فراغ ما بعد الصحوة

موتها لا يعني تفتت البنى الاجتماعية والدينية والثقافية المنغرسة بعمق في المجتمع

جانب من معرض الرياض الدولي للكتاب 2019
جانب من معرض الرياض الدولي للكتاب 2019
TT

فراغ ما بعد الصحوة

جانب من معرض الرياض الدولي للكتاب 2019
جانب من معرض الرياض الدولي للكتاب 2019

وماتت الصحوة، أو أُميتت. المهم أنها لم تعد تُشكل ذلك الطقس الغائم كلياً الذي عطل كل مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية لما يزيد على ثلاثة عقود. والأهم أن التآكل الواضح لمفاعيلها إنما يحدث اليوم على إيقاع ضربات مؤسساتية وشعبية متناغمة لتبديد أي إمكانية لإعادة إنتاجها، حيث الاندفاعة القوية لتجريف قواعدها ورموزها وأدبياتها، وهو تناغم يشي بميلاد لحظة مغايرة تماماً لما كان عليه المشهد الحياتي. لحظة مضادة بالضرورة لكل ما مارسته من عنف ضد مخالفيها، وواعدة بمشهد أكثر انفتاحاً وتنوعاً وتعدداً. بمعنى إلغاء حالة الاستفراد التي كانت سائدة آنذاك، وفتح الأفق لتمثيلات فردية وجماعية أكثر مرونة واستيعاباً لمقتضيات التحول البنيوي العميق الشامل الذي نعبره باتجاه السعودية الجديدة.
إبان تلك الحقبة، تمكنت الصحوة من الهيمنة على كل مفاصل المشهد، بما في ذلك الحركة الثقافية، حيث كانت تعد وجودها حالة ثقافية بالدرجة الأولى، بالنظر إلى أن الحالة الدينية، وفق أدبيات الصحوة، هي جزء أصيل من المكون الثقافي، بل هي الأُس الذي يقوم عليه أي فعل ثقافي. وبالتالي، أخذت لنفسها حق احتلال المنابر الإعلامية والأدبية، وتعقيم المنتجات الأدبية، وابتداع مصطلح الأدب الإسلامي، وتكفير المخالفين، وذلك في إطار أسلمة الحياة. وهو توجه عنفي، رمزي ومادي، لم يقتصر وجوده ومفاعيله على السعودية فقط، بل كان نتيجة امتدادات تعزيمية على مستوى العالمين العربي والإسلامي، حيث التنكيل بالمثقفين وتكفيرهم، والتهديد بتصفيتهم، والعبث حتى بالنصوص الأدبية التأسيسية التي لا تتوافق مع مرئيات وروح واستراتيجيات الصحوة، الأمر الذي دفع بعض المثقفين إلى مواجهة تلك الهجمة بما تيسر من الخطابات التنويرية للحد من تغولها، والتحاق بعضهم بالحراك الصحوي لاكتساب مغانمها المادية والوجاهية، وانزواء فصيل ثالث في الهامش إيثاراً للسلامة، وهكذا.
لقد كانت الصحوة هي المعادل للثقافة، الثقافة بمعناها الشمولي المركزي، أو هذا ما بشرت به أدبياتها، وأشعلت المعارك من أجله، في محاولة لفرض هذه المعادلة كأمر واقع، لدرجة أنها استحوذت على آليات الفعل الثقافي وفضاءاته ومنصاته. وقد تمكنت بالفعل من مسح الحدود الفاصلة بين الحالة الدينية والحالة الثقافية، وذلك في سياق الهيمنة على كل ما هو ثقافي، حيث ولدت جيلاً من المثقفين الصحويين المنذورين على الدوام لمنازلة المثقفين المتمردين على مستوجبات الصحوة، الأمر الذي عطل الفعل الثقافي بمعانيه الإبداعية المتعددة: الأدبية والفنية. وذلك على قاعدة التحريم التي استخدمتها الصحوة على نطاق واسع، وبمجانية فارطة، وكذلك باستدراج المبدعين إلى فخ الاعتراك على هامش الإنتاج الإبداعي.
واليوم، إذ تتهاوى الصحوة، بما كانت تمتلكه من حضورٍ كثيفٍ ساطٍ، ينفتح المشهد الثقافي على فراغ هائل، يبدو من الصعب على المثقفين ملؤه. وهذا هو أبرز التحديات للمثقفين الذين بنوا خطاباتهم وأمجادهم على منازلة الصحويين، حيث يُلاحظ وجود فصيل عريض منهم يفضل الإبقاء على وجود حالة صحوية ضعيفة، ليمارس ضدها حالة الاستئساد الثقافي، ويعيد إنتاج خطابه السجالي في المحطة المغادرة ذاتها. وذلك هو ما يكفل له مشروعية الحضور والتأثير والنجومية أيضاً على إيقاع تحطيم أصنام الصحوة. وفي نهاية المطاف، يحاول هذا الفصيل تأخير لحظة الاستحقاق الثقافي قدر الإمكان، لئلا ينكشف فقره المعرفي، وعجزه الأدائي على مستوى الإنتاج الإبداعي، بمعزل عن مهاترات الهامش. وهذا هو بالتحديد من يجعل المشهد مفتوحاً على خواءٍ إبداعي، يعجز المثقفون عن سد شقوقه الواسعة بمنتجات ثقافية مقنعة.
