علي النعيمي.. مايسترو «أوبك»

«رجل الأرقام» قضى 68 عاما في رحاب صناعة النفط.. وشعاره دائما: «لا تقلق»

علي النعيمي.. مايسترو «أوبك»
TT

علي النعيمي.. مايسترو «أوبك»

علي النعيمي.. مايسترو «أوبك»

إذا كنت صحافيا وتريد الحصول على تعليق من وزير النفط السعودي علي النعيمي، فيجب أن تكون رياضيا حتى تتمكن من المشي بسرعة للحاق به.
وإذا تمكنت من اللحاق به، فهناك صيغتان للأسئلة من الأفضل أن تبتعد عنهما حتى لا تسمع أي إجابة. أما الصيغة الأولى للسؤال المهدر فهي تبدأ بجملة: «هل أنت قلق من..؟»، وأما الصيغة الثانية فهي تبدأ بـ: «ماذا لو..؟». في الغالب سيكون رد النعيمي على الصيغة الأولى للسؤال في صورة السؤال الاستنكاري التعجبي: «لماذا أقلق؟!» أو: «لماذا تريدونني أن أقلق؟!». أما الصيغة الثانية للسؤال فستكون الإجابة عنها بالصيغ التالية: «لماذا تفترضون أمورا لمّا تحدث بعد؟!!» أو: «لماذا تحبون أن تفترضوا سيناريوهات؟!».
يرفض النعيمي القلق بسبب طبيعته المتفائلة، ففي مارس (آذار) هذا العام قال الوزير البالغ من العمر 80 عاما أمام مئات من الحضور في مؤتمر بمدينة ينبع على ساحل البحر الأحمر إن التفاؤل لم يفارقه طوال 68 عاما أمضاها في الصناعة النفطية، أي منذ أن بدأ العمل في «أرامكو السعودية» عندما كان عمره 12 عاما.
من الصعب أن يسمع الصحافيون الذي يطاردون النعيمي في أروقة الفنادق وقاعات المؤتمرات ويركضون خلفه وإلى جواره ومن أمامه، وهو يقول إنه قلق من شيء، خصوصا من الأسعار حتى، وإن كان السوق والعالم من حوله يغرق في الاضطراب، خصوصا هذه الأيام، حيث إن الانخفاض الحالي في أسعار النفط تحت 100 دولار للبرميل وبقائها عند مستويات 97 دولارا لا يعني أي شيء لرجل عاصر هبوط أسعار نفط برنت إلى 9 دولارات للبرميل في أواخر التسعينات.
لقد مر النعيمي بأسوأ المراحل في تاريخ السوق في مرات عديدة طوال الأعوام الـ19 التي أمضاها وزيرا. ففي أكثر من مر ة كان الطلب يهبط بشدة والسوق يسبح في النفط والكل في «أوبك» وخارجها يتصارعون على الحصص السوقية.

* المايسترو
* واستطاع النعيمي أن ينتشل أسعار النفط من القاع في عام 1998 بعد مرور أشهر على نشوء الأزمة الآسيوية، بمجهود أقل ما يوصف به أنه ماراثوني قام من خلاله بإقناع 17 دولة منتجة للنفط من داخل «أوبك» وخارجها مثل النرويج والمكسيك بخفض إنتاجها لرفع الأسعار. ومنذ بداية عام 1999 بدأ السعر في التحسن والصعود وسط إصرار وتنسيق النعيمي على أن يلتزم الجميع بتخفيض إنتاجه.
هذا الجهد الذي بذله للتنسيق مع باقي المنتجين لخفض الإنتاج ورفع الأسعار في ذلك الزمن هو ما أكسبه العديد من الألقاب من بينها لقب «المايسترو». فالنعيمي يستحق هذا اللقب عن جدارة كما يقول المحلل النفطي الكويتي كامل الحرمي لـ«الشرق الأوسط»؛ «إذ لا يستطيع أحد أن يقوم بما قام به في ذلك الوقت».
ومنظمة البلدان المصدرة للبترول «أوبك» ليست كما يتصور كثيرون، فهي ليست مجموعة من الدول التي تلتقي وتتفق بسهولة على أي أمر، وكان الخلاف هو سمتها لعقود طويلة خاصة في الثمانينات والسبعينات عندما كانت اجتماعات «أوبك» تأخذ أياما طويلة وتمتد لأسابيع.
لكن الخلافات قلت كثيرا في السنوات الأخيرة، والفضل في ذلك يعود للنعيمي كما يقول الحرمي؛ إذ إنه «رجل الأرقام»، فهو يتناقش مع الجميع بالأرقام وتوقعات الطلب والعرض وليس بالكلام الرخيص والأساليب السياسية. ويضيف الحرمي، وهو رئيس تنفيذي سابق لشركة البترول الكويتية العالمية: «هذا الرجل هو حكيم («أوبك»)».
أما اجتماعات «أوبك» اليوم التي تحصل في مقر المنظمة في العاصمة النمساوية فيينا، فهي تجسيد للفاعلية، كما يقول النعيمي هو نفسه. ويعبر النعيمي عن هذا الأمر في إحدى المرات وهو يمشي صباحا في طريقه من الفندق «جراند» الشهير إلى مبنى المنظمة لحضور أحد الاجتماعات قائلا: «في السابق كانت الاجتماعات تأخذ أياما وأسابيع، أما اليوم فنحن الوزراء لسنا سوى رجال أعمال ونحضر اجتماعاتنا كما يحضرها رجال الأعمال، ولا يوجد لدينا سوى اجتماع واحد نحضره ثم يمضي كل منا في طريقه».

