تركيا.. الخوف من «المستنقع السوري»

أنقرة تخشى ارتدادات عربية لدخول جيشها إلى سوريا.. واتفاق أضنة السر الكبير

تركيا.. الخوف من «المستنقع السوري»
TT

تركيا.. الخوف من «المستنقع السوري»

تركيا.. الخوف من «المستنقع السوري»

ليس الحشد العسكري التركي، عند الحدود السورية، هو الأول من نوعه في تاريخ العلاقات بين البلدين الجارين في التاريخ والجغرافيا، القريبين في التركيبة الاجتماعية والدينية، والمتباعدين في السياسة. ولأن العلاقات الحميمة بين البلدين، التي نسجها رجب طيب إردوغان (رئيس الوزراء التركي آنذاك) مع الرئيس السوري بشار الأسد، كانت «استثناء» وليست القاعدة، فسرعان ما انتهى الود الذي لم يدم طويلا ليعود التنافس والعداء الرسميان إلى سابق عهدهما.
الحشد العسكري الأول كان في عهد رئيس الوزراء الراحل عدنان مندريس، وهو أول الأتراك الإسلاميين في «جمهورية أتاتورك». ففي عام 1958، أرسلت تركيا جنودها إلى الحدود مع سوريا، مهددة باجتياح أراضيها بسبب ما قالت إنه الدعم الكبير من النظام السوري لمقاتلي تنظيم حزب العمال الكردستاني. لكن الغزو لم يحدث، إذ تدخل أكثر من طرف لمنع المواجهة.
أما الحشد العسكري الثاني فكان بعد ذلك بأربعين سنة، وللسبب نفسه تقريبا، إذ هددت أنقرة بغزو الأراضي السورية بذريعة الدعم السوري للتنظيم، وإيواء زعيمه عبد الله أوجلان. آنذاك نفى الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد أن يكون أوجلان في سوريا، لكن منذ أن غادر تركيا في عام 1980، لجأ إلى سوريا، التي سهلت له ولقياداته الإقامة في لبنان الذي كانت تسيطر عليه آنذاك سياسيا وعسكريا، فأقيمت له مراكز تدريب في سهل البقاع اللبناني، أقفلت في وقت لاحق ليختفي أوجلان بعد أن رفعت أنقرة من ضغوطها على دمشق. وقد وصلت هذه الضغوط إلى ذروتها في عام 1989. ويقول وسيط اطلع على مسار هذه الأزمة إن الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك كان قد انتقل إلى دمشق حاملا التحذير التركي. وقيل إنه التقى الرئيس السابق حافظ الأسد باسم القيادة التركية ليطالبه بتسليم أوجلان، فكان رد الأسد أن أوجلان ليس في سوريا، ليعود الجانب التركي فيزود مبارك بصورة لأوجلان خارجا من منزله القريب من السفارة الإماراتية في دمشق، ثم تظهر الحشود التركية على الحدود مع سوريا، ويقال إن القوات التركية قد دخلت بالفعل جزءا من الأراضي السورية انطلاقا من نقطة غازي عنتاب الحدودية.
عندها اتخذ الأسد الأب قرارا بالتضحية بأوجلان لصالح تحسين العلاقة مع تركيا التي رأى فيها سندا مهما لخليفته بشار الذي كان يتهيأ للحكم. غادر أوجلان إلى روسيا، لكنه سرعان ما أعيد إلى أوروبا، فحلّ في إيطاليا ضيفا على الحكومة التي يتمتع فيها الشيوعيون بنفوذ قوي، ثم إلى اليونان التي كانت تحظى بعلاقات مميزة مع روسيا، قبل أن يغادر إلى أفريقيا نتيجة الضغط التركي والمطالبة بتسليمه. وأخيرا استطاعت الاستخبارات التركية القبض عليه في مطار نيروبي في عملية لا يزال يكتنفها الغموض، ويقال إن الاستخبارات الإسرائيلية لعبت دورا كبيرا فيها.
