مهما يكن من أمر الجواب، فإننا بالفعل أمام مشهد مثير يحتاج إلى قراءة متأنية، ولا سيما بعد أن اقتربت الولايات المتحدة الأميركية كثيراً جداً من عقد اتفاق مع حركة «طالبان»، بعد مفاوضات طويلة وشاقة، كان ولا يزال هدفها الرئيسي إنهاء ثمانية عشر عاماً من القتال، قبل أن يعلن الرئيس الأميركي وقف تلك المحادثات من جراء تصاعد أعمال العنف التي جرت هناك مؤخراً، وأفرزت قناعة لدى صانع القرار في البيت الأميركي مفادها أن «طالبان» لن تتغير، كما أنها لن تكفّ عن ممارسة العنف والإرهاب وتشجيعهما؛ الأمر الذي ثبت صحته بالفعل من خلال التهديد المباشر الذي واكب إعلان وقف المحادثات الأميركية مع التنظيم المسلح الأشهر الذي قدم العناية والرعاية، ووفر الملجأ والمأوى لتنظيم «القاعدة» طوال أكثر من ثلاثة عقود خلت.
يعنّ لنا أن نتساءل في بداية الأمر ما هو الهدف الذي يدفع الرئيس ترمب إلى توقيع اتفاق مع «طالبان»، اتفاق لا يمكن أن نسميه بحال من الأحوال سلاماً، بل هدنة طويلة الأمد بشروط معينة؛ ذلك أن الأميركيين لن ينسوا ما دام هناك تاريخ أن هؤلاء البشر مسؤولون بشكل أو بآخر عن وفاة قرابة ثلاثة آلاف أميركي دفعة واحدة نهار الحادي عشر من سبتمبر 2001، كما أن «طالبان» سيظلون يتذكرون الثمن الفادح الذي دفعوه طوال ثمانية عشر عاماً من الغزو الأميركي لبلادهم؟
يمكن القطع بأن واشنطن لها أهداف معلنة وأخرى خفية فيما يخص العلاقة مع «طالبان»، أما المعلن فهو أن تلتزم «طالبان» بعدم السماح للمتطرفين والإرهابيين باستخدام الأراضي الأفغانية في التخطيط لشنّ هجمات على الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، كما يتضمن الاتفاق بنوداً متعلقة بإجراء محادثات بين الأفغان للتوصل إلى تسوية سياسية أوسع نطاقاً لإنهاء القتال بين «طالبان» والحكومة المدعومة من الغرب، ويبقى بلا شك الحفاظ على أمن وأمان المصالح الأميركية في النطاق الجغرافي القريب من أفغانستان على رأس بنود الاتفاقية.
غير أن ما هو غير معلن موصول ولا شك بالتواجد اللوجيستي الأميركي في أفغانستان، من أجل الحيلولة دون توسع موسكو مرة أخرى في الداخل الأفغاني، وبالقدر ذاته كذلك قطع الطريق على بكين؛ كي لا تكتسب مربع قوة ونفوذ جديداً في أفغانستان، يدعم من مجال قطبيتها القادمة في الطريق؛ ما يجعل هزيمة أميركا في الجانب الشرقي من العالم أمراً مؤكداً، ويسرّع بمرحلة أفولها الإمبراطوري، التي تتناولها التحليلات والطروحات منذ وقت طويل.
شكوك عريضة حال الانسحاب الأميركي
للرئيس الأميركي دونالد ترمب أيضاً مصلحة كبرى في سحب كثير قواته والتي تبلغ الآن قرابة 14 ألف جندي من أفغانستان، فالرجل الذي يستعد لانتخابات رئاسية ثانية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 يقيم وزناً كبيراً للشارع الأميركي الذي يبقى رافضاً لفكرة استمرار حروب أميركا خارج البلاد، وترمب قد قطع على نفسه وعوداً بأنه لن يرسل جندياً آخر بعيداً عن أميركا، وبقناعة مطلقة أن واشنطن ليس منوطاً بها دور درك العالم أو شرطيه.
