التحقيقات لعزل ترمب تهز صورة أميركا

يُتهم الديمقراطيون في الولايات المتحدة بأنهم، منذ اليوم الأول لفوز الرئيس الأميركي دونالد ترمب بسباق الرئاسة عام 2016، وضعوا نصب أعينهم مهمة إنهاء عهده بأي طريقة ممكنة.
بالطبع اتهام قد يكون له ما يبرّره، لأنه من غير المعهود في تاريخ التداول السياسي للسلطة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي أن تشتعل المواجهة بين الحزبين الخصمين على عهد بالكاد انطلقت عجلته. فالديمقراطيون لم ينتظروا تنصيب ترمب، في 20 يناير (كانون الثاني) عام 2017. لفتح ملف ما عُرِف بـ«التدخل الروسي» في الانتخابات الأميركية، إذ فُتِح عملياً خلال حملة الانتخابات نفسها، مع تصاعد الحديث عن تدخل روسيا لمساعدة ترمب على الفوز على منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، وطلب ترمب علناً من موسكو أن تنشر ما لديها من «أوساخ» بحقها، في ملف بريدها الإلكتروني، الذي عاد أخيراً ليكون إحدى أبرز القضايا التي ناقشها ترمب في مكالمته مع الرئيس الأوكراني، أو ما بات يُعرَف بـ«الفضيحة الأوكرانية».
دونالد ترمب الذي خاض واحدة من أغرب المعارك الانتخابية في تاريخ الرئاسة الأميركية، أثار منذ بدء تهجمه، الذي اتخذ طابعاً شخصياً حتى ضد منافسيه الجمهوريين، حفيظة الطبقة السياسية الأميركية بمجملها. وأجبر عشرات، بل ومئات من كبار الساسة والدبلوماسيين والعسكريين والمسؤولين الأميركيين، وبينهم نسبة كبيرة من الجمهوريين، على توقيع عرائض تحذّر من انتخابه رئيساً.
ترمب الذي بقي مهجوساً بانتخابات 2016، كانت عينه ولا تزال على انتخابات 2020، التي بدأ مهرجاناته الانتخابية من أجلها منذ اليوم الأول لتوليه السلطة. وثابر على حشد أنصاره في تجمعات جالت الولايات الأميركية، سواء تلك التي تميل للجمهوريين أو للديمقراطيين.
ومع مباشرة ترمب تنفيذ أجندته السياسية، عبر إعلان مواقفه العدائية من دخول المهاجرين، خصوصاً من أميركا الوسطى، وتوقيعه أمراً رئاسياً لحظر دخول مواطني سبع دول، غالبيتها من المسلمين، إلى الولايات المتحدة، وسياساته الانعزالية، وتشكيكه بجدوى الأحلاف والاتفاقات الدولية، فإنه مهّد عملياً للحديث المبكر عن احتمال عزله في حال نجح مناوئوه الديمقراطيون في استعادة السيطرة على «الكونغرس»، أو على الأقل على مجلس النواب، كما حدث بالفعل بعد الانتخابات النصفية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2018.
حظ ترمب العاثر قد يكون خدم معارضيه، عندما أُجبر على إقالة مستشاره الأول للأمن القومي مايكل فلين، بعد 20 يوماً على تعيينه إثر انكشاف كذبه أمام المحققين الفيدراليين في ملف روسيا. وسرعان ما تسارعت بعدها الأحداث، وأدّت إلى تعيين رئيس «إف بي آي» السابق، روبرت مولر، محققاً خاصاً في هذا الملف.
أكثر من سنتين ونصف السنة استغرقها تحقيق مولر. لكن ترمب أفلت من المحاسبة بعدما عجز مولر عن تقديم أدلة راسخة عن تواطؤ مباشر مع روسيا، ما أفقد الديمقراطيين فرصة اعتبروها ذهبية لإنهاء عهده.
وخاض الديمقراطيون مناقشات ومواجهات حادة منذ اليوم الأول لحصولهم على الغالبية في مجلس النواب، عام 2018، وخصوصاً مع رئيسة المجلس، نانسي بيلوسي، للاتفاق على عزل ترمب. وللعلم، اضطرت بيلوسي لخوض مساومات مضنية لضمان تأييد النواب الديمقراطيين لانتخابها رئيسة للمجلس، ولا سيما الشباب ومَن يُطلق عليهم لقب التقدميين، أمثال ألكسندريا أوكاسيو - كورتيز، وإلهان عمر، ورشيدة طليب، التي تعهَّدت في خطاب تسلمها منصبها بعزل ترمب.
بيلوسي لعبت دوراً رئيسياً في وقف الدعوات لعزل الرئيس، خصوصاً أن نتائج تحقيقات مولر كانت لا تزال بعيدة. لكن مع صدور تقريره وإشارته بشكل واضح إلى محاولات ترمب العديدة لعرقلة التحقيق، وإلى دور روسيا، عاد الحديث عن ضرورة البدء بإجراءات العزل للتصاعد بين النواب الديمقراطيين. وخاضت بيلوسي مناقشات صعبة لقلة اقتناعها بوجود أدلة دامغة، وتخوفها من انعكاس ذلك على انتخابات 2020، وسط استطلاعات رأي كثيرة كانت تشير إلى معارضة غالبية الأميركيين عزل الرئيس.

بيلوسي تنحاز للعزل
لكن يوم 25 يوليو (تموز) الماضي، وخلال مكالمة هاتفية لترمب مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، طلب منه مساعدته في فتح تحقيق بحق نائب الرئيس الديمقراطي السابق جوزيف بايدن، لم يعتقد ترمب أن تلك المكالمة قد تكون تحت رقابة «طبيعية» من قبل أمنيين يمنحهم القانون حماية عن الإبلاغ عما يمكن أن يعتبروه مخالفة أمنية أو دستورية. ويوم 23 سبتمبر (أيلول) أعلنت بيلوسي فتح تحقيق رسمي بهدف عزل الرئيس المشتبه بانتهاكه الدستور، عبر السعي للحصول على مساعدة دولة أجنبية لإيذاء خصمه الديمقراطي.
بيلوسي رأت أن «تصرفات رئاسة ترمب كشفت عن الحقائق الشائنة لخيانة الرئيس لقسمه، وخيانته لأمننا القومي، وخيانته لنزاهة انتخاباتنا». وأضافت: «لذلك أعلن اليوم أن مجلس النواب يفتح تحقيقاً رسمياً لعزل الرئيس... فما من أحد فوق القانون».
وفي غضون أيام، ارتفع عدد الأميركيين الذي يؤيدون إدانة ترمب، ليصل إلى 55 في المائة، مقابل 45 في المائة، وفقاً لآخر استطلاع أجرته شبكة «سي بي إس»، وحتى استطلاع شبكة «فوكس» المفضلة لدى ترمب، أظهر أن 52 في المائة من الأميركيين «مرهقون» بسبب ترمب، ويتطلعون إلى رحيله، مقابل 37 في المائة ما زالوا ينظرون بإيجابية إلى عهده.
حاجة ترمب الجامحة للحصول على ما قد يعينه في انتخابات 2020، خصوصاً أمام خصم يمكن أن يشكل له تهديداً حقيقياً مثل بايدن، سواء في أوساط الطبقة السياسية التقليدية، أو لدى كبار المتمولين وجماعة «وول ستريت»، أو في أوساط القاعدة الشعبية البيضاء، أوقعه في خطأ قد يكون مكلفاً جداً له، وأعاد علاقته المتوترة أصلاً مع «مجتمع» الاستخبارات إلى المربع الأول.

ترمب والأجهزة الأمنية
جدير بالذكر أن تحقيقات مولر اعتمدت أصلاً على تقارير الاستخبارات الأميركية التي أجمعت أجهزتها الثلاثة الكبرى، «سي آي إيه» و«إف بي آي» و«إس إن إيه»، على تدخّل روسيا، ووضعت ترمب في دائرة التشكيكين، السياسي والأمني في أهليته كرئيس لأميركا. وحول «الفضيحة الأوكرانية» كتب المُخبِر - الذي قيل إنه أحد ضباط «السي آي إيه» - تقريراً من 9 صفحات، يتهم فيه الرئيس بأنه أساء استخدام صلاحياته بطريقة سافرة، خلال مكالمته الهاتفية مع الرئيس الأوكراني، ورفعه إلى رئيس وكالات الاستخبارات الوطنية بالوكالة، جوزيف ماغواير، الذي رفعه بدوره في أواخر أغسطس (آب) الماضي إلى وزير العدل ويليام بار كجريمة محتملة، إلا أن بار (وهو جمهوري) خلص إلى أن السلوك لم يكن جرمياً.
حقاً، أظهر نص المكالمة الذي سمح ترمب بنشره يوم الأربعاء في 25 سبتمبر الماضي، أنه طلب بالفعل من زيلينسكي العمل مع المدعي العام الأميركي للتحقيق في سلوك بايدن، وعرض مقابلته في البيت الأبيض، بعدما وعده بإجراء مثل هذا التحقيق. كذلك أظهر النص أنه طلب من الحكومة الأوكرانية التعاون مع محاميه الخاص رودي جولياني ووزير العدل بار في التحقيق بالخادم الإلكتروني الذي قيل إنه موجود في أوكرانيا واخترقته روسيا للحصول على معلومات عن بريد كلينتون الإلكتروني، واللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي. وبحسب النص، قال ترمب: «أود أن أطلب من المدعي العام أن يتصل بك أو بجماعتك وأرغب في أن نصل إلى النهايات»، ويضيف لاحقاً: «هناك الكثير من الحديث عن ابن بايدن (هنتر بايدن)، وأن بايدن أوقف المحاكمة، وأن كثيراً من الناس يرغبون في معرفة ذلك، لذا فإن كل ما يمكنك القيام به مع النائب العام سيكون رائعاً. أعلن بايدن بفخر أنه أوقف النيابة العامة، إذا كان بإمكانك النظر في ذلك، فسيكون الأمر فظيعاً بالنسبة لي».
هنا نشير إلى أن هنتر بايدن عمل في شركة أوكرانية حُقق فيها بتهم الفساد، لكن التحقيقات لم تجد أدلة ضده. وإبان الفترة التي أعقبت الثورة الأوكرانية، وحين كانت أوكرانيا بحاجة إلى مساعدات من الولايات المتحدة وأوروبا ومؤسسات أخرى، طلبت حكومات هذه الدول، ومن بينها إدارة الرئيس باراك أوباما، من الحكومة الأوكرانية إجراء إصلاحات إدارية وسياسية، شملت التخلص من المدعي العام آنذاك المعروف بفساده.
وقام جوزيف بايدن بنقل هذا الموقف لأوكرانيا، وأظهرت التحقيقات القضائية أن بايدن الأب وابنه هنتر لم يرتكبا أي جرم أو انتهاك لأي قانون أوكراني أو أميركي.

أزمة سياسية كبرى
هكذا تحولت القضية إلى أزمة سياسية حقيقية، ليس فقط للرئيس ترمب، بل وللحزب الجمهوري، الذي سيطر الصمت الفعلي على رموزه في الدفاع عن الرئيس، رغم الأصوات الخجولة التي تصدر بين الحين والآخر من أشد مناصريه ولاءً، وعلى رأسهم السيناتور ليندسي غراهام.
حتى دفاع وزير الخارجية مايك بومبيو وانتقاداته الحادة التي صدرت أخيراً ضد لجان التحقيق الثلاث، التي طلبت منه تسليمها وثائق تتعلق بالتحقيق الذي أطلقه مجلس النواب رسمياً، لم ينجح في الحد من تصاعد عدد المؤيدين للمضي في قرار عزل الرئيس. ومع اعتراف بومبيو بأنه كان حاضراً خلال المكالمة الهاتفية، فإنه ضُمّ إلى قائمة المتهمين بمحاولة التستر على الرئيس، التي تشمل أيضاً وزير العدل بار، ومحامي ترمب الشخصي جولياني.
بومبيو شكك في أن تكون صلاحيات اللجان النيابية الثلاث تخوّلها استدعاء دبلوماسيين أو طلب الحصول على وثائق منهم. وكانت لجنة التحقيق استدعت بومبيو لتقديم وثائق مرتبطة بالتواصل مع أوكرانيا، وهي تسعى إلى الاستماع إلى خمسة دبلوماسيين، بينهم سفيرة الولايات المتحدة لدى أوكرانيا، ماريا يوفانوفيتش، بالإضافة إلى كورت فولكر، الموفد الخاص إلى أوكرانيا.
غير أن بومبيو أعلن أن الدبلوماسيين لن يستجيبوا لطلب المثول أمام لجان الخارجية والاستخبارات والرقابة على السلطة التنفيذية، الأسبوع المقبل. وأشار، في رسالة إلى الكونغرس، إلى أن الإدارة جاهزة للجوء إلى القضاء، متهماً اللجان بمحاولة ترهيب والإساءة إلى مهنيين متميّزين في وزارة الخارجية.
وبدوره، اتهم جولياني رؤساء اللجان الثلاث بإطلاق «أحكام مسبقة» في القضية. وقال رداً على استدعائه إنه «يثير تساؤلات كبيرة فيما يتعلّق بشرعيته ودستوريته وقانونيته»، ولمح إلى أنه قد لا يمتثل للاستدعاء. هذا، وتطالب اللجان جولياني، وهو رئيس سابق لبلدية نيويورك، بتقديم وثائق مرتبطة بـ«جهود كلفه بها ترمب لممارسة ضغوط على الرئيس الأوكراني».

ترمب يصعد هجومه
حتى الآن، مواقف الإدارة تشير إلى أنها تعد للمواجهة، ثم إن ترمب وإدارته صعّدوا الهجوم على النائب الديمقراطي آدم شيف، رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب، الذي يقود التحقيق لعزله، وطالب بتوقيفه. وقال الرئيس في تغريدة على «تويتر» إن على شيف الاستقالة لأنه «لفّق بياناً على لسان رئيس الولايات المتحدة، وقرأه أمام (الكونغرس)». وحذر في تغريدة أخرى من أن ما يجري هو «انقلاب يهدف إلى الاستيلاء على سلطة الشعب الأميركي».
ومن جانبه، حذر شيف كلاً من البيت الأبيض من محاولة المماطلة في التحقيقات، والوزير بومبيو من محاولة التدخل لمنع الشهود من المثول أمام اللجنة، وأكد أن تلك المحاولات ستُعتبر إعاقة لعمل الكونغرس ودليلاً على أن الادعاءات التي وردت في شكوى المُخبِر صحيحة.
والآن، رغم أن حظوظ إقالة ترمب لا تزال ضعيفة، نظراً إلى أن قرار العزل في يد مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون، لكن نجاح الديمقراطيين في إثبات خرقه للدستور والتصويت على عزله، قد يكون كافياً، ليس فقط لخسارته انتخابات 2020، بل وإمكانية خسارة الجمهوريين مجلسي الشيوخ والنواب معاً للانتخابات العامة أيضاً.

صورة أميركا ستهتزّ
في أي حال، ترمب الذي يتهم بإدارة البلاد كشركة خاصة، يعتمد على جهاز إداري غير مكتمل حتى الآن ولا يستطيع مساءلته، فخلال أقل من ثلاث سنوات عين ترمب أربعة مستشارين للأمن القومي، ووزيري دفاع ووزيري خارجية. ومرّت أشهر كثيرة بقيت فيها مناصب بارزة، أمنية وسياسية، شاغرة يديرها وكلاء مؤقتون، كالحال الآن مع منصب مدير الاستخبارات الوطنية.
ودولياً، يعتقد كثيرون من المراقبين أن إخضاع ترمب للمحاكمة، سيزيد من وتيرة «الانسحاب» الأميركي من العالم، ولا سيما من الشرق الأوسط وجنوب آسيا. ومع أن ترمب جاهر بذلك حتى قبل «فضيحة أوكرانيا»، قد تؤدي محاكمته إلى انحسار نفوذ واشنطن المنشغلة بقضاياها الداخلية.
ويتخوف البعض من أن ينعكس ذلك على ملفات ساخنة، منها إيران وكوريا الشمالية، واحتمال لجوء ترمب إلى تسويات سريعة معهما، أو تخليه عن مبادرات سياسية، كالتوسط لحل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
أيضاً، يعتقد البعض أن فشل وساطة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لعقد لقاء بين ترمب والرئيس الإيراني حسن روحاني في نيويورك، يعود في جانب منه إلى إدراك الأخير المأزق الذي دخله الرئيس الأميركي بعد إطلاق التحقيقات لعزله، وتأجيل طهران تقديم التنازلات مقابل رفع العقوبات عنها.
وأكد روحاني، قبل أيام، أن طهران تدرس مقترحات جدية للعودة إلى المفاوضات، بيد أن الرهان على احتمال أن يعمد ترمب إلى فتح نزاعات خارجية، واستخدام القوة للتغطية على قضية عزله، يدحضه تراجعه عن تهديداته في اللحظة الأخيرة، بسبب معارضته للحرب، وخوفاً من نتائجها على قاعدته الشعبية التي كان وعدها بإنهاء التورط في حروب لا تنتهي.
ولكن يبقى أن الكشف عن مضمون اتصالات «رئيس أقوى دولة في العالم» برئيس أوكرانيا، يشكل سابقة خطيرة تجعل قادة العالم يتخوفون من تكرارها. ويطرح البعض تساؤلات عن مدى قدرة الولايات المتحدة على التصدي للأزمات الطارئة في عالم يمرّ بظروف خطيرة، مع انغماس إدارتها في أزمة داخلية كبرى، ما قد يؤدي إلى إضعاف صورتها وصورة رئيسها المهدد بالمحاكمة.