وانتهت الاجتماعات التي عقدت في وقت لاحق، وبوساطة مصرية وإيرانية، إلى اتفاق أضنة الشهير الذي نظم العلاقة بين الطرفين. وينص هذا الاتفاق في الجزء السري منه على حق تركيا في ملاحقة «الإرهابيين» داخل الأراضي السورية وحتى مسافة 5 كيلومترات، ويقال إن هذا الاتفاق نص أيضا على وقف المطالبة السورية بإقليم هاتاي الحدودي التركي الذي تسكنه غالبية ناطقة بالعربية، وكانت سوريا تعده حتى ذلك الحين «أرضا محتلة».
وقد توج هذا التحرك بزيارة مبارك إلى أنقرة في أكتوبر (تشرين الأول) 1998 على رأس وفد أمني وسياسي كبير للاجتماع مع الرئيس التركي سليمان ديميريل، ورئيس وزرائه بولاند إيجويد، حاملا معه موافقة النظام السوري على المطالب التركية كلها، بما في ذلك تنازل دمشق عن مطالبتها بلواء إسكندرون. وانتهت زيارة مبارك إلى أنقرة بصياغة مسودة للاتفاقية مع 4 ملاحق سرية يقال إن من بينها حق التوغل، والتنازل عن المطالبة باللواء «السليب» كما كان يوصف في الإعلام السوري.
ويقول متابعون، إن الأسد الأب، كان يريد إنهاء ملف الخلاف مع تركيا بأي ثمن من أجل تعبيد الطريق أمام نجله في الحكم، خصوصا أن حاله الصحية كانت في تدهور مستمر، وهو يريد أن يورثه استقرارا لا نزاعا ولهذا وافق على كل الطلبات التركية، التي ازدادت في مرحلة التوقيع لتعطي الأتراك المزيد من المكاسب
بعدها دخل الطرفان في شهر عسل طويل، كان خلاله الرئيس التركي الحالي رجب طيب إردوغان يصر على مناداة الأسد بـ«شقيقي»، إلى أن أتت الأزمة السورية، فحاول الأتراك التدخل لدى الأسد، ليذهبوا بعد فشلهم إلى الخصومة معه، ثم إلى العداء بعد تفاقم الأزمة.
ومع بداية الأزمة السورية، طرحت تركيا موضوع «المنطقة الآمنة» في الشمال السوري لحماية المعارضين السوريين من غارات طيران النظام، وهو سلاح التفوق الرئيس، وفيما كان المعارضون السوريون يأملون بالتدخل العسكري التركي، وقف الأتراك مترددين، حيال ما قالت مصادر تركية آنذاك إنه الخشية من تداعيات دخول الجيش التركي أراضي عربية. كما أن ضغوطا هائلة مورست من قبل روسيا وإيران على تركيا، تلا ذلك تحريك ملف تنظيم «الكردستاني» الذي اتهمت أنقرة سوريا باستدعاء قادته من الخارج وتأمين موطئ قدم لهم في سوريا.
وما زاد المخاوف التركية من نوايا دمشق، هو إقدام الجيش السوري على الانسحاب السلس من المناطق ذات الغالبية الكردية، في رسالة واضحة لأنقرة تفيد بإمكانية قيام كيان كردي مستقل على حدودها، قد يثير شهية أكرادها بعد استقلال جزئي لأكراد العراق.
ويشير ينار دونماز مدير مكتب جريدة عقد في أنقرة إلى أن «تركيا تطالب بإنهاء جميع المنظمات الإرهابية وليس داعش فقط، وكان هذا جليا في خطاب رئيس الجمهورية إردوغان عندما تساءل لماذا فقط التحالف ضد داعش مع أنه يوجد حركات إرهابية أخرى في سوريا والعراق، ولهذا السبب تريد تركيا أن تكون ضمن مكونات التحالف للقضاء على الإرهاب وإعادة الاستقرار للمنطقة».
وأكد دونماز لـ«الشرق الأوسط» أن «تركيا ليست بدولة جانبية في المنطقة بل هي دولة عريقة تاريخيه لها مكانتها في العالم العربي والإسلامي». وقال: «كما أعلن رئيس الوزراء داود أوغلو أنه من حق تركيا أن تنظر إلى مصالحها الوطنية، وبناء على هذا تتخذ تركيا مواقفها وتخط خريطة طريقها، ولا يمكن لتركيا أن تقبل أي ضغوطات خاصة من أميركا لأننا نعد سياستنا حسب المبادئ والمصالح التركية، فمثلا تركيا اتخذت مواقف مغايرة للغرب وأميركا حول الانقلاب في مصر وحول ما يجري في العراق وسوريا لأن المتضرر بعد تلك الدول مباشرة ليس الغرب وإنما تركيا». وأضاف: «حسب معلوماتي فإن خريطة الطريق التي ستتبعها الحكومة حتى الآن غير جاهزة وحتى مسودتها لم تعد بعد، لأنها ستتشكل بعد اجتماع رئيس الأركان مع أعضاء الحكومة، كما أن مستشار المخابرات سيذهب إلى القصر الجمهوري ليقدم تقريرا عن الوضع لرئيس الجمهورية ومن ثم سيلتقي مع داود أوغلو وأيضا سيناقش داود أوغلو مع إردوغان آخر التطورات ومن ثم سيناقش البرلمان تمديد فترة مذكرة إرسال الجيش لخارج الحدود باختصار ستشهد هذا الأسبوع أنقرة الكثير من الاجتماعات الحساسة التي سيترتب عليها موقف وقرارات الحكومة». ولكن دونماز أعرب عن اعتقاده أن تركيا لن تشارك بقواتها البرية لدخول الأراضي العربية، لأنه لن يقتصر على ردود فعل مؤقتة بل سيكون لها ردود فعل يمكن أن تستمر لعدة قرون، عادا أن «التدخل البري للجيش التركي لن ولم يخدم المصالح الوطنية التركية قط، كما أن قادة الجيش التركي لا يرغبون في دخول وحل مناطق الصراع في المنطقة، ولكن تركيا ستقوم بمساندة القوات البرية الأجنبية التي يمكن أن تخوض الحرب البرية بالدعم اللوجستي فقط، وستقوم تركيا بالسماح باستخدام القواعد البحرية للطيران الأجنبي وأنا أؤكد أن تركيا لن تتدخل بأي شكل من الأشكال في الوضع الداخلي لكل من سوريا والعراق، ولكن تركيا ستقوم بالرد على أي تجاوز لحدودها فقط».
ويقول مصطفى أونال، الكاتب في صحيفة زمان المعارضة، أن هناك احتمالية كبيرة تشير إلى أن الجيش التركي ربما يقوم بعملية عسكرية على الجانب الآخر من الحدود إذا ما جرت الموافقة على إحدى المذكرتين المعروضتين على البرلمان، وأن المنطقة «العازلة» أو «الآمنة» ستكون داخل الأراضي السورية وليست على الأراضي التركية، وهذه هي أطروحة تركيا، غير أن هذه الأطروحة لم تحصل على دعم المجتمع الدولي حتى الآن، وكانت الولايات المتحدة أعلنت أن إقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية لا تندرج ضمن أولوياتها، ومن الصعب جدًا أن تنجح تركيا في القيام بهذه المهمة دون قرار من الأمم المتحدة ودعم من واشنطن، وحينها سيقع على عاتق الجيش التركي «تأمين» المنطقة العازلة المحتملة، وهذا يتطلب مذكرة من البرلمان التركي، ويمكن أن نفسر تصريحات زعيم المعارضة التركية كيلتشدار أوغلو على أنها بمثابة «لا» في وجه هذه المذكرة من الآن. وليس من الصعب أن نخمن أن المذكرة الأخرى لن تقول «الحرب» صراحة، وستتضمن هذه المذكرة وجوب استعداد الجيش التركي لمواجهة أي احتمال ممكن.
ويشير أونال إلى وجود تعارض بين رئيسي الجمهورية والوزراء. ويقول: «في الوقت الذي يتصرف فيه رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو بحذر، نجد أن الرئيس إردوغان يؤيد فكرة الحرب»، موضحا أن المذكرة التي ناقشها البرلمان التركي قبيل الحرب على العراق في مارس (آذار) 2003، وكان إردوغان، الذي كان وقتها قد تولى رئاسة حزب العدالة والتنمية، متقدمًا بخطوة عن حكومته، وكان من أكثر المتحمّسين للموافقة على المذكرة. أما داود أوغلو، الذي كان مستشارًا آنذاك، فكان ضد هذه المذكرة، ولم يكن من السهل أن يوافق حزب العدالة والتنمية على مذكرة تتضمن في الوقت نفسه الخيار العسكري، ولا شك في أن نواب الحزب في البرلمان سيفكرون كثيرًا قبل أن يوافقوا على المشاركة في حرب محتملة ضد داعش في صف الولايات المتحدة. أما وضع النواب الأكراد فمثير؛ إذ إنهم في الوقت الذي كانوا فيه قريبين من رفض مذكرة مارس 2003، فإنهم هذه المرة قريبون من الموافقة على المذكرة لقتال داعش.
ويتهم معارضو تركيا، الأخيرة بأنه دعمت تنظيم «داعش» وسواه من الحركات المتشددة، بغية إحباط أي حلم انفصالي كردي في سوريا. وهذا قد يفسر أيضا الحروب التي شنتها المعارضة السورية المدعومة من أنقرة ضد الأكراد، وعداء الآخرين لهؤلاء في المقابل.
واتهم الأكراد السوريون - والأتراك، أنقرة بأنها دفعت التنظيم المتشدد إلى اجتياح مناطقهم مؤخرا بغية القضاء على الإدارة الذاتية التي أنشأوها، وقد لوح هؤلاء بأن عملية السلام التركية - الكردية التي بدأت قبل عامين، سوف تنهار لهذا السبب.
وقال عضو المجلس التنفيذي لاتحاد الجماعات الكردية مصطفى كاراصو، فيما يتعلق بعملية السلام الحالية بين الحكومة والعمال إن زعيم المنظمة عبد الله أوجلان هو من أطلق هذه المرحلة عبر خطابه التاريخي يوم عيد النيروز في عام 2013، مطالبا الحكومة باتخاذ خطوات جدية من أجل تحقيق الديمقراطية في البلاد، غير أنها لم تتخذ أي خطوات جدية إزاء ذلك سوى أنها طالبت باستمرار الوضع الحالي وإنهاء الاشتباكات والتخلي عن السلاح وانسحاب المقاتلين من الأراضي التركية، من دون تنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
وأكد كاراصو أن الحكومة لم تتخذ أي إجراء حقيقي لإنهاء الصراع، ولم تظهر أي تقارب فيما يخص المفاوضات، داعيًا إياها إلى إبداء مرونة في المفاوضات واتخاذ خطوات جدية لإنهاء الصراع، وإلا فإن موقفها الحالي سيزيد من حالة التوتر.
وكان النائب المستقل بالبرلمان التركي إدريس بال، الذي يُعدّ أحد الخبراء في الشؤون الأمنية والمنظمات الإرهابية، حذر الحكومة التركية والمجتمع الدولي من المبادرات الرامية إلى فتح الطريق أمام منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية وإضفاء الشرعية عليها في الوقت الذي استنفر فيه العالم لمكافحة منظمة إرهابية أخرى، هي تنظيم «داعش».
ويقول دونماز إن تركيا عانت لعدة عقود من الإرهاب وما ترتب عليه، وتعد من أكثر دول العالم التي تضررت من الإرهاب، ولكن اليوم المنطقة تعيش حالة من الفوضى لم تشهدها منذ 10 أعوام والسبب في ذلك تنظيم داعش ومقاتلوه.
وأضاف: «الهجوم الذي شنه داعش على مناطق شمال سوريا ترتب عليه هجرة عشرات الآلاف من سوريا إلى تركيا وهذا يؤثر تأثيرا مباشرا على الدولة التركية ويجعلها تغير موقفها من داعش». أما السبب الثاني فهو - يضيف دونماز - أن «لتركيا علاقات تجارية واقتصادية هائلة جدا مع سوريا والعراق، ولكن بسبب سيطرة داعش على مناطق شاسعة من البلدين توقفت هذه التجارة مما أدى إلى انعكاسات سلبية على الاقتصاد التركي. واستمرار هذا الوضع الفوضوي وسيطرة داعش وإرهابه على المنطقة سيكبد الاقتصاد التركي يوميا خسائر فادحة، ولهذا تركيا مجبرة على أن تكون ضمن هذا التحالف ضد داعش، كما أن تركيا تمتلك أطول حدود مع سوريا والعراق بقرابة 1400 كلم ومن غير الممكن أن تسمح بأن يكون داعش هو المسيطر على تلك الحدود».



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.