أفلام ناقدة تواجه متاعب العراقيين في المنفى

ينجزها مخرجون طموحون

TT

أفلام ناقدة تواجه متاعب العراقيين في المنفى

يُضيف فيلم «بغداد في خيالي» للمخرج العراقي سمير جمال الدين رقماً إلى عدد متزايد من الأفلام التي تتطرق لحياة العراقيين في الخارج. ليست الحياة بمعناها الفسيح ولا تلك التي تقصد الإلمام بقصص النجاح على سبيل المثال، بل تلك التي تعنى، وعلى نحو مفهوم، بالواقع المعاش بين العراقيين، سواء كانوا أفراداً أو جماعات، في الغرب الذي رحلوا إليه هرباً من نظام سابق ومن آخر تلاه وانتظاراً لنظام لاحق.
ذلك الواقع الذي من بين عناصره اللجوء إلى حيث يستطيع الفرد استنشاق نسيم الحرية ذاته الذي يستنشقه كل الذين يشاركونهم الحياة في المدن الأوروبية التي لجأووا إليها. هذا ليس شأنهم فقط، بل شأن عرب آخرين رحلوا عن بلادهم التي لم تستطع تأمين رغباتهم بالحرّية أو هربوا منها حفاظاً على أرواحهم.
«بغداد في خيالي» (له عنوان يختلف قليلاً بالإنجليزية هو Bagdad in My Shadow)، هو فيلم آخر للمخرج الذي ينتج ويخرج من دون توقف ظاهر، والذي يكتفي، في مطلع الفيلم، بذكر اسمه الأول سمير. أمّا اسمه الكامل فعليك انتظار وروده في البطاقة الفنية التي تلي المشهد الأخير.
هو بدأ العمل مساعدا لمدير التصوير في فيلم سويسري سنة 1985 وفي العام 1988 اختار الإخراج وقدّم من كتابته وإنتاجه أيضاً فيلماً درامياً بعنوان «فيلو»، ثم اتجه، بعد سنوات قليلة، صوب إخراج الأفلام التسجيلية بدءاً بفيلم «بابل 2» (1993)، وكل هذه الأعمال المذكورة تعاملت مع مواضيع غير عراقية. لكن هذا المنوال تغير عندما أخرج فيلمه التسجيلي «إنس بغداد: يهود وعرب» الذي عمد فيه إلى طرح الصورة النمطية التي مارستها السينما طوال تاريخها حول العرب واليهود.
عُرض هذا الفيلم في مهرجاني لوكارنو وزيوريخ وخرج منهما بجائزتين (جائزة النقاد في لوكارنو وجائزة أفضل فيلم في زيوريخ). كل ذلك وهو لم يتوقف عن الإنتاج وصولاً إلى سنة 2014 عندما أخرج فيلمه التسجيلي «أوديسا عراقية»، الذي دار في نحو 162 دقيقة عن هذا الشتات العراقي الموزّع ما بين كندا وسويسرا وبريطانيا ودول أخرى. في هذه البانوراما تعامل المخرج مع ذكرياته مباشرة ومع ذكريات أفراد عائلته التي توزّعت فوق تلك الربوع.
في الفيلم ذلك البذل الكبير والدقيق الذي صرفه المخرج لتحقيق هذا العمل، تأليفاً وتشكيلاً وكجمع للمعلومات ثم لتنفيذ هذا الكم الكبير من الساعات المصوّرة سواء أكانت مقابلات أو لقطات إضافية خاصّـة بالفيلم ثم مزجها (بتوليف جيّـد أشرفت عليه صوفي برونر) بالمواد الوثائقية المستخدمة بدقة لا يعيبه سوى عدم قدرته على التخلّص من نصف ساعة أو نحوها رغم أنّ الإمكانية متوفرة.
ينطلق سمير من التعريف بأقاربه المنتشرين حول العالم: ستة أعمام، عشرون ولدا من أولاد العم وخمسة أشقاء، ثم يتابع ما حدث لخمسة من أقاربه الذين تركوا العراق على مراحل والكل إلى بلد مختلف. في كشفه لما حدث لأفراد العائلة وأقاربها يتابع المخرج بمقابلاته كل ما يجسد الحرمان والتشتت وهو إذ يفعل ذلك يفتح دفاتر الجميع وتواريخهم الخاصّـة، فإذا بالمشاهد أمام حشد من الشّخصيات التي تعاطت مع السياسة على نحو حثيث ما عرّضهم لنقمة المسؤولين في العراق و- أحياناً - خارجه.
ولا ينسى، في غمار ذلك، الكشف عن تجارب إنسانية متواصلة مؤلمة ولو أنّ المخرج لا يسعى، تحديداً، لمعالجة عاطفية. يسبر المخرج غور التاريخ العراقي الحديث منتقداً غياب الحريّـة والنزعة للسُـلطة. تعليق المخرج واف وهادئ لكن معظم نقده يذهب في اتجاه نظام صدّام حسين ولو أنّه يشي بأنّ من خلفه يمارس أساليب الرئيس الراحل على نحو أو آخر.

- بغداد في لندن
في «بغداد في خيالي» ينتقل إلى جانب آخر من الموضوع المؤرق. الفيلم هو دراما اجتماعية عن عراقيين يعيشون في لندن منذ أجيال. كلهم هربوا من النظام الأسبق محمّلين بتبعات مختلفة. يفتح الفيلم على توفيق (هيثم عبد الرزاق) وهو يتعرض للتحقيق في بغداد بتهمة انتمائه للحزب الشيوعي. لا التحقيق فحسب بل للتعذيب. في لندن، نراه يتجه، بعد سنوات، إلى مبنى البوليس في بادينغتون، حيث يتطوّع لتسليم نفسه بعدما قتل عراقياً آخر تسلل من تبعات ذلك النظام إلى لندن بأجندة انتقامية تشمل زوجته السابقة أمل (زهراء غندور) والتجسس على الجالية العراقية المحيطة بها.
ذلك العراقي، واسمه ياسين (فريد الوردي)، بعثي يعلن أنّه «الملحق الثقافي العراقي»، لكن منصبه قد يكون مزوّراً كمبادئه التي تعلن عن نفسها مع استمرار الفيلم. لجانب التجسس على الجالية، التي تضمّ زبائن مقهى باسم «أبو نوّاس» وصاحبته والعاملين فيه، التقرّب من شيخ (يتحدث لهجة غير عراقية لحثه على قتل أمل المرتبطة الآن بعلاقة عاطفية مع شاب اسمه مارتن (أندرو بيوكان). كذلك قتل عامل المقهى ذاته (حيث تعمل أمل أيضاً) لكونه مثلي الهوى. ضمن من استطاع الإمام استحواذ ولائهم واستخدامهم شاب اسمه نصير (شيروين النبي) هو ابن شقيقة توفيق.
الفيلم يدور مع هذه المجموعة من العراقيين وما يجاورها من بيئتين متناقضتين: عراقية محمّلة بتبعات نُظمها وبريطانية منفتحة لا تستطيع أن تفهم كنه الثقافة التي حملها العراقيون معهم إلى البلاد ولا يستطيعون التخلي عنها.
ينتقل المخرج من التحقيقات التي تدور مع توفيق لقيامه بقتل ياسين، إلى خطوط سرد أخرى تقفز أحياناً بين الأزمنة لتستعرض علاقات ما قبل الهجرة. مثل هذا السرد يتطلّب بذلاً كبيراً في الكتابة وفي التنفيذ والمخرج لا يبخل على ذلك، لكنه أيضاً مطب لاذع إذا كانت الحبكة الماثلة تخلو من التشويق. يملأ المخرج المشاهد التي تقع في تحقيق البوليس البريطاني مع توفيق بلقطات قريبة للعيون وبأقل كم ممكن من الحوارات، قبل أن يكمل ما كان بدأ بعرضه. ما يفوته هو أن التشويق الذي هو أحد مرادات المخرج هنا لا يتوفر ما يجعل المرء يتمنى لو أن الفيلم اتبع سردا مختلفا ولو إلى حد.
هناك مشاهد خطابية ووعظية يتبادلها كل الممثلين حسب شخصياتهم. الحوار ليس من ذلك الذي يشي بين الأسطر. ومن بين كل الأداءات يبرز أداء هيثم عبد الرزاق المحمّل بالهم. غير مؤكد تماماً إذا ما كان الممثل اكتفى بتعليمات المخرج أو أنّه كان يملك شحنة أعلى من الأداء مارس منها ما أتيح له منها.

- لا دراما تحت السطح
إذا كان المقهى في «بغداد في خيالي» يلعب دور الحاضن للشخصيات الطيّبة (في مقابل المسجد الذي - حسب الفيلم - بؤرة فساد)، فإنّه كان الموقع البيئي الحاضن كذلك لمهاجرين عراقيين وردوا في فيلم جعفر عبد الحميد «ميسو كافيه» سنة 2012.
فيلم أول لمخرجه (أين هو الآن؟) تطلع إلى أكثر مما استطاع تحقيقه في موضوع العراقيين المهاجرين إلى لندن. هذا التفاوت بين القدرة والرغبة نتج عن أخطاء في الكتابة كما في التنفيذ، لكنّه مؤسف في كل الأحوال لأنّ المحاولة جادة وذات بؤرة أوسع من تلك الواردة في فيلم سمير جمال الدين.
يتولى «ميسو كافيه» حكاية عراقي اسمه يوسف (نصري صايغ)، ترك العراق العام 2003. وهو معادٍ لنظام صدّام بالطبع، لكنّه أيضاً ضدّ قرارات الأمم المتحدة التي شملت، آنذاك، منع الدواء والخدمات الإنسانية على حد سواء ما حرم العراقيين من أسس لا غنى عنها ودفعهم لوضع معيشي صعب. هذا الطرح جديد وأعلى مستوى من أفلام سابقة من حيث إنه لا يحمل يافطات تنديده بالنّظام والدعوة للإطاحة به رغم معارضته له، بل يلتفت إلى الحالات والظروف الإنسانية التي زادتها قرارات الغرب تعسّفاً وضرراً.
لكن ما يتبع هذا التأسيس للحكاية هو سيناريو مكتوب بلا دراية كافية لا يحتوي على ما يكفي من مواقف تنتقل بالموضوع قُدُماً على نحو متواصل ومتصاعد. الإخراج مشكلة أخرى، ففي حين لدى المخرج الفكرة الكاملة عمّا يريد إنجازه، يصطدم بعائق عدم إلمامه بشحن شخصياته بما هو وراء الفعل والانفعال الأولين. ليس هناك من دراما تحت السطح ولا تلك التي فوق السطح مميّزة بحسن تمثيل أو إدارة.
بعض التشابه بين «بغداد في خيالي» و«ميسو كافيه» وارد هنا عبر قصّة حب بين العراقي يوسف والفتاة البريطانية (دافني ألكسندر)، التي تؤيده في الموقف وتشعر صوبه بعاطفة كبيرة. معظم لقاءاتهما تتم في المقهى الذي يتخذه الفيلم عنواناً له. تدير المقهى سيّدة عراقية مهاجرة كحال فيلم سمير جمال الدين وهو كذلك مناسبة لسماع أغان عراقية وعربية أخرى.
هذه المقارنة لا تبخس حقيقة أنّ «بغداد في خيالي» هو أكمل في عناصره وأوفى في ميزانيته (ما يمنح الفيلم مساحة أوسع من المشاهد والمواقع)، وأقوى لتجسيد المعنى المتوخى وأفضل تعبيراً عن اهتماماته ومفاداته.
لكن قبل هذين الفيلمين معاً، كان لا بد للسينما العراقية المهاجرة أن تواجه عملاً آخر قام به قتيبة الجنابي وكتبه وصوّره أيضاً. فيلم قامت دولة الإمارات بالمساهمة مع شركات بريطانية بتأمين تمويله.
الفيلم هو «الرحيل من بغداد» ويتلخص موضوعه في فرار متعاون سابق مع نظام صدام حسين من العراق محاولا النجاة بنفسه قبل فوات الأوان. فراره من تلك السُلطة يدفعها لملاحقته إلى المدن الأوروبية التي رحل إليها.
ينطبق العنوان على وضع بطله الذي‮ ‬تفتح الكاميرا عليه‮ (‬الممثل الجيد‮ ‬غير المحترف‮ صادق العطّار)، ‬وهو‮ ‬يتّصل بزوجته من الفندق البغدادي‮ ‬الذي‮ ‬يقطن فيه ليخبرها أنّه لا يزال‮ ‬يبحث عن ابنهما المفقود، ‮ ‬وليتبع ذلك بالتمهيد لما سيقوم به‮. ‬هنا‮ ‬يعرض المخرج مشاهد من وثائقيات‮ ‬يصاحبها تعليق صوتي‮ ‬لبطله‮ ‬يتحدّث فيها عن مرحلة‮ ‬يعتبرها مضيئة من حياته، ‮ ‬هي‮ ‬تلك التي‮ جرى انتخابه من قبل مسؤولي‮ ‬حزب البعث لا للانضمام إلى الحزب فقط، ‮ ‬بل ليصبح المصوّر الرسمي‮ ‬للمناسبات الخاصّة‮. ‬المشاهد الوثائقية تقدّم الرئيس السابق صدّام حسين في‮ ‬مشاهد حانية ووديعة لا تنبؤ مطلقاً‮ ‬عن أخرى سنشاهدها بعد حين‮. ‬إنّها هناك لتساعد المشاهد للتعرّف على ما جذب المصوّر إلى صدّام حسين وشخصه ونظامه‮. ‬لكنّ شيئا‮ ‬خطأ‮ ‬يقع والجنابي‮ ‬يوحي‮ ‬به ببراعة‮: ‬وهو سر‮ ‬يلقي‮ ‬عليه بطله الضوء الأول حين‮ ‬يخبر زوجته في‮ ‬مكالمة ثانية بأنّه مهدد ولا‮ ‬يشعر بالأمان‮، وأنّه لا يزال يبحث عن ابنهما المختفي في الوقت الذي يعلم أنّ ابنه أعدم بحضوره هو كمصوّر.‬
هذا الخوف يتعاظم بعدما قرّر الهرب. يزوّر جواز سفر بريطاني‮ ‬انتهت مدّته وبعد حين وجيز نجده يتسلل بالفعل لخارج العراق في‮ ‬قطار‮ ‬يشق به المسافة إلى المجر‮. ‬يتجاوز الفيلم المنطق هنا كون عيون السلطة وأمنها تعوّدت ألا تثق بمن يقرر مغادرتها. وإذا لم تكن عيون السُلطة قادرة على اكتشاف التزوير ما وضع السلطات الأجنبية التي ينتقل بطل الفيلم بينها؟
إذا ما قرر المشاهد أنّه لا‮ ‬يريد التوقف عند هذه الثّغرات فسيجد «الرحيل من بغداد» جديراً بالإعجاب. هو فيلم مليء باللحظات المشدودة وبتصوير بديع لوحدة شخصيته في أماكن تبدو بدورها جيدة. العراقي الهارب والبلدات الأوروبية، كائنان غريبان يتواجهان بصمت. وذلك الخوف يواصل رصف المسافة بين بطله وبين كل ما يحيط به.
عن الخوف الجامح أيضاً جاء فيلم الجنابي التالي «قصص العابرين» (2017)، هنا لا يتحدث الفيلم عن الخوف بل يجسده. هناك صوت الراوي (المخرج نفسه)، وهو يذكر كلمة «خوف» ثلاث مرات في الربع الساعة الأولى، لكن الصورة تجسّد هذا الخوف طوال الوقت وهو يسرد - أساساً - الحكاية ذاتها بشخصية مختلفة وأماكن أخرى. يعبّر عن هذا الكنه القامع بلقطات على سكة حديد وقطار عابر وهاربين يحاولون صعوده فيسقطون أرضاً. بطل الجنابي ليس في حال أفضل. يشعر بأنّه مطارد ومراقب، وبراعة المخرج هي في أنّه يعرف ما يلتقط وكيف يلتقط ما يريد التعبير فنياً عنه. يصل بموهبته (يصوّر أفلامه بنفسه وهو الذي انطلق مصوّراً فوتوغرافياً)، إلى نقطة منفردة بين أترابه. لا ينسى الجنابي أنّه لا يريد تقديم حكاية ذات صورة درامية عادية. لذلك فإنّ ما يعرضه يشبه كادرات فيلم طُبعت وتعرض على جدار واحد في متحف ما. صور متلاحقة منجزة بنفَس واحد وبرؤية متكاملة وملتحمة. إنها ذاكرته بالصورة. والصورة غالباً ملتقطة بغشاوة تعبيراً عن مرحلة متأججة بالأسئلة والمخاوف.
يعمد الجنابي إلى التشكيل الفني لبصرياته. يضيف إلى الصورة ما يجعلها تشكيلية. هي في الأصل تأليف خاص يعكس طوال الوقت حس الترحال الدائم والخوف المتشبث (لقطة لبطله وهو محبوس في غرفة صغيرة يرى منها رجلاً يرقبه في الشارع، كان استخدم مثيلاً لها في فيلمه السابق)، والقلق من مستقبل غامض. يعرف الجنابي أهمية الاعتماد على الصورة الفنية وليس الخطابية. يؤسس لفيلم مذهل في توظيف لغته السينمائية. بالأبيض والأسود هنا وبالألوان هناك وتحت سماء ليلية داكنة أو نهارية ضبابية دائماً.

- أي نقد؟
إذ يُضيف «بغداد في خيالي» لتلك الأفلام التي تبحث في المهاجر العراقي (بما فيها فيلم المخرج السابق «أوديسا عراقية») بعده السياسي ويتناول، من بين قضاياه المتعددة، المواجهة بين الثّقافات ومصير الأمل الذي تعبر عنه بطلة الفيلم (أمل) إذا ما استطاع أتباع النظام السابق الوصول إلى حاضر الشّخصيات الفالتة من بلادها من جديد، يحتل وضعاً إنتاجياً مهماً كون الفيلم تمتع بخلفية مخرجه كسينمائي ينتمي إلى صناعة السينما السويسرية وكونه يجسد الموضوع المستوحى من الواقع الذي لا يزال منذراً وداكناً الذي سيجذب إليه، على الأغلب، المزيد من الأفلام.
ما تجتمع عليه هذه الأفلام جميعاً إدانتها المفهومة لنظام سابق، وما لا تحاول الوصول إليه طرح حقيقة أنّ الوضع اليوم ليس أفضل مما كان عليه مع انقسام البلد إلى مناطق وجيوش أكثرها قوّة لا ينتمي في كيانه ومبادئه إلى عراق واحد.
هذا المنهج في التصدي للماضي وتغييب الواقع الحاضر لا تتشارك فيه الأفلام الواردة هنا فقط، بل الكثير من الأفلام العراقية التي أنتجت وصوّرت واهتمت بقصص وحكايات ووثائق الداخل.
ربما من الطبيعي نقد المراحل السّابقة لأي نظام، لكنّ تغييب الحاضر أو تأييده كما هو، لا يوفر للمشاهد الحقيقة كاملة ولا تمنح المخرج الرؤية الكافية لتجاوز الرّغبة في الانتقام من الأمس وحده.


مقالات ذات صلة

«البحث عن رفاعة»... وثائقي يستعيد سيرة «رائد النهضة المصرية»

يوميات الشرق فيلم «البحث عن رفاعة» يتناول مسيرة رفاعة الطهطاوي (فيسبوك)

«البحث عن رفاعة»... وثائقي يستعيد سيرة «رائد النهضة المصرية»

يستعيد الفيلم الوثائقي المصري «البحث عن رفاعة» سيرة أحد رواد النهضة الفكرية في مصر ببدايات القرن الـ19، رفاعة رافع الطهطاوي، الذي كان له دور مهم في التعليم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق المحيسن خلال تصوير فيلمه «ظلال الصمت» (موقعه الشخصي)

عبد الله المحيسن لـ«الشرق الأوسط»: خسرت أموالاً كثيرة بسبب الفن

أكد رائد السينما السعودية، المخرج عبد الله المحيسن، أن تجربته في العمل الفني لم تكن سهلة على الإطلاق، متحدثاً لـ«الشرق الأوسط» عن الصعوبات التي واجهها.

أحمد عدلي (القاهرة)
يوميات الشرق شكري سرحان وشادية في أحد أفلامهما (يوتيوب)

لماذا تفجر «الآراء السلبية» في الرموز الفنية معارك مجتمعية؟

أثارت واقعة التشكيك في موهبة الفنان الراحل شكري سرحان التي فجرها رأي الممثلين أحمد فتحي وعمر متولي عبر أحد البرامج ردود فعل متباينة.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثلة الأميركية الشهيرة كاميرون دياز (د.ب.أ)

كاميرون دياز: عشت أفضل سنوات حياتي أثناء اعتزالي للتمثيل

قالت الممثلة الأميركية الشهيرة كاميرون دياز إن فترة الـ10 سنوات التي اعتزلت فيها التمثيل كانت «أفضل سنوات في حياتها».

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق في فيلمه السينمائي الثالث ينتقل الدب بادينغتون من لندن إلى البيرو (استوديو كانال)

«بادينغتون في البيرو»... الدب الأشهر يحفّز البشر على مغادرة منطقة الراحة

الدب البريطاني المحبوب «بادينغتون» يعود إلى صالات السينما ويأخذ المشاهدين، صغاراً وكباراً، في مغامرة بصريّة ممتعة لا تخلو من الرسائل الإنسانية.

كريستين حبيب (بيروت)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».