غير أن الأمر وحينما يتعلق بـ«طالبان» في واقع الأمر لا يمكن أن يكون على هذا القدر من السهولة، ذلك أن ترمب والذي لم يخفِ رغبته في سحب قوات بلاده من هناك حتى قبل توليه الرئاسة، تساوره شكوك عريضة حول واقع أفغانستان حال الانسحاب الأميركي دفعة واحدة من هناك، والأمر نفسه ينتاب المسؤولين الأفغان ومسؤولي الأمن القومي الأميركي، ولا سيما أن فكرة الانسحاب تكاد تكون مرتبطة بأمرين أساسيين آخرين:
أولاً: أن القوات الأميركية في الداخل الأفغاني تعمل حتى الساعة بمثابة رمانة الميزان، بين الفصائل الأفغانية المتناحرة، وفي المقدمة منها «طالبان» من جانب والحكومة الأفغانية من جانب آخر، وهنا فإن احتمال دخول أفغانستان في حرب أهلية داخلية طاحنة من جديد يبقى احتمالاً قائماً وبقوة، ومعنى عودة «طالبان» إلى الساحة مرة أخرى، وربما عودتها إلى إحكام قبضتها على البلاد، أن أفغانستان ستعيد سيرتها الأولى، وستقدم دعماً غير مسبوق للجماعات المتشددة حول العالم، وهذا ما يقودنا إلى الجزئية الثانية والأكثر هولاً من الأولى.
ثانياً: يكاد الخوف الأميركي والأممي من أن تتحول أفغانستان مرة جديدة محجاً للقوى الإرهابية العالمية كافة، ولعل المتابع لجميع التقارير الأمنية والاستخبارية حول العالم يدرك أن تنظيم «القاعدة» الذي ولد في أحضان «طالبان»، وفي مغائر جبال وشقوق أراضي أفغانستان عائد بقوة، بل ويكاد يكتسب يوماً تلو الآخر مساحات جديدة من النفوذ آسيوياً تحديداً، ولاحقاً حول بقية العالم.
أما الطامة الكبرى، فتتمثل في تحول أراضي أفغانستان إلى ملاذ آمن لتنظيم «داعش»، ولا سيما بعد الاندحار المؤقت في العراق وسوريا، مع ملاحظة أن «داعش» يتحول إلى فكرة إرهابية بأكثر منها تنظيم لوجيستي، ومؤخراً أشار وزير الدفاع الروسي سيرغي شويجو إلى تنامي الوجود الداعشي في أفغانستان، ولم يكن الروس بمفردهم في واقع الحال من تحدثوا عن ضراوة نشوء وارتقاء «الدواعش» من جديد على الأراضي الأفغانية، فقد شاركهم الرأي المدعوم بالمعلومات الاستخبارية الأميركيون هناك، ففي الأول من مايو (أيار) الماضي، نقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن مسؤول أميركي كبير قوله: «إن عناصر (داعش) اختاروا أفغانستان ملجأ لهم»، ومضيفاً أننا «حال لم نبقِ على الضغوط لمكافحة الإرهاب ضد فرغ (داعش) في أفغانستان، فإن هجوماً نوعياً قد يقع على الأرجح على أمتنا خلال هذا العام».
يمكن لأي محلل سياسي أو أمني أن يتوقع أن أفغانستان وحال وقوعها في حاضنة الإرهاب والعنف مرة جديدة، سوف تضحى ولا شك كارثة أممية، ذلك أن العالم يتخوف في الوقت الراهن من مولد تنظيم جديد يمزج بين «القاعدة» و«داعش» معاً، ويسعى إلى ضم عناصر أكثر خطورة من بقية إرجاء العالم، تنظيم يكون قلبه اللوجيستي في وسط أفغانستان من جديد، وتكون أطرافه وأذرعه ممتدة في أطراف الكرة الأرضية كافة، وذلك عبر التواصل التكنولوجي الذي وفّرته وسائط التواصل الاجتماعي؛ ما يجعل من فكرة الذئاب المنفردة رعباً قائماً وقادماً».
