تركيا.. الخوف من «المستنقع السوري»

أنقرة تخشى ارتدادات عربية لدخول جيشها إلى سوريا.. واتفاق أضنة السر الكبير

تركيا.. الخوف من «المستنقع السوري»
TT

تركيا.. الخوف من «المستنقع السوري»

تركيا.. الخوف من «المستنقع السوري»

ليس الحشد العسكري التركي، عند الحدود السورية، هو الأول من نوعه في تاريخ العلاقات بين البلدين الجارين في التاريخ والجغرافيا، القريبين في التركيبة الاجتماعية والدينية، والمتباعدين في السياسة. ولأن العلاقات الحميمة بين البلدين، التي نسجها رجب طيب إردوغان (رئيس الوزراء التركي آنذاك) مع الرئيس السوري بشار الأسد، كانت «استثناء» وليست القاعدة، فسرعان ما انتهى الود الذي لم يدم طويلا ليعود التنافس والعداء الرسميان إلى سابق عهدهما.
الحشد العسكري الأول كان في عهد رئيس الوزراء الراحل عدنان مندريس، وهو أول الأتراك الإسلاميين في «جمهورية أتاتورك». ففي عام 1958، أرسلت تركيا جنودها إلى الحدود مع سوريا، مهددة باجتياح أراضيها بسبب ما قالت إنه الدعم الكبير من النظام السوري لمقاتلي تنظيم حزب العمال الكردستاني. لكن الغزو لم يحدث، إذ تدخل أكثر من طرف لمنع المواجهة.
أما الحشد العسكري الثاني فكان بعد ذلك بأربعين سنة، وللسبب نفسه تقريبا، إذ هددت أنقرة بغزو الأراضي السورية بذريعة الدعم السوري للتنظيم، وإيواء زعيمه عبد الله أوجلان. آنذاك نفى الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد أن يكون أوجلان في سوريا، لكن منذ أن غادر تركيا في عام 1980، لجأ إلى سوريا، التي سهلت له ولقياداته الإقامة في لبنان الذي كانت تسيطر عليه آنذاك سياسيا وعسكريا، فأقيمت له مراكز تدريب في سهل البقاع اللبناني، أقفلت في وقت لاحق ليختفي أوجلان بعد أن رفعت أنقرة من ضغوطها على دمشق. وقد وصلت هذه الضغوط إلى ذروتها في عام 1989. ويقول وسيط اطلع على مسار هذه الأزمة إن الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك كان قد انتقل إلى دمشق حاملا التحذير التركي. وقيل إنه التقى الرئيس السابق حافظ الأسد باسم القيادة التركية ليطالبه بتسليم أوجلان، فكان رد الأسد أن أوجلان ليس في سوريا، ليعود الجانب التركي فيزود مبارك بصورة لأوجلان خارجا من منزله القريب من السفارة الإماراتية في دمشق، ثم تظهر الحشود التركية على الحدود مع سوريا، ويقال إن القوات التركية قد دخلت بالفعل جزءا من الأراضي السورية انطلاقا من نقطة غازي عنتاب الحدودية.
عندها اتخذ الأسد الأب قرارا بالتضحية بأوجلان لصالح تحسين العلاقة مع تركيا التي رأى فيها سندا مهما لخليفته بشار الذي كان يتهيأ للحكم. غادر أوجلان إلى روسيا، لكنه سرعان ما أعيد إلى أوروبا، فحلّ في إيطاليا ضيفا على الحكومة التي يتمتع فيها الشيوعيون بنفوذ قوي، ثم إلى اليونان التي كانت تحظى بعلاقات مميزة مع روسيا، قبل أن يغادر إلى أفريقيا نتيجة الضغط التركي والمطالبة بتسليمه. وأخيرا استطاعت الاستخبارات التركية القبض عليه في مطار نيروبي في عملية لا يزال يكتنفها الغموض، ويقال إن الاستخبارات الإسرائيلية لعبت دورا كبيرا فيها.
