تجمع الفرنسيون بكثافة، أمس، أمام مدخل كنيسة سان لويس في قصر «الأنفاليد»، من أجل إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على الرئيس الأسبق جاك شيراك الذي سجي جثمانه داخلها بعد ظهر الأحد. وتحت سماء ممطرة، انتظروا بهدوء وصمت، وبينهم كثير من الشبان الذين تراصوا صفوفاً، احتراماً وتكريماً لذكرى رجل ترك الحياة السياسية، وابتعد عن الحياة العامة منذ خروجه من قصر الإليزيه في عام 2007. وكثير من هؤلاء لم يعرفوا شيراك رئيساً، ولا المعارك السياسية التي خاضها منذ أن دخل المعترك السياسي في الستينات، إلى جانب الرئيس الأسبق جورج بومبيدو.
وخلال حياته السياسية الطويلة، عاش شيراك نعمة الحكم، كما ظلمة المعارضة وضعف الولاءات. وكانت التجربة الأكثر إيلاماً بالنسبة إليه عندما «خانه» رئيس الوزراء إدوار بالادور، الذي يدين له بالوصول إلى رئاسة الحكومة، لكنه لم يتردد في الترشح ضده في الانتخابات الرئاسية لعام 1995، بعد أن وجد أن استفتاءات الرأي العام تجعله متقدماً عليه. لكن شيراك، الرجل المحنك، الذي كان في زمنه الوزير الأصغر سناً، والذي شغل منصب رئاسة الحكومة مرتين، وكان عمدة لمدينة باريس طيلة 17 عاماً، ونائباً طيلة عقود، عرف كيف يقاوم تيار بالادور، ويركب الموجة الواعدة، ليفوز برئاسة الجمهورية مرة أولى لسنوات سبع، ثم مرة ثانية في عام 2002 لولاية من خمس سنوات.
ودأبت برناديت شيراك، أرملة الرئيس الراحل، أيام رئاسته، على القول إن الفرنسيين «لا يحبون زوجها». والحال أن ما أظهره هؤلاء، كباراً وصغاراً، يأتي بالتكذيب القاطع لأقوالها. فمنذ صبيحة الخميس، توافد الفرنسيون إلى محيط منزل عائلة شيراك، في الدائرة السادسة من باريس، ثم إلى قصر الإليزيه، لتسجيل كلمة وداع في السجلات الذهبية التي أمر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بفتحها، وأخيراً تجمهروا في قصر الأنفاليد. ومنذ الخميس، أعلن ماكرون اليوم (الاثنين) يوم حداد وطني، وقد نكست الأعلام، وأعلنت أكثر من هيئة ومدينة عزمها على تكريم الرئيس الراحل. كذلك، فإن الإعلام الفرنسي، بمكوناته المكتوبة والسمعية - البصرية كافة، إضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، كرس وقتاً طويلاً ومساحات كبيرة للرئيس الراحل، ولحياته وشخصيته وسياساته وعلاقاته الدولية ومواقفه التي تذكر له.
ولم تتوقف الأمور عند الداخل الفرنسي. فشيراك الذي صال وجال في العالم، كانت له صداقات عربية وأفريقية ودولية. واليوم، ستشهد باريس حشداً من رؤساء الدول والحكومات يربو عددهم على الثلاثين. وقد حرص صهر شيراك على التأكيد، أول من أمس، أن القادة الحاضرين جاءوا برغبة منهم، وأن العائلة «أو الرئاسة» لم توجه أي دعوة لحضور مراسم الدفن البروتوكولية التي ستحصل اليوم على دفعتين: الأولى في كنيسة سان لويس وباحة قصر الأنفاليد، والثانية في كنيسة سان سوبليس، قبل أن ينقل الجثمان إلى مقبرة مونبارناس، ويدفن إلى جانب ابنته لورانس التي توفيت في عام 2016، وكانت حتى غيابها الجرح النازف لعائلة شيراك بسبب مرضها المزمن.
والواقع أن شعبية شيراك وصلت إلى حدودها القصوى - وهنا المفارقة - منذ خروج الرئيس الأسبق، الذي خاض في حياته أكثر من معركة سياسية، من السلطة. والمفارقة أيضاً أن الفرنسيين متعلقون بشيراك الرجل الإنساني والسياسي البسيط المتواضع المحب للناس، أكثر من تعلقهم بشيراك رجل الدولة، رغم أنه كانت للأخير مواقف في الداخل والخارج ما زالت عالقة في أذهان مواطنيه. ومن أبرزها على الإطلاق وقوفه ضد الحرب في العراق عام 2003، ودعوته إلى المحافظة على البيئة، وقوله الشهير: «منزلنا يحترق، ونحن ننظر في اتجاه آخر». كذلك، فإن شيراك أراد أن يكون الرئيس الذي يدافع عن الضعفاء، وهو ما برز في مواقفه من القضية الفلسطينية، وانتقاده الاستيطان الإسرائيلي وبناء حائط الفصل، وحمايته للرئيس ياسر عرفات، ومواقفه في القدس خلال زيارة رسمية في عام 1995. وأراد شيراك أن يكون صديقاً لأفريقيا التي جال فيها طولاً وعرضاً، وطلب في قمة جوهانسبرغ عام 2002 محو ديون الدول الأفريقية، كذلك لم يتردد في التدخل عسكرياً في يوغوسلافيا. ولا يمكن تناسي محاولة شيراك إعادة إحياء «سياسة فرنسا العربية»، ووقوفه الدائم إلى جانب لبنان، والدور الذي لعبه في إخراج القوات السورية من هذا البلد بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في فبراير (شباط) من عام 2005. وكان شيراك أول رئيس دولة يزور نيويورك بعد اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول)، وأرسل قوات فرنسية إلى أفغانستان إلى جانب القوات الأميركية. ويُعرف عن الرئيس الأسبق احترامه العميق للحضارات غير الأوروبية، خصوصاً الأفريقية والآسيوية، وحرصه على إنشاء متحف خاص بها، هو متحف «الفنون الأولى» المطل على نهر السين في باريس.
لكن الفرنسيين سيذكرون لشيراك تمسكه بالإرث الديغولي، ومحاولته إبقاء فرنسا سيدة قراراتها السياسية، وعدم التحول إلى تابعة للسياسة الأميركية، وهو ما برز في الملفين العراقي والفلسطيني وملفات أخرى. لكن مقابل ذلك، يؤخذ على شيراك قراره العودة إلى القيام بتجارب نووية في الممتلكات الفرنسية في المحيط الهادئ منذ وصوله إلى الرئاسة، الأمر الذي آثار انتقادات في داخل فرنسا وخارجها.
لا أحد يجهل مدى اهتمام الوسائل الإعلامية بإجراء استطلاعات للرأي حول المواضيع كافة. ولم تشذ مجلة «جي دي دي» عن القاعدة، لأنها أجرت استفتاء حول شخصية شيراك، وموقعه في تاريخ الرئاسة الفرنسية. وتفيد النتائج بأن شيراك ينظر إليه على أنه «أفضل رئيس» للجمهورية الفرنسية الخامسة، بالتساوي مع الجنرال شارل ديغول، بطل فرنسا الحرة ورئيس جمهوريتها لولاية ونصف، بوصفه فضل الاستقالة بعد أن خيب الفرنسيون أمله بالتصويت ضد الاستفتاء الذي أجراه في عام 1968. وبذلك يكون الفرنسيون قد «كرسوا» رئيسهم الأسبق، بأن رأوا فيه «رجلاً يشبههم»، بخصاله ونقاط ضعفه الكثيرة. والواضح أنهم يريدون تناسي هذه النقاط، والتركيز فقط على الصفحات المضيئة في سجل هذا الرجل الحافل.
حضور دولي لافت في تشييع جاك شيراك
الفرنسيون يرون في الرئيس الأسبق صنواً للجنرال ديغول
حضور دولي لافت في تشييع جاك شيراك
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة