قال رياض إنّه لم يقتل خليل المعلّم. أقسم بأشقّائه المغتربين، كما أقسم بغربتهم، على براءته. حين تجمّع الناس حوله، اصفرّ وجهه قليلاً، لكنّ لسانه لم يُعقد. لقد مضى، بشيء من الطلاقة، في رواية ما حصل: «بالكاد مسّـتْهُ سيّارتي فهوى على رأسه في حفرة الساقية التي لم يخرج منها». وما إن توقّف عن الكلام كأنّه يختبر استجابة الآخرين الذين ظلّوا صامتين، حتّى أضاف: «المرحوم خليل تجاوز التسعين كما تعلمون»، ثمّ حرّك يديه كأنّه ينفض عنهما شيئاً علق فيهما.
المتجمّعون حول رياض بدوا موزّعين بين حماستهم لسماع روايته وتدبير الجثّة ونقلها إلى حيث ينبغي أن تُنقل. وهم، بفعلهم هذا، كانوا كأنّهم يوافقونه على أنّ خليل المعلّم مات بسبب تقدّمه في السنّ، لا بسبب الضربة التي تلقّاها من سيّارة رياض. لقد كانوا يبحثون عن براهين جديدة تؤكّد لهم ما يرغبون فيه.
ذاك أنّ خليل المعلّم اكتسب في القرية شهرة لا يُحسَد عليها مَن يكتسبها: إنّه يصيب بالعين! فقد شاع بين أهالي القرية أنّه شوهد ينظر إلى عنقود عنب، لكنّ العنقود ما لبث أن سقط عن داليته أرضاً. وقيل عنه ما هو أسوأ وأخطر: حدّقَ في طفل فمرض الطفل ثمّ مات بعد يومين. بعدها صار كثيرون من أهل القرية يطلبون من صغارهم أن يختفوا من الطرقات التي يمرّ فيها: «إذا ظهر لكم فعودوا إلى البيت فوراً أو اسلكوا الزواريب أو اقفزوا نحو البساتين. المهمّ أن تبتعدوا عنه وعن عينيه القاتلتين».
والحال أنّ خليل كان معروفاً بطول تحديقه في الأشياء والبشر كما لو أنّه يستكشف تفاصيلهم الصغرى. أحياناً كان يتوقّف عن سيره ويروح ينظر طويلاً فيما يلفت أنظاره. هذا كان كافياً كي يؤكّد لمن يشاهدونه أنّ لخليل عيناً لا يقوى الأطبّاء على معالجة الأضرار التي تُنزلها بالآخرين.
شيءٌ آخر لم يعمل لصالحه. إنّه غموضه. فالرجل الذي تقدّمت به السنون لم يتزوّج. لقد عاش وحيداً في بيت منعزل عند أطراف القرية، بيتٍ لم يدخله أحد منذ تشييده قبل عشرات السنين. بين وقت وآخر كان خليل يشقّ الباب قليلاً كي يتناول من صبي الدكّان المجاور ربطة خبز أو دزينة بيض. أمّا حين يخرج هو من بيته فكانت تصحبه أناقة لا تكتم المهابة المشوبة بالعتوّ: دائماً ببذلة كحليّة وربطة عنق داكنة وحذاء مُلمّع كأنّه مرآة صغرى، وهذا ما كان يذكّرهم بأنّه من عائلة: «ذوات متكبّرين»، يبيع، كلّما احتاج إلى المال، قطعة أرض من تلك التي أورثه إيّاها أبوه الغنيّ. فخليل لم يعمل في حياته، ونادراً ما شوهد يتكلّم مع آخرين أو يخالطهم في مقهى أو يساهرهم في بيت. إنّه دائماً وحده بلا أصدقاء سوى الغموض المُستفِزّ.
أهل القرية تعاطفوا مع رياض وردّدوا القصّة كما رواها. لقد تظاهروا بأنّ رحيل خليل آلمهم فراحوا يكرّرون حَرفيّاً ما يقال في مناسبات الموت من الترحّم على الفقيد وتمنّي أن يكون موته خاتمة الأحزان. إلاّ أنّهم، في مكان عميق من نفوسهم، اعتبروا أنّ رياض خلّصهم من خطر محدق.
«كان يجب أن يموت»، عبارة قالها بشيء من الخفّة وليم سعادة الذي كانوا يسمّونه «مجنون الضيعة»، فبادر الآخرون إلى إسكاته فيما كانوا يتبسّمون له تبسّم المتواطئ.
تلك كانت المرّة الأولى التي يُعامَل فيها رياض بشيء من التكريم. لقد برّأوه من قتل خليل المعلّم لكنّهم، فوق هذا، بدأوا يكتشفون فيه فضائل لم تسترع انتباههم من قبل. فهو، حسبما جعلوا يقولون، «شابّ شهم» و«صاحب غيرة على أهل القرية»، نافِين عنه ما أشيع من أنّه مقامر وسكّير. وبدوره، صار رياض يمشي في القرية مشية طاووس بعد سنوات من الخجل والانطواء. فهو لم يُعرف باسم عائلي لأنّ أباه وفد من قرية أخرى وتزوّج من بنات القرية تلك الفلاّحة البسيطة التي صارت أمّه. ورياض، مثل أبيه، عمل سائقاً عموميّاً، فلم تُثر مهنتُه رغبة أي من شبّان القرية لتقليده.
لكنْ ما إن انقضى أسبوع حتّى وصلت إلى القرية جريدة نشرت مقالاً عن خليل. هكذا تجمّعوا أمام مقهى القرية، قريباً من الساقية التي سقط فيها، وبدأ أحدهم يقرأ بصوت مسموع. فأنْ تكتب الجرائد عن خليل بدا لهم أمراً مثيراً للاستغراب. إلاّ أنّ الاستغراب بلغ أوجه حين قرأوا أنّ خليل كان رسّاماً، وأنّه أقام في قبو بيته مَرسَماً كان يقضي فيه معظم وقته. لم يعرف القارئ وسامعوه كيف تسنّى لهذا الصحافي أن يتسلّل إلى قبو خليل وأن يشاهد لوحاته، لكنّهم أحسّوا بما يشبه قشعريرة البدن حين سُمعت من فم القارئ الفقرة التالية: «لقد رسم خليل المعلّم كلّ شيء وقعت عليه عيناه. رسم أهل قريته فرداً فرداً، كما رسم بيوتها وطبيعتها. كان يركّز عينيه طويلاً على ما يراه إلى أن يختزن في رأسه أدقّ تفاصيل صورته. عند ذاك، ينكفئ على نفسه في مرسمه ويرسم المشهد».
حين قتل رياض خليل المعلّم
قصة قصيرة
حين قتل رياض خليل المعلّم
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة