«الجاسوس» سنودن يدافع من موسكو عن خياراته

يروي سيرته وقصة هربه في «سجل دائم»

«الجاسوس» سنودن يدافع من موسكو عن خياراته
TT
20

«الجاسوس» سنودن يدافع من موسكو عن خياراته

«الجاسوس» سنودن يدافع من موسكو عن خياراته

في هذا الكتاب، يكشف إدوارد سنودن، خبير الكمبيوتر في وكالة الأمن الوطني الأميركي (إن إس إيه) الذي هرب، قبل خمس أعوام، إلى روسيا بعد أن نشر معلومات سرية عن تجسس الوكالة على مئات الملايين من الأميركيين، وغير الأميركيين، ما سماه: «فضح نظام المراقبة الجماعية للحكومة الأميركية».
ويكشف فيه، أيضاً، قصة حياته، وإخلاصه الوطني، وإخلاص والده، وجده، اللذين عملا في القوات الأميركية المسلحة. بل إخلاص كل جدوده، منذ أول واحد هاجر إلى الولايات المتحدة قبل قرابة مائتي سنة.
ومن المعروف، أن سنودن فاجأ في عام 2013، رؤساءه، والرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما، والولايات المتحدة، وكل العالم بالأسرار التي كشفها عن عمل الحكومة، وأجهزة الاستخبارات، وضمن ما ذكره حينها أن «حكومة الولايات المتحدة كانت تتابع سراً كل مكالمة هاتفية، ورسالة نصية، وبريد إلكتروني، حول العالم»؛ مما أدى إلى «تأسيس نظام لم يسبق له مثيل من المراقبة الجماعية الحكومية. ليس ذلك فحسب، بل القدرة على اقتحام الحياة الخاصة لكل شخص على وجه الأرض»، على حد قوله.
رغم اختلاف الناس حول فوائد، أو مساوئ، ما فعل، يروي لنا كتابه قصة استثنائية لشاب أميركي لامع، نشأ على حب الإنترنت، ثم أصبح جاسوساً، ثم هرب بوثائقه مع تهمة «خيانة الوطن»، ثم ها هو، من موسكو، يبدو وكأنه «ضمير الإنترنت»؛ إذ «لا حدود عنده في الدفاع عن الحرية، وفي الهجوم على القوانين التعسفية، سواء أميركية، أو غير أميركية»، أو على الأقل هذا ما يدعيه.
يحكي سنودن تفاصيل حياته، وكيف لجأ إلى روسيا: «عندما هبطت الطائرة في مطار موسكو في عام 2013، جلس ضابط استخبارات روسي، يتحدث الإنجليزية بسلاسة، في مواجهتي في غرفة في صالة المطار، وأبلغني، في البداية، أن الحكومة الأميركية ألغت جواز سفري بينما أنا في الهواء».
وقال له الضابط الروسي أيضاَ: «الحياة لشخص في وضعك يمكن أن تكون صعبة للغاية من دون أصدقاء. نحن نقدر على أن نكون أصدقاءك، ونساعدك. هل عندك معلومات تريد أن تشاركنا فيها؟».
وكتب سنودن أنه كان يتوقع ذلك من الروس، وكان قرر مسبقاً ألا يقدم لهم أي معلومة سرية عن وطنه. لهذا؛ رفض في الحال، التعاون مع الاستخبارات الروسية. لكن إقامته في روسيا طالت أكثر مما توقع.
يقول: «هبطت في مطار شيريميتيفو، واعتقدت أنه توقف مؤقت لمدة عشرين ساعة. لكن، ها أنا هنا لأكثر من ست سنوات».
لقد اتهمت الحكومة الأميركية سنودن بانتهاك قانون التجسس لتزويده الصحافيين بتفاصيل برامج المراقبة السرية العليا لوكالة الأمن القومي. ويعتبره كثير من العاملين في القوات المسلحة والأمن خائناً، لكن ناشطي حقوق الإنسان، ودعاة الخصوصية الشخصية يقولون إنه لعب دوراً لا يقدر بثمن في كشف النقاب عن تجسس الوكالة في جميع أنحاء العالم. وكما يبدو في كتابه، هو لا يشعر حتى الآن بأي ندم، بل كتب يقول:
«أحس بالفخر لأني شاركت في التغيير الأكثر أهمية في تاريخ التجسس الأميركي: إنهاء المراقبة المستهدفة للأفراد، والمراقبة الجماعية لشعوب بأكملها. لقد عقدت العزم على تسليط الضوء على حقيقة واحدة شاملة: أن حكومتي قد طورت ونشرت نظاماً عالمياً للمراقبة الجماهيرية دون علم أو موافقة مواطنيها».
لا يقول سنودن شيئاً تقريباً عن روسيا في كتابه. لكنه كتب: «لم يكن خياري أن أعيش في روسيا». ودافع ضد اتهامات الخيانة والتجسس لصالح الروس، أو، على الأقل، السكوت عن تعسف حكومتهم: «كنت علنياً تماماً بشأن انتقاداتي لسجل حقوق الإنسان للحكومة الروسية. كنت أنتقد سياسات المراقبة بشكل خاص».
ويعبر سنودن في كتابه عن ثقته من أنه لن يحصل على محاكمة عادلة في الولايات المتحدة. وبخاصة لأن رؤساء أميركيين انتقدوه:
ومنهم الرئيس السابق باراك أوباما، الذي قال «إن ما قام به لم يكن يستحق الضرر الذي تسبب فيه. كانت هناك طرق أخرى لذلك».
أما الرئيس دونالد ترمب فقد ذكر حينها أن سنودن «خائن» و«جاسوس»، ويجب أن يعدم.
في الحقيقة، كسب سنودن جولة من جولاته. في عام 2015، أصدر الكونغرس قانون «الحرية الخصوصية» الذي يحظر جمع سجلات التليفون الجماعية للمواطنين الأميركيين. الآن، يجب على الشرطة الحصول على أمر قضائي للنظر في سجلات أي تليفون شخصي.
ماذا عن حياته الخاصة في روسيا؟ كتب سنودن أنها «عادية»، وأنه «يقضي كثيراً من الوقت أمام الكمبيوتر، ويشترك في نقاشات عامة عن حرية الرأي، والحرية الشخصية، ومنع التعسف والتسلط على المواطنين».
وذكر أنه لا يخرج كثيراً من شقته المؤجرة، وليست لغته الروسية رائعة. لكنه أصبح أكثر راحة واستقراراً بعد أن طلب من صديقته الأميركية، ليندساي ميلز، أن تنضم إليه، وفعلت. وفي العام الماضي، تزوجها.



تقهقر القراءة ينبئ باقتراب «كارثة معرفية»

تقهقر القراءة ينبئ باقتراب «كارثة معرفية»
TT
20

تقهقر القراءة ينبئ باقتراب «كارثة معرفية»

تقهقر القراءة ينبئ باقتراب «كارثة معرفية»

أثارت نتائج مسح دولي أجرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لمهارات القراءة والكتابة والحساب وحل المشكلات، في 31 دولة واقتصاداً مختلفاً، جدلاً واسعاً في الصحافة والأوساط الثقافيّة والتعليميّة الغربيّة بعد أن أظهرت تراجعاً ملحوظاً من المستويات التي كانت عليها في عقد سابق. كتب وتحدث كثيرون حول وصول الدماغ البشري إلى منتهاه بعدما بلغت قدرة الإنسان العادي على التفكير وحل المشكلات الجديدة ذروتها في أوائل عام 2010 لتتراجع بشكل مطرد منذ ذلك الحين، في حين أنذر آخرون من عواقب سيطرة التكنولوجيا التي تزداد ذكاءً بمرور اللحظات بينما يفقد البشر أهم القدرات التي مكّنت لازدهار وجود نوعهم على هذا الكوكب.

وبحسب الأرقام التي أعلنتها المنظمة عن عينة شملت 160 ألفاً من البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و65 عاماً، فإن كفاءة القراءة والكتابة تحسنت في بلدين فقط – فنلندا والدنمارك -، في حين انخفضت بشكل كبير في 13 بلداً وبشكل حاد في كوريا الجنوبيّة ونيوزيلندا وليتوانيا، وتراجعت في جميع البلدان تقريباً لمجموعة البالغين الحاصلين على تعليم دون المستوى الثانوي. وقادت الولايات المتحدة وسنغافورة التباين بين الحاصلين على تعليم عالٍ مقارنة بالحاصلين على تعليم دون المستوى الثانوي؛ إذ إن واحداً من كل ثلاثة أميركيين مثلاً يقرأ بمستوى تتوقعه من طفل يبلغ العاشرة من العمر.

وتقاطعت نتائج هذا المسح مع اتجاهات مقلقة عن القراءة في الولايات المتحدة، حيث انخفضت نسبة الأميركيين الذين قرأوا كتاباً العام الماضي إلى أقل من خمسين في المائة، وكذلك في المملكة المتحدة، حيث أشار استطلاع أجرته هيئة حكوميّة إلى أن خمس البريطانيين لم يقرأوا كتاباً واحداً في العام الماضي، ووجد الصندوق الوطني البريطاني لمحو الأمية أن 35 في المائة فقط من أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و18 عاماً كانوا على استعداد للقول إنهم يستمتعون بالقراءة - وهو أدنى مستوى منذ بدء الاستطلاع قبل 19 عاماً -، بينما اعترف خريجو جامعات نخبوية بأنهم حصلوا على شهاداتهم دون أن يقرأوا كتاباً واحداً من الغلاف إلى الغلاف في وقت تراجعت مبيعات الكتب المطبوعة الجادة في معظم دول العالم وفق أرقام كُشف عنها خلال الدورة الأحدث لمعرض لندن للكتاب - وإن كان ذلك يتم تعويضه بالنسبة للناشرين من خلال نمو الطلب على الروايات الرومانسيّة، وأدب الجريمة، والخيال العلمي.

واللافت، أنه في غضون ذلك أصبح البودكاست أكثر شيوعاً من أي وقت مضى؛ إذ يستمع إلى بودكاست واحد على الأقل في الأسبوع ثلث البريطانيين، في حين استمع نصف الأميركيين الذين تزيد أعمارهم على 12 عاماً إلى بودكاست واحد على الأقل خلال الشهر الماضي، ويقضي هؤلاء ما معدله خمس ساعات ونصف الساعة تقريباً في الاستماع.

إن كل ذلك يدفع إلى الاعتقاد بأننا أصبحنا وبشكل مطرد «مجتمعات ما بعد القراءة والكتابة»، حيث تفقد الكلمة المكتوبة تدريجياً مكانتها التقليديّة المركزيّة في تشكيل ثقافة الشعوب وتفكيرها وسياساتها لمصلحة الكليشيهات والصور النمطيّة المتداولة ومقاطع الفيديو القصيرة، ويحل الصخب والاستعراض الفردي والآراء المسلوقة والتعبير عن المشاعر العابرة والشتائم مكان التحليل الدقيق، والتفكير المعمق، في حين يميل صانعو المحتوى الشفوي إلى عدم تصحيح أنفسهم، حيث يبدو تقييم تناقضات الماضي مرتبطاً حصراً بالنصوص المكتوبة. ويفسّر البعض هذه الاتجاهات بعوامل جزئيّة متعلقة ببعض المجتمعات، مثل ارتفاع نسب شيخوخة السكان وتزايد مستويات هجرة الشباب، لكن التفسير الأكثر وضوحاً والأكثر قابلية للتعميم وراء هذا التحوّل يرتبط بتفشي استعمال الهواتف الذكيّة خلال الفترة الزمنية ذاتها، والتي نشأت من حولها صناعة هائلة تستند تحديداً إلى تعميم عدم القراءة والتغوّل على الوقت الذي قد يخصص لها. فهناك الآن ملايين البشر الذين يعملون على مدار الساعة لإنتاج محتوى - سطحي في غالبه – لملء كل لحظة فراغ قد تتوفر لدى مستخدمي تلك الهواتف والشاشات الذكيّة، وهو محتوى قريب جذاب يسهل استهلاكه والإدمان عليه في كل الأوقات مقابل نشاط القراءة – والكتابة – الذي يستدعي شيئاً من العزلة وتركيزاً وهدوءاً.

لقد غيّرت التكنولوجيا وخلال أقل من عقدين الطريقة التي يحصل بها الكثير من البشر على المعلومات، فأخذتهم بعيداً عن الأشكال الأكثر تعقيداً من الكتابة، مثل الكتب والمقالات المطولة، إلى فضاء المنشورات القصيرة ومقاطع الفيديو على منصات التواصل الاجتماعي والملخصات والمقالات القصيرة جداً على الإنترنت، حيث الاستهلاك السلبي والتبديل المستمر للسياق. وهذا أمر يتسبب بكارثة معرفيّة للأجيال الجديدة من المتلقين بحكم بنية منصات التواصل التي تجعل من المرجح أن يطلّع المرء على أشياء تؤكد وجهة نظره؛ ما يضعف القدرات على التمييز بين الآراء المرسلة والحقائق، والبحث وراء الظاهر، والتعامل مع التعقيد، وهي قدرات لازمة للعبور إلى مستويات أعلى من التعليم وتبنى تدريجياً من خلال التعرّض لوجهات نظر متنوعة ومتناقضة والتعامل معها نقديّاً.

بالطبع لن يمكن يوماً إعادة تصميم الكتب بحيث تكون أكثر جاذبيّة من الهواتف الذكيّة – أقله بالنسبة للأعمار الأصغر سناً –، ولن يكون متاحاً في أي وقت إيجاد طريقة لاختصار الوقت الذي يحتاج إليه الدّماغ البشري كي يتعمق في الأفكار من خلال القراءة، فهل «مجتمعات ما بعد القراءة والكتابة» عادت لتبقى، وهل هذه الاتجاهات السلبية الحالية قدر البشرية المحتّم؟

تتباين آراء الخبراء في ذلك رغم غلبة التصورات المتشائمة. إذ يقول بعضهم إن تجربة فنلندا مثلاً تشير إلى أهميّة التعليم عالي الجودة والأعراف الاجتماعية القوية للحفاظ على مهارات القراءة والكتابة لدى أكثرية السكان؛ إذ إن التكنولوجيا المتقدمة في ذلك البلد الإسكندنافي عززت من كفاءة معرفة القراءة والكتابة لدى الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عاماً أفضل بكثير مما كانت عليه قبل عقد من الزمان، ويشير آخرون إلى فرص الانفتاح التي تتيحها منصات الثقافة الشفوية للعبور نحو أفق أوسع لفهم النص المكتوب بأبعد من مطلق النص، بحيث يتاح للمتلقي الآن قراءة نص ما والاستماع إلى نقاش مطول بشأنه على بودكاست مثلاً، أو مشاهدة فيلم وثائقي عن مضمونه أو حلقة نقاشية مع مؤلفه؛ ما يضاعف من فرص تعميق فهمنا للأفكار المطروحة، كما أن هنالك إشارات أولية عن إمكانات هائلة تتيحها أدوات الذكاء الاصطناعي لتحقيق تحسن نوعي في إنتاجيّة العمالة المعتمدة على المعلومات والمعرفة لإنجاز مهماتها.

على أن كل تلك الإيجابيات المحتملة ستظل دائماً رهن تأسيس قاعدة متينة من مهارات القراءة والكتابة في سن مبكرة؛ لأن من يفتقدون تلك المهارات سينتهون دائماً إلى مجرّد مستهلكين ساذجين للمحتوى الجاهز، سواء بصرياً أو شفهيّاً أو حتى من «إبداعات» الذكاء الاصطناعي. إن تلك المهارات - التي يحتاج تعميمها إلى جهد مجتمعي منظم لضمان جودة التعليم وتعزيز سلوكيات اكتساب المعرفة اجتماعياً - وحدها ستفصل في صفحة تاريخ البشرية التالية بين من سيوظّفون التكنولوجيا، وأولئك الذين سيكونون خاضعين لها.