وانتهت الاجتماعات التي عقدت في وقت لاحق، وبوساطة مصرية وإيرانية، إلى اتفاق أضنة الشهير الذي نظم العلاقة بين الطرفين. وينص هذا الاتفاق في الجزء السري منه على حق تركيا في ملاحقة «الإرهابيين» داخل الأراضي السورية وحتى مسافة 5 كيلومترات، ويقال إن هذا الاتفاق نص أيضا على وقف المطالبة السورية بإقليم هاتاي الحدودي التركي الذي تسكنه غالبية ناطقة بالعربية، وكانت سوريا تعده حتى ذلك الحين «أرضا محتلة».
وقد توج هذا التحرك بزيارة مبارك إلى أنقرة في أكتوبر (تشرين الأول) 1998 على رأس وفد أمني وسياسي كبير للاجتماع مع الرئيس التركي سليمان ديميريل، ورئيس وزرائه بولاند إيجويد، حاملا معه موافقة النظام السوري على المطالب التركية كلها، بما في ذلك تنازل دمشق عن مطالبتها بلواء إسكندرون. وانتهت زيارة مبارك إلى أنقرة بصياغة مسودة للاتفاقية مع 4 ملاحق سرية يقال إن من بينها حق التوغل، والتنازل عن المطالبة باللواء «السليب» كما كان يوصف في الإعلام السوري.
ويقول متابعون، إن الأسد الأب، كان يريد إنهاء ملف الخلاف مع تركيا بأي ثمن من أجل تعبيد الطريق أمام نجله في الحكم، خصوصا أن حاله الصحية كانت في تدهور مستمر، وهو يريد أن يورثه استقرارا لا نزاعا ولهذا وافق على كل الطلبات التركية، التي ازدادت في مرحلة التوقيع لتعطي الأتراك المزيد من المكاسب
بعدها دخل الطرفان في شهر عسل طويل، كان خلاله الرئيس التركي الحالي رجب طيب إردوغان يصر على مناداة الأسد بـ«شقيقي»، إلى أن أتت الأزمة السورية، فحاول الأتراك التدخل لدى الأسد، ليذهبوا بعد فشلهم إلى الخصومة معه، ثم إلى العداء بعد تفاقم الأزمة.
ومع بداية الأزمة السورية، طرحت تركيا موضوع «المنطقة الآمنة» في الشمال السوري لحماية المعارضين السوريين من غارات طيران النظام، وهو سلاح التفوق الرئيس، وفيما كان المعارضون السوريون يأملون بالتدخل العسكري التركي، وقف الأتراك مترددين، حيال ما قالت مصادر تركية آنذاك إنه الخشية من تداعيات دخول الجيش التركي أراضي عربية. كما أن ضغوطا هائلة مورست من قبل روسيا وإيران على تركيا، تلا ذلك تحريك ملف تنظيم «الكردستاني» الذي اتهمت أنقرة سوريا باستدعاء قادته من الخارج وتأمين موطئ قدم لهم في سوريا.
وما زاد المخاوف التركية من نوايا دمشق، هو إقدام الجيش السوري على الانسحاب السلس من المناطق ذات الغالبية الكردية، في رسالة واضحة لأنقرة تفيد بإمكانية قيام كيان كردي مستقل على حدودها، قد يثير شهية أكرادها بعد استقلال جزئي لأكراد العراق.
ويشير ينار دونماز مدير مكتب جريدة عقد في أنقرة إلى أن «تركيا تطالب بإنهاء جميع المنظمات الإرهابية وليس داعش فقط، وكان هذا جليا في خطاب رئيس الجمهورية إردوغان عندما تساءل لماذا فقط التحالف ضد داعش مع أنه يوجد حركات إرهابية أخرى في سوريا والعراق، ولهذا السبب تريد تركيا أن تكون ضمن مكونات التحالف للقضاء على الإرهاب وإعادة الاستقرار للمنطقة».
وأكد دونماز لـ«الشرق الأوسط» أن «تركيا ليست بدولة جانبية في المنطقة بل هي دولة عريقة تاريخيه لها مكانتها في العالم العربي والإسلامي». وقال: «كما أعلن رئيس الوزراء داود أوغلو أنه من حق تركيا أن تنظر إلى مصالحها الوطنية، وبناء على هذا تتخذ تركيا مواقفها وتخط خريطة طريقها، ولا يمكن لتركيا أن تقبل أي ضغوطات خاصة من أميركا لأننا نعد سياستنا حسب المبادئ والمصالح التركية، فمثلا تركيا اتخذت مواقف مغايرة للغرب وأميركا حول الانقلاب في مصر وحول ما يجري في العراق وسوريا لأن المتضرر بعد تلك الدول مباشرة ليس الغرب وإنما تركيا». وأضاف: «حسب معلوماتي فإن خريطة الطريق التي ستتبعها الحكومة حتى الآن غير جاهزة وحتى مسودتها لم تعد بعد، لأنها ستتشكل بعد اجتماع رئيس الأركان مع أعضاء الحكومة، كما أن مستشار المخابرات سيذهب إلى القصر الجمهوري ليقدم تقريرا عن الوضع لرئيس الجمهورية ومن ثم سيلتقي مع داود أوغلو وأيضا سيناقش داود أوغلو مع إردوغان آخر التطورات ومن ثم سيناقش البرلمان تمديد فترة مذكرة إرسال الجيش لخارج الحدود باختصار ستشهد هذا الأسبوع أنقرة الكثير من الاجتماعات الحساسة التي سيترتب عليها موقف وقرارات الحكومة». ولكن دونماز أعرب عن اعتقاده أن تركيا لن تشارك بقواتها البرية لدخول الأراضي العربية، لأنه لن يقتصر على ردود فعل مؤقتة بل سيكون لها ردود فعل يمكن أن تستمر لعدة قرون، عادا أن «التدخل البري للجيش التركي لن ولم يخدم المصالح الوطنية التركية قط، كما أن قادة الجيش التركي لا يرغبون في دخول وحل مناطق الصراع في المنطقة، ولكن تركيا ستقوم بمساندة القوات البرية الأجنبية التي يمكن أن تخوض الحرب البرية بالدعم اللوجستي فقط، وستقوم تركيا بالسماح باستخدام القواعد البحرية للطيران الأجنبي وأنا أؤكد أن تركيا لن تتدخل بأي شكل من الأشكال في الوضع الداخلي لكل من سوريا والعراق، ولكن تركيا ستقوم بالرد على أي تجاوز لحدودها فقط».
ويقول مصطفى أونال، الكاتب في صحيفة زمان المعارضة، أن هناك احتمالية كبيرة تشير إلى أن الجيش التركي ربما يقوم بعملية عسكرية على الجانب الآخر من الحدود إذا ما جرت الموافقة على إحدى المذكرتين المعروضتين على البرلمان، وأن المنطقة «العازلة» أو «الآمنة» ستكون داخل الأراضي السورية وليست على الأراضي التركية، وهذه هي أطروحة تركيا، غير أن هذه الأطروحة لم تحصل على دعم المجتمع الدولي حتى الآن، وكانت الولايات المتحدة أعلنت أن إقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية لا تندرج ضمن أولوياتها، ومن الصعب جدًا أن تنجح تركيا في القيام بهذه المهمة دون قرار من الأمم المتحدة ودعم من واشنطن، وحينها سيقع على عاتق الجيش التركي «تأمين» المنطقة العازلة المحتملة، وهذا يتطلب مذكرة من البرلمان التركي، ويمكن أن نفسر تصريحات زعيم المعارضة التركية كيلتشدار أوغلو على أنها بمثابة «لا» في وجه هذه المذكرة من الآن. وليس من الصعب أن نخمن أن المذكرة الأخرى لن تقول «الحرب» صراحة، وستتضمن هذه المذكرة وجوب استعداد الجيش التركي لمواجهة أي احتمال ممكن.
ويشير أونال إلى وجود تعارض بين رئيسي الجمهورية والوزراء. ويقول: «في الوقت الذي يتصرف فيه رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو بحذر، نجد أن الرئيس إردوغان يؤيد فكرة الحرب»، موضحا أن المذكرة التي ناقشها البرلمان التركي قبيل الحرب على العراق في مارس (آذار) 2003، وكان إردوغان، الذي كان وقتها قد تولى رئاسة حزب العدالة والتنمية، متقدمًا بخطوة عن حكومته، وكان من أكثر المتحمّسين للموافقة على المذكرة. أما داود أوغلو، الذي كان مستشارًا آنذاك، فكان ضد هذه المذكرة، ولم يكن من السهل أن يوافق حزب العدالة والتنمية على مذكرة تتضمن في الوقت نفسه الخيار العسكري، ولا شك في أن نواب الحزب في البرلمان سيفكرون كثيرًا قبل أن يوافقوا على المشاركة في حرب محتملة ضد داعش في صف الولايات المتحدة. أما وضع النواب الأكراد فمثير؛ إذ إنهم في الوقت الذي كانوا فيه قريبين من رفض مذكرة مارس 2003، فإنهم هذه المرة قريبون من الموافقة على المذكرة لقتال داعش.
ويتهم معارضو تركيا، الأخيرة بأنه دعمت تنظيم «داعش» وسواه من الحركات المتشددة، بغية إحباط أي حلم انفصالي كردي في سوريا. وهذا قد يفسر أيضا الحروب التي شنتها المعارضة السورية المدعومة من أنقرة ضد الأكراد، وعداء الآخرين لهؤلاء في المقابل.
واتهم الأكراد السوريون - والأتراك، أنقرة بأنها دفعت التنظيم المتشدد إلى اجتياح مناطقهم مؤخرا بغية القضاء على الإدارة الذاتية التي أنشأوها، وقد لوح هؤلاء بأن عملية السلام التركية - الكردية التي بدأت قبل عامين، سوف تنهار لهذا السبب.
وقال عضو المجلس التنفيذي لاتحاد الجماعات الكردية مصطفى كاراصو، فيما يتعلق بعملية السلام الحالية بين الحكومة والعمال إن زعيم المنظمة عبد الله أوجلان هو من أطلق هذه المرحلة عبر خطابه التاريخي يوم عيد النيروز في عام 2013، مطالبا الحكومة باتخاذ خطوات جدية من أجل تحقيق الديمقراطية في البلاد، غير أنها لم تتخذ أي خطوات جدية إزاء ذلك سوى أنها طالبت باستمرار الوضع الحالي وإنهاء الاشتباكات والتخلي عن السلاح وانسحاب المقاتلين من الأراضي التركية، من دون تنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
وأكد كاراصو أن الحكومة لم تتخذ أي إجراء حقيقي لإنهاء الصراع، ولم تظهر أي تقارب فيما يخص المفاوضات، داعيًا إياها إلى إبداء مرونة في المفاوضات واتخاذ خطوات جدية لإنهاء الصراع، وإلا فإن موقفها الحالي سيزيد من حالة التوتر.
وكان النائب المستقل بالبرلمان التركي إدريس بال، الذي يُعدّ أحد الخبراء في الشؤون الأمنية والمنظمات الإرهابية، حذر الحكومة التركية والمجتمع الدولي من المبادرات الرامية إلى فتح الطريق أمام منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية وإضفاء الشرعية عليها في الوقت الذي استنفر فيه العالم لمكافحة منظمة إرهابية أخرى، هي تنظيم «داعش».
ويقول دونماز إن تركيا عانت لعدة عقود من الإرهاب وما ترتب عليه، وتعد من أكثر دول العالم التي تضررت من الإرهاب، ولكن اليوم المنطقة تعيش حالة من الفوضى لم تشهدها منذ 10 أعوام والسبب في ذلك تنظيم داعش ومقاتلوه.
وأضاف: «الهجوم الذي شنه داعش على مناطق شمال سوريا ترتب عليه هجرة عشرات الآلاف من سوريا إلى تركيا وهذا يؤثر تأثيرا مباشرا على الدولة التركية ويجعلها تغير موقفها من داعش». أما السبب الثاني فهو - يضيف دونماز - أن «لتركيا علاقات تجارية واقتصادية هائلة جدا مع سوريا والعراق، ولكن بسبب سيطرة داعش على مناطق شاسعة من البلدين توقفت هذه التجارة مما أدى إلى انعكاسات سلبية على الاقتصاد التركي. واستمرار هذا الوضع الفوضوي وسيطرة داعش وإرهابه على المنطقة سيكبد الاقتصاد التركي يوميا خسائر فادحة، ولهذا تركيا مجبرة على أن تكون ضمن هذا التحالف ضد داعش، كما أن تركيا تمتلك أطول حدود مع سوريا والعراق بقرابة 1400 كلم ومن غير الممكن أن تسمح بأن يكون داعش هو المسيطر على تلك الحدود».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.