لكن، ربما ينبغي علينا أن نعود إلى متابعة فصول المشهد الأميركي - الأفغاني بطريقة «الفلاش باك»، ففي نهار الاثنين التاسع من سبتمبر الحالي، قال الرئيس ترمب إن المحادثات مع حركة «طالبان» الأفغانية انتهت، وأنه لا يزال يفكر في سحب القوات الأميركية، وأضاف للصحافيين لدى مغادرته البيت الأبيض متجهاً إلى نورث كارولينا بعد أن ألغى محادثات سرية كانت مقررة في كامب ديفيد بشأن خطة للسلام في مطلع الأسبوع «بالنسبة لي قد انتهت».
أما السبب فهو اعتراف «طالبان» بالاعتداء الأخير الذي وقع في كابل وأسفر عن مقتل من أسماه ترمب «أحد جنودنا العظماء»، وأحد عشر شخصاً آخر.
السؤال الذي يتردد في عدد كبير من وسائل الإعلام الأميركية: «هل هذا الحادث هو السبب الرئيسي فعلاً في إلغاء السعي الأميركي إلى السلام مع (طالبان)، وهو حدث جرت الأقدار بمثله مراراً، ويمكن تبريره بصورة أو بأخرى، أو الصمت تجاهه، من أجل هدف كبير كإنهاء الصراع الذي أضحى مستنقعاً للأميركيين طوال عقدين، أم أن هناك أسباباً أخرى خفية غير واضحة في الوقت الراهن، هي من دفعت ترمب إلى هذا الموقف المتشدد؟».
المقطوع به هو أنه وإلى حين معرفة الجواب، تبقى «طالبان» هي الرعب القديم والجديد للجانب الأميركي، بنوع خاص، ولأمن وسلام العالم بنوع عام، فقد جاءت ردات الفعل «الطالبانية» بصورة لا تنم عن أنها فصيل أفغاني يسعى للسلام بالمرة في الحال أو الاستقبال.
في أعقاب إعلان ترمب المشار إليه بوقف المباحثات مع «طالبان»، قال المتحدث باسم الجماعة، ذبيح الله مجاهد، لوكالة الصحافة الفرنسية: «كان لدينا طريقان لإنهاء احتلال أفغانستان، الأولى الجهاد والقتال، والأخرى المحادثات والمفاوضات». وأضاف: «إن أراد ترمب وقف المحادثات، سنسلك الطريق الأولى، وسيندمون قريباً».
هل يمكن أن يرتبط فعل الندم الذي تحدث عنه المتحدث باسم «طالبان» بأي شيء آخر سوى عودة الجماعة إلى طريق القتال في الداخل، وتوفير الملاذات الآمنة للجماعات الإرهابية التي تقلق العالم في الخارج؟
التهديد «الطالباني» بعودة العنف على هذا النحو ربما كشف مكنونات صدر «طالبان» بصورة مثيرة لمخاوف العالم برمته؛ الأمر الذي سيدفع ربما الجانب الأميركي إلى إعادة تقييم مسألة مفاوضات السلام مع «طالبان» بصورة جذرية؛ ذلك أن أي انسحاب أميركي سريع ومتعجل من الداخل الأفغاني، ربما ستكون له عواقب كارثية، ويذكّر بما جرى في أفغانستان نفسها عندما انسحبت القوات السوفياتية مرة واحدة، وتركت الدولة نهباً للمتطرفين الإرهابيين، والأمر نفسه خبرته أيضاً الولايات المتحدة الأميركية حين انسحابها من فيتنام.
أحد الأسئلة المثيرة أيضاً، هل ثبت لترمب أن فكرة قيام وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بمتابعة المشهد الأفغاني من الداخل عوضاً عن وجود القوات الأميركية فكرة فاشلة، وعليه يسعى لمزيد من الوقت للتفكير في حلول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن «طالبان» تعد أوراقها لأسوأ الاحتمالات؛ ما يعني أن العالم على موعد مع موجة جديدة من الخوف والإرهاب المتفشي آسيوياً وأممياً من جراء الأصولية «الطالبانية».