسيين «الشعبويين»، الذين انقسموا إلى تيارين: أحدهما مناصر للمرشح الرئاسي قيس سعيد، الحقوقي المستقل، والثاني انحاز إلى نبيل القروي، رجل الأعمال والإعلام الموقوف منذ أغسطس (آب) الماضي بتهم تهريب الأموال وتبييضها، والتهرب الضريبي. لكن أنصاره في الانتخابات التشريعية يعتبرونه «زعيما جديدا للعلمانيين والحداثيين» ضد «الهجمة السلفية الشعبوية».
وانطلق الاقتراع لعضوية البرلمان أول من أمس في مختلف دول العالم، ليفسح المجال لأكثر من نصف مليون تونسي في المهجر لاختيار 18 عضوا، قصد تمثيلهم في البرلمان، من بين أكثر من 15 ألف مترشح، ينتمون إلى أكثر من 200 حزب وعشرات القائمات الحزبية والمستقلة.
في اليوم الأخير من حملتها الانتخابية التشريعية، صعدت الأطراف السياسية وزعامات القائمات المستقلة والشبابية لهجتها، وأقحمت القضاء والنقابات ولوبيات المال والأعمال، ونجوم الفن والرياضة والإعلام، تحسبا للمفاجآت التي قد تفرزها صناديق الاقتراع خلال الأيام القادمة. كما تحول استقبال الرئيس المؤقت محمد الناصر من جهة، وزعيم حزب النهضة راشد الغنوشي، وزعيم حزب «تحيا تونس» يوسف الشاهد من جهة ثانية، لعدد من المثقفين والرياضيين والإعلاميين والأطباء، إلى ورقة للمزايدات وتبادل الاتهامات، وحملات التشكيك والاتهام بممارسة الشعبوية والإقصائية.
وتكشف جل تصريحات السياسيين، سواء في الحكم أو المعارضة، أن الانتخابات البرلمانية «سوف تكون حاسمة ومصيرية بالنسبة للاستثناء الديمقراطي التونسي، وللمستقبل السياسي لكبار صناع القرار في البلاد»، وخاصة بالنسبة أولئك الذين انخرطوا بقوة في السباق الانتخابي، وغامروا بالترشح لعضوية البرلمان رغم حدة التنافس، وترشح أكثر من 30 قائمة في كل دائرة انتخابية، مع ما يعنيه ذاك من تشرذم الأنصار والأصوات، ومخاطر قيام تحالفات في الكواليس بإسقاط بعض «كبار» المرشحين، وبينهم شخصيات اعتبارية يسارية وإسلامية ونقابية وليبيرالية.
* توجس من المرشحين المستقلين
أعرب عدد كبير من المثقفين والسياسيين، وفي مقدمتهم رئيس الحكومة يوسف الشاهد، عن مخاوفهم من إمكانية انحياز الشباب والناخبين للمرشحين المستقلين «الشعبويين»، على حساب قائمات الأحزاب التي تملك حضورا قويا في كل الدوائر الانتخابية الـ33، وذهب قياديون في حركة النهضة، بينهم زعيمها راشد الغنوشي الذي يرأس قائمة حركته في العاصمة تونس، إلى حد التحذير من «الخيانة الوطنية» في حالة عدم التصويت «للمرشحين الأوفياء لخط الثورة والتغيير، وخاصة لمناضلي حركة النهضة وأنصار السيد قيس سعيد». كما اعتبر المحامي والوزير السابق سمير ديلو أن «التصويت للقائمات المستقلة سيعني ضياع الأصوات»، وانتصار من وصفهم بـ«رموز الفساد والاستبداد والرشوة والتهريب»، رغم إجماع جل استطلاعات الرأي على كون القائمات المستقلة قد تحصد أكثر من ثلث المقاعد في البرلمان القادم.
وسار في نفس التوجه وزير العدل السابق، وقيادي «النهضة» نور الدين البحيري، الذي اتهم الناخبين الذين لن يصوتوا لقائمات حركته في الانتخابات البرلمانية وللحقوقي قيس سعيد في الرئاسية، بالتعاون مع الفاسدين ورموز النظام السابق، واليسار المتطرف. وقد لاقى هذا الخطاب انتقادات قطاع عريض من السياسيين اليساريين والمستقلين، والناخبين العلمانيين المعارضين للبحيري ورفاقه. كما اتهم عدد من السياسيين والمثقفين العلمانيين قيادات حركة النهضة بالتحالف سرا مع بعض القائمات المستقلة، وخاصة منها «الشعبوية» و«السلفية»، التي يتزعمها أئمة مساجد متشددون، ومع محامين وشباب يترشحون بدورهم في كل الدوائر الانتخابية.
* ترجيح كفة «ائتلاف الكرامة»
جل استطلاعات الرأي ترجح فوز قائمات «ائتلاف الكرامة» بالمرتبة الثانية، أو الثالثة في الانتخابات البرلمانية، خاصة بعد أن فاز زعيم هذا الائتلاف المحامي سيف الدين مخلوف بالمرتبة السابعة في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية من بين 26 مترشحا. كما فاز بالمراتب الأولى والثانية والثالثة في محافظات الجنوب، الذي شكل أكبر خزان انتخابي لحزب النهضة في 2011 و2014.
وبرز مخلوف خلال الأعوام القليلة الماضية بدفاعه عن المعتقلين السلفيين، والشبان المتهمين بالإرهاب، وجمع حوله عددا من الغاضبين من الخط السياسي لقيادات حركة النهضة. كما تبنى خطابا دغدغ مشاعر المنشقين عن حركة النهضة، والأوساط الشعبية، بسبب كثرة انتقاداته ورفاقه لمن يصفونهم بـ«الفاسدين والمرتشين داخل أجهزة الدولة والنقابات»، بما في ذلك نقابات العمال. وقد رد قادة اتحاد النقابات بشدة على تصريحات مخلوف ورفاقه، ووصفوهم بـ«ميليشيات حماية الثورة»، المتهمين بالتورط في العنف والإرهاب الفكري والسياسي عامي 2012 و2013، ولوحوا بوقفة نقابية كبيرة ضدهم وضد عودة التيار السلفي للمشهد السياسي، من بوابة الانتخابات والبرلمان.. وتحريك «الميليشيات الثورية».
تعرض المرشح المستقل قيس سعيد لضغوط قوية من قبل عدد كبير من المثقفين اليساريين والحقوقيين والإعلاميين العلمانيين، وحتى من ائتلاف الكرامة ومن السلفيين في قائماته البرلمانية. وقد استجاب قيس للضغوط، وتبرأ من كل القائمات المستقلة والحزبية التي تنتسب إليه وترفع شعار: «انتخبوا قائمتنا في التشريعية وقائمة قيس سعيد في الرئاسية»، معلنا تمسكه باستقلاليته عن كل الأحزاب والأطراف السياسية.
لكن الأخطر من كل هذا وذاك قد يكون استخدام أغلب الأطراف في سباقها الانتخابي نحو البرلمان، وقصر الحكومة في القصبة، ملفات أمنية وقضائية قديمة وأخرى جديدة، تهدف إلى توجيه ضربة قاضية للخصم. وفي هذا السياق صعد أنصار يوسف الشاهد وحزبه «تحيا تونس»، وحركة النهضة والقائمات المستقلة القريبة منها، حملتهم ضد نبيل القروي وحزبه، مع اتهامهما بالفساد والتحضير لإجهاض المسار الديمقراطي، والاستثناء التونسي والربيع العربي نهائيا.
في المقابل، استأنفت مجموعات من اليساريين والموالين للحزب الحاكم قبل ثورة 2011 رفع قضايا أمنية ضد قيادات حركة النهضة وشركائها السابقين في الحكم، بما في ذلك اتهامات بالضلوع في الإرهاب والعنف وقتل المعارضين شكري بلعيد ومحمد الإبراهيمي عام 2013، كما استأنفت قيادات دستورية ويسارية تحركاتها للمطالبة بحظر من تصنفهم بـ«أحزاب الإسلام السياسي»، بينما توقع راشد الغنوشي ورفاقه في حملتهم الانتخابية أن تسفر الانتخابات البرلمانية الجديدة عن إزاحة اليساريين المتطرفين ورموز النظام السابق.
الانتخابات البرلمانية... أخطر امتحان يواجه «الاستثناء التونسي»
الانتخابات البرلمانية... أخطر امتحان يواجه «الاستثناء التونسي»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة