رائد الفضاء الإماراتي يحط رحاله على الأرض بعد رحلة ناجحة للمحطة الدولية

هزاع المنصوري أجرى 16 تجربة علمية في 8 أيام

صورة وزعها مركز محمد بن راشد للفضاء للكبسولة التي هبط بها المنصوري إلى الأرض ... وأخرى لعودة المنصوري مع زميلين له إلى الأرض
صورة وزعها مركز محمد بن راشد للفضاء للكبسولة التي هبط بها المنصوري إلى الأرض ... وأخرى لعودة المنصوري مع زميلين له إلى الأرض
TT

رائد الفضاء الإماراتي يحط رحاله على الأرض بعد رحلة ناجحة للمحطة الدولية

صورة وزعها مركز محمد بن راشد للفضاء للكبسولة التي هبط بها المنصوري إلى الأرض ... وأخرى لعودة المنصوري مع زميلين له إلى الأرض
صورة وزعها مركز محمد بن راشد للفضاء للكبسولة التي هبط بها المنصوري إلى الأرض ... وأخرى لعودة المنصوري مع زميلين له إلى الأرض

عاد رائد الفضاء الإماراتي هزاع المنصوري إلى الأرض بنجاح بعد ختام رحلته إلى محطة الفضاء الدولية، وذلك على متن مركبة «سويوز إم إس 12» والتي حملت أيضاً رائدي الفضاء الأميركي نيك هيغ، والروسي أليكسي أوفشينين، عقب ثمانية أيام أجرى خلالها المنصوري مجموعة من التجارب العلمية المكثفة، حيث هبطت المركبة في منطقة سهلية جنوب شرقي مدينة جيزكازجان في كاراغندا، وسط كازاخستان، عند تمام الساعة الثانية و59 دقيقة بتوقيت الإمارات من بعد ظهر أمس.
وكشف مركز محمد بن راشد للفضاء عن تفاصيل رحلة العودة والتي بدأت بإغلاق مدخل مركبة «سويوز إم إس 12» في تمام الساعة الثامنة وعشرين دقيقة بتوقيت دولة الإمارات من صباح الخميس 3 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري؛ وبعد إجراء فحوصات التأكد من عدم وجود أي تسرب، أُعطيت إشارة الجهوزية التامة، وانفصلت المركبة عن المحطة في تمام الساعة 11 و37 دقيقة صباحاً، متخذة مسارها في اتجاه الأرض.
وقال الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الإمارات رئيس الوزراء حاكم دبي «نحمد الله على وصول ابن الإمارات هزاع المنصوري سالماً للأرض بعد أول رحلة لرائد فضاء عربي لمحطة الفضاء الدولية، فخورين بالإنجاز، وفرحين بالمعرفة والخبرة التي اكتسبناها... ومتفائلين بالطريق الجديد الذي فتحناه لأجيالنا نحو الفضاء».
من جهته قال الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة «الحمد لله على عودة هزاع المنصوري سالما إلى الأرض بعد رحلة ناجحة إلى محطة الفضاء الدولية، نبارك لشعب الإمارات هذا الإنجاز التاريخي، ماضون بعزم أبناء زايد لتحقيق طموحنا للوصول إلى المريخ».
وقال حمد المنصوري رئيس مجلس إدارة مركز محمد بن راشد للفضاء «اليوم وبكل فخر نستقبل سفير الإمارات في الفضاء، هزاع المنصوري، عائداً إلى الأرض حاملاً نتائج تجارب علمية مهمة للبشرية والمجتمع الدولي، أجراها على متن محطة الفضاء الدولية؛ ليفتح الطريق أمام الشباب العربي لآمال وأحلام جديدة في هذا القطاع».
من جانبه، قال يوسف الشيباني مدير عام مركز محمد بن راشد للفضاء: «نعيش اليوم لحظات تاريخية مضيئة في الإمارات، بعودة أول رائد فضاء إماراتي، سالماً إلى الأرض، ونثبت أننا قادرون على تحويل أحلامنا إلى واقع؛ ليس هذا فحسب بل قادرون على إحياء النهضة الحضارية بالعالم العربي، ونؤكد أنه لا حدود لطموحات وتطلعات أبناء الإمارات في أي زمان ومكان».
وقال المهندس سالم المري مدير برنامج الإمارات لرواد الفضاء: «اليوم نرى أهداف برنامج الإمارات لرواد الفضاء تتحقق بعودة أول رائد فضاء إماراتي سالماً إلى الأرض، متسلحاً بخبرة عملية حول المهمات المأهولة للفضاء. ستساعد هذه الخبرة في بناء قدرات الأجيال القادمة من المهتمين في قطاع الفضاء، مما يضمن استدامة البرنامج».
وعاد هزاع المنصوري على متن مركبة «سويوز إم إس 12»، التي تتكون من «الوحدة المدارية» و«وحدة الالتحام» و«وحدة الهبوط»؛ حيث رافقه خلال رحلة العودة، رائدا الفضاء الروسي أليكسي أوفتشينين والأميركي نيك هيغ، الموجودان في المحطة منذ مارس (آذار) الماضي.
وأجرى رائد الفضاء الإماراتي هزاع المنصوري 16 تجربة علمية بالتعاون مع شركاء دوليين، بينها 6 تجارب على متن محطة الفضاء الدولية في بيئة الجاذبية الصغرى وهي بيئة منعدمة الجاذبية تقريباً؛ لدراسة تفاعل المؤشرات الحيوية لجسم الإنسان في الفضاء مقارنة بالتجارب التي أجريت على سطح الأرض، ودراسة مؤشرات حالة العظام، والاضطرابات في النشاط الحركي، والتصور وإدراك الوقت عند رائد الفضاء، إضافة إلى ديناميات السوائل في الفضاء، وأثر العيش في الفضاء على البشر، وهذه المرة الأولى التي يتم فيها هذا النوع من الأبحاث على شخص من المنطقة العربية.
وتضمنت المهمة تجارب من مدارس الإمارات، شاركت في إجرائها على الأرض نحو 16 مدرسة من البلاد بوجود رائد الفضاء الإماراتي هزاع المنصوري في المرحلة الأولى؛ وقد أجراها خلال فترة المهمة في بيئة منعدمة الجاذبية تقريباً على متن المحطة.
وأجرى عدة جلسات تواصل عبر الفيديو وموجات اللاسلكي؛ حيث شارك في الجلسات عدد كبير من طلاب المدارس من مختلف إمارات الدولة. وكانت الجلسات فرصة للمشاركين لطرح العديد من الأسئلة المتنوعة التي أجاب عنها هزاع حول الحياة على متن محطة الفضاء الدولية.
وسجل رائد الفضاء الإماراتي، هزاع المنصوري، أول جولة تعريفية مصورة باللغة العربية لمحطة الفضاء الدولية؛ حيث شرح مكونات المحطة والأجهزة والمعدات الموجودة على متنها، إضافة إلى نبذة عن حياة رواد الفضاء اليومية على متن المحطة. كما سجل «المنصوري» عدة فيديوهات قصيرة توثق الحياة على متن محطة الفضاء الدولية ومكوناتها، إضافة إلى الأنشطة التي يقوم بها رواد الفضاء، وتسجيل يومياته لمدة 15 دقيقة كل يوم.
وأطلع رائد الفضاء الإماراتي هزاع المنصوري زملاءه من رواد الفضاء الموجودين على متن المحطة على أبرز العادات والتقاليد الإماراتية، وقدم لهم 3 أطباق إماراتية، إذ تولّت شركة «مختبر أطعمة الفضاء» الروسية تجهيز هذه الأكلات للفضاء حيث يتم تحضير الأطعمة المخصصة لرواد الفضاء وفق متطلبات محددة لتوفير التغذية المتوازنة وفي نفس الوقت ضمان سهولة حملها وتخزينها واستخدامها في بيئة منعدمة الجاذبية تقريباً.
وقرأ هزاع المنصوري قصتين للأطفال بعنوان أمل وخليفة، في خطوة من شأنها إثارة شغف الأجيال الجديدة وإعطاءها الحافز على التميز المعرفي وإطلاعها على مجال جديد، وأرسل «المنصوري»، عدداً من مقاطع الفيديو والصور، التي التقطها لكوكب الأرض، إضافة إلى صور التقطها للإمارات من الفضاء، وأظهرت الصور التي استقبلها فريق المحطة الأرضية في مركز محمد بن راشد للفضاء في دبي، عدداً من الدول العربية في شمال أفريقيا، ومصر، والسعودية بما في ذلك مكة المكرمة.


مقالات ذات صلة

تكنولوجيا تظهر هذه الصورة غير المؤرخة المقدمة من شركة «فايرفلاي آيروسبايس» مركبة الهبوط القمرية «بلو غوست ميشين» المجمعة بالكامل (أ.ف.ب)

شركة أميركية خاصة سترسل قريباً مركبة إلى القمر

سترسل شركة «فايرفلاي آيروسبايس» الأميركية مركبة فضائية إلى القمر في منتصف يناير.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
علوم الذكاء الاصطناعي نجح في إنجاز محرك صاروخي متطور في 3 أسابيع

الذكاء الاصطناعي نجح في إنجاز محرك صاروخي متطور في 3 أسابيع

نجح الذكاء الاصطناعي في تصنيع محرك صاروخي متطور بالطباعة التجسيمية.

جيسوس دياز (واشنطن)
يوميات الشرق رسم توضيحي فني لنجم نيوتروني ينبعث منه شعاع راديوي (إم تي آي نيوز)

كشف مصدر إشارة راديو غامضة سافرت 200 مليون سنة ضوئية لتصل إلى الأرض

اكتشف علماء انفجاراً راديوياً غامضاً من الفضاء عام 2022، وقع في المجال المغناطيسي لنجم نيوتروني فائق الكثافة على بُعد 200 مليون سنة ضوئية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق يتم رصد القمر وكوكب الزهرة في السماء فوق المجر (إ.ب.أ)

هواة مراقبة النجوم يشهدون كوكب الزهرة بجانب الهلال

يبدو أن شهر يناير (كانون الثاني) سيكون شهراً مميزاً لرؤية الظواهر السماوية النادرة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)