* «12 رجلا غاضبون»
* ولكن تخفيض أيام الاجتماع لا يعني أن الاجتماعات في حد ذاتها ليست مرهقة وتنتهي بكل سلاسة وهدوء. وعلى العكس، فإن الاجتماعات في الغالب هي عبارة عن شد وجذب، فهناك بعض الدول في «أوبك» تريد أسعارا عالية، والبعض يريد أسعارا معقولة.. والبعض يركز على الأسعار، بينما يركز البعض على إبقاء العرض في السوق متوازنا مع الطلب.
وهناك بعض الاجتماعات السيئة كالاجتماع الصيفي في عام 2011 الذي قال عنه النعيمي إنه «أسوأ اجتماع» حضره في تاريخه مع «أوبك» عندما رفضت بعض الدول المقترح الخليجي برفع سقف الإنتاج بناء على توقعاتهم لنمو الطلب في النصف الثاني من ذلك العام.
ويشبه النعيمي بنفسه للصحافيين في إحدى المرات حالة الاجتماعات بالوضع في الفيلم الأميركي الشهير «12 رجلا غاضبون» أو (Twelve Angry Men). وبالفعل لا يوجد عمل فني ممكن أن يقرب الفكرة أكثر من هذا الفيلم.
ففي هذا الفيلم يتحدد مصير شاب متهم في قضية قتل والده بالحكم الذي ستصدره هيئة من المحلفين يبلغ عددهم 12 شخصا، وهو بالضبط عدد الدول الأعضاء نفسه في منظمة «أوبك». ويجتمع المحلفون الذين يقابلون بعضهم للمرة الأولى في غرفة للتناقش حول الحكم، ولأن الحكم بالإجماع (كما هي حال قرارات منظمة «أوبك» استنادا إلى نظامها) فإن المحلفين يجب أن يتفقوا على حكم واحد. وفي البداية اتفق 11 محلفا على أن الصبي مذنب، إلا محلفا واحدا (قام بدوره في هذا الفيلم الممثل الأميركي هنري فوندا) وهو رقم 8 الذي حاول أن يغير قناعات الباقين. وبدلا من أن ينتهي الموضوع بسهولة طال الاجتماع بهم.
ومنذ تأسيس «أوبك» والسعودية، ممثلة في وزرائها ابتداء من الشيخ أحمد زكي يماني، ومرورا بهشام ناظر، وانتهاء بالنعيمي، تلعب دائما هذا الدور الذي قام به المحلف رقم 8 لأنها الدولة الأكبر في إنتاج النفط في «أوبك» ولا بد أن توازن بين الجميع وتراعي مصالح المنتجين والمستهلكين وتبقي الكل سعيدا بقدر المستطاع.
وبسبب الدور الذي تلعبه السعودية في المنظمة ويلعبه النعيمي في الاجتماعات، فإن قلق السوق حيال نتائج لقاءات الوزراء خف كثيرا، فلم يعد هناك داعٍ لأن تنتظر السوق أسابيع لتعرف ماذا ستقرر «أوبك» أخيرا.

* بعبع النفط الصخري
* وقلق الصحافيين والسوق لا ينتهي عند أي حد، فمنذ أن ظهر إنتاج النفط الصخري من المكامن في تكساس وداكوتا الشمالية في الولايات المتحدة، والكل يتحدث عن زوال «أوبك» وضعفها. وأصبحت التكهنات تدور حول: ما رد فعل «أوبك» تجاه النفط الصخري الذي يهدد صادراتها ومستقبلها؟
وفي كل اجتماع يظهر فيه وزراء دول «أوبك»، يظهر الصحافيون القلق نفسه ويعيدون التساؤلات نفسها عن مستقبل إنتاج المنظمة، الأمر الذي جعل وزير النفط الكويتي السابق مصطفى الشمالي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي يقول لهم: «لماذا تجعلون النفط الصخري وكأنه بعبع لنا؟».
والشمالي مثل النعيمي أو حتى أمين عام منظمة «أوبك» الليبي عبد الله البدري، لا يرون في النفط الصخري مصدرا كبيرا للقلق حتى وإن كانت صادرات المنظمة إلى الولايات المتحدة قد بدأت في التراجع منذ مطلع 2013، والسبب في ذلك بسيط حسب ما يرونه، وهو أن نفط «أوبك» تقليدي، ولهذا هو أسهل في الإنتاج وأقل في التكلفة، على عكس النفط الصخري، فهو نفط مكلف جدا، واستمرارية الإنتاج منه تتطلب استثمارات عالية وبقاء أسعار النفط عند مستويات لا تقل عن مستوياتها الحالية.
ويقول النعيمي في أكثر من مناسبة إنه لا داعي له بأن يقلق حيال زيادة إنتاج الولايات المتحدة من النفط الصخري، بل إنه، وعلى العكس، يرحب به وبأي إنتاج من أي دولة أخرى، فالطلب العالمي على النفط يجب أن تجري تلبيته من مصادر متعددة ومن كل مناطق الإنتاج.
وفي أحد الاجتماعات الأخيرة في فيينا قال النعيمي ردا على تساؤلات ما لا يقل عن 20 صحافيا وقفوا أمامه واستند بعضهم على الطاولة التي يجلس عليها، عن مدى قلقه حيال النفط الصخري قائلا: «لماذا تريدونني أن أقلق؟!! احذفوا كلمة (أقلق) من كل سؤال تسألونني إياه. هذه ليست المرة الأولى التي تشهد السوق زيادة في الإنتاج». وأضاف حينها: «لقد سمعنا هذه الأحاديث نفسها عندما بدأ بحر الشمال في ضخ إنتاجه، ولكن ماذا حدث اليوم؟ هل زالت (أوبك)؟ هل انتهى دورها؟».
وتتحكم «أوبك» في نحو 40 في المائة من الإنتاج اليومي العالمي للنفط، إلا أن هذه الحصة قد تقل إلى 33 في المائة هذا العام والأعوام المقبلة نظرا لأن الإنتاج من خارج «أوبك» في زيادة مستمرة والطلب على نفط «أوبك» لن يتجاوز 30.5 مليون برميل يوميا للسنة بأكملها و29.5 مليون برميل يوميا في العام المقبل.
وتتوقع «أوبك» كما تتوقع إدارة معلومات الطاقة الأميركية ذاتها أن إنتاج النفط الصخري سيصل إلى الذروة بعد 5 أعوام من الآن، وتعود الكرة بعد ذلك إلى ملعب «أوبك» لأنها تمتلك أكبر الاحتياطات المؤكدة في العالم، مما يجعلها المصدر الرئيس للنفط في العالم لسنين طويلة.
ولكن الجميع في «أوبك» يعون جيدا أن السنوات الخمس المقبلة لن تكون سهلة؛ إذ إن المنافسة ستزيد بين المنتجين خصوصا إذا ما بدأت الولايات المتحدة في تصدير نفطها للأسواق الذي حظرت الحكومة تصديره منذ سبعينات القرن الماضي.
وبغض النظر عن المنافسة، فإن النعيمي ينظر بالتفاؤل نفسه للسنوات المقبلة؛ إذ يتوقع هو أن يزيد الطلب على النفط مع الزيادة الكبيرة في السكان التي يشهدها العالم، وتحسن دخل الملايين من الفقراء في الاقتصادات الناشئة وتحولهم للطبقة المتوسطة.

* النعيمي ومستقبل الأسعار
* لقد تمكن النعيمي خلال تاريخه الطويل من أن ينتشل الأسعار بمساعدة «أوبك» في أكثر من مرة، كان آخرها في عام 2008 عندما اجتمعت «أوبك» في وهران في الجزائر وقرروا قص الإنتاج بنحو 4 ملايين برميل يوميا في الاجتماع التاريخي الذي وصفه أكثر من مسؤول في المنظمة تحدثت معهم «الشرق الأوسط» بأنه الأفضل للمنظمة.
وستظل السوق قلقلة حيال مستقبل الأسعار، فالنعيمي قد لا يكون موجودا في السنوات المقبلة عندما يحتاج العالم إلى «مايسترو» بحجمه ليدير المعروض عندما يستفحل إنتاج النفط الصخري، ويزيد العراق إنتاجه إلى 8 ملايين برميل يوميا بحلول 2020 كما هو مستهدف، وتعود إيران للتصدير بعد حل أزمتها النووية مع الغرب.
ومن حق التجار والمتعاملين في السوق أن يقلقوا، فهبوط النفط بسنت واحد للبرميل يعادل 10 دولارات في كل عقد والعقود المتداولة يوميا بالملايين.
ولكن النعيمي لا يرى أن الأسعار ستهبط كما يراها الجميع اليوم، لأن تكاليف إنتاج النفط الصخري ستمثل دعامة للأسعار وأرضية ثابتة لها.
ولا بد للنعيمي أن يرحل من منصبه في يوم ما، ولكنه سيرحل بكثير من التفاؤل كما عبر عنه في ينبع عندما قال: «سأكون صريحا، إنني رجل متفائل بمستقبل البترول والغاز والتصنيع في المملكة، وتفاؤلي لم يخذلني خلال 68 عاما من عملي في قطاع البترول».
وليس التفاؤل هو الشيء الوحيد الذي لم يخذل النعيمي طيلة هذه السنوات، بل إيمانه الكبير بأن السوق هي التي تحدد كل شيء، وكما يقول في أكثر من مرة للصحــافيين القلقين: «لمــاذا تريدون إقــلاق السوق.. دعوها وشأنها.. وكل شيء سيكون بخير».

* النعيمي من خلفية متواضعة؛ فلقد ولد في الراكة في الخبر ودخل «أرامكو» وتعلم في مدارس الشركة وكانت أول وظائفه مراسلا للبريد في الشركة، ولهذا قال للصحافيين في فيينا في إحدى المرات ممازحا إنه لا يزال يفتقد توزيع البريد.

* يوضح النعيمي في إحدى المرات أن السبب في تفوق جيله هو الحياة الصعبة التي عاشوها والتي ساهمت في جعلهم ناضجين في سن مبكرة. ويقول: «عندما كنت في الثانية عشرة من عمري كان عندي هدف مهم وهو أن أجد دخلا أعيش عليه، بينما اليوم هناك من هم أكبر من هذه السن لا يشعرون بأهمية لقمة العيش والعمل».

* بدأ النعيمي طريقه في «أرامكو» في الحفر قبل أن يذهب لإكمال تعليمه في لبنان ثم في الولايات المتحدة التي رجع منها وهو حاصل على الماجستير في الجيولوجيا. ومن هنا كانت انطلاقة النعيمي في الشركة ودخوله قسم الإنتاج الذي ترقى فيه حتى وصل إلى نائب الرئيس للإنتاج.

* النعيمي متواضع جدا وواقعي في الحديث عن نفسه عندما يتكلم عن تعليمه وإمكانياته؛ ففي إحدى المرات قال: «الشباب في (أرامكو السعودية) اليوم حاصلون على تعليم أفضل من التعليم الذي تعلمته. لو أردنا تطبيق مبادئ الجيولوجيا التي تعلمتها في الخمسينات والستينات فلن نجد برميلا واحدا من النفط اليوم».

* النعيمي خارج ضغط الاجتماعات شخص يحب الاجتماع بالناس وممازحتهم. ومن النادر أن تفارقه الابتسامة. ومن المعروف عنه أنه أحد اللاعبين المهرة للعبة الورق الشهيرة في المملكة المعروفة باسم البلوت. ومن النادر أن يهزمه أحد بسهولة كما يقول أحد المسؤولين السابقين في وزارة البترول. والنعيمي رجل رياضي نادر؛ إذ يمارس رياضة المشي كل صباح ويحب صعود الجبال على قدميه. وأخبر «الشرق الأوسط» أكثر من شخص عملوا معه أنه كان يتسابق معهم لصعود الكثبان الرملية في الربع الخالي ومن النادر أن يسبقه أحد.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.