كل فراغ بحاجة إلى من يملأه أو يحركه. وبمقتضى هذا القانون، تقدم جيل شبابي جديد ليعبئ ذلك الفضاء الشاسع بحراك مغاير لاعتيادات المشهد، وهو حضور يمكن التأريخ له بجيل ما بعد الألفين، الجيل الذي اكتسب مشروعيته على إيقاع مبادرات استراتيجية معلنة تضع الروح الشبابية ضمن جوهر هوية ورؤية السعودية الجديدة. وفي الوقت الذي كان فيه رموز الثقافة القديمة، جيل الكِتاب، ينتظرون التفاتة مؤسساتية تموضعهم على رأس هرم الفعل الثقافي، وتدفعهم لاحتلال مواقع الصحويين المندحرين، تقدم ذلك الفصيل الشبابي بخبراته المعرفية والجمالية المتواضعة، وضآلة إحساسه بالمديونية للرموز الثقافية المكرسة، للقبض على مفاصل الفضاء الثقافي المفتوح على تحولات بنيوية كبرى. فهو جيل السوشيال ميديا والمدونات والبودكاست واليوتيوب، حيث الصوت الثقافي من حق الجميع، الأمر الذي شكل مظهراً مركباً من مظاهر التحدي، إذ لا حوار بين فريق ما زال غير قادر على الخروج من مضائق الماضي، وفريق مندفع بقوة إلى الأمام، ولا يريد الالتفات إلى الخلف.
في هذا المفصل بالتحديد تكمن أعتى التحديات الثقافية، وجوهرها يقوم على وجود تيار يرغب في تعديل مواقعه في المشهد، بحيث تكون الثقافة بالصورة التي اعتادها هي محور التنمية بمعناها الشامل، لتعويض الخسارة الفادحة التي تكبدها الوطن بسبب ذلك الضمور الثقافي المتأتي من تغول الصحوة، ولكنه لا يقدم الدليل على أحقيته بهذا الدور من خلال منتجاته الإبداعية والفكرية التي تمثل سيرورة اللحظة، فهو يتموضع في موقف المتفرج الذي يستشعر فيه وجود رؤية مؤسساتية تنتصر للثقافة بمعناها العصري الموائم بين النخبوي والشعبي، المؤكد عليه من خلال توأمة الفعل الثقافي بالأداءات الترفيهية. وفي المقابل، هناك تيار معولم، غير معني بكل السجالات حول الغرب والتراث والحداثة وشرعنة قصيدة النثر وقدسية اللغة، وغيرها من القضايا المؤرشفة، بقدر ما هو معني بالتعبير عن وجوده ضمن لحظة ما بعد حداثية.
وإذا كان تاريخ الصحوة هو تاريخ معاركها، فإن تاريخ الثقافة التنويرية هو تاريخ مقاومتها لمحاولات تزييف الوعي، وبالتالي فإن مهمة المثقف التنويري لا تعني الاستنقاع في تلك اللحظة المتخثرة، بل تجديد خطاب المواجهة. وهذا ما تحتمه خطابات المابعد، فموت الصحوة لا يعني تفتت البنى الاجتماعية والدينية والثقافية المنغرسة بعمق في مجتمعنا، التي تتمظهر على شكل أعراف وتقاليد وطقوس ومقولات راسخة، إذ لا تكفي النزعة الوطنية المتعالية اليوم للإجهاز على الثقافة العنيدة، الرافلة في المحافظة والتقليدية، وبالمقابل لا يمكن لمد الثقافة الاستهلاكية التي تشكل جانباً محورياً من الثقافة الشبابية أن يكون منطلقاً لتهديد ثقافة أصولية ممتدة في الزمان والمكان. والأهم أن الثقافة التنويرية التي أدت دورها بكفاءة في لحظة مفصلية من لحظات المواجهة تحتاج اليوم إلى أن تسائل نفسها عن جدوى الأبعاد الآيديولوجية التي كانت تنحقن بها آنذاك، وأثبتت المنعطفات التاريخية والأحداث السياسية والاجتماعية عطالتها. كما أنها مطالبة بألا تكون غطاءً زائفاً لمشتبهات ثقافية. وكل ذلك لا بد أن يُستظهر في أدبيات اللحظة على طاولة حوار عريضة وصلبة بين مختلف التيارات الفاعلة.
الجيل الجديد من المشتغلين بالثقافة لا يشكل تهديداً للجيل الماضي، فهما ينتميان إلى المجال الدلالي ذاته، ويؤديان الوظيفة الإنتاجية ذاتها، مع اختلاف الأدوات والأولويات، وهو تصور استراتيجي أكد عليه وزير الثقافة الأمير بدر بن عبد الله آل فرحان في أكثر من مناسبة، ضمن رؤية التحول الوطني، وفي سياق توطين التعريف الأحدث الذي اعتمدته اليونيسكو لمعنى الثقافة، المعني بتمثيل جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه، التي تشمل بالضرورة الفنون والآداب وطرائق الحياة. وهذا هو جوهر الاستراتيجية الثقافية بموجب الوثيقة التي اعتمدتها الوزارة، من خلال تأكيدها على بناء مجتمع حيوي تكون فيه الثقافة نمط حياة، وركيزة للنمو الاقتصادي، ومنطلقاً لتعزيز الهوية الثقافة للمملكة ومكانتها الدولية، وهي مهمة ثقافية كُبرى لا تحيل إلى رغبة للإبدال الثقافي، بتهميش جيل لصالح جيل أحدث، بقدر ما هي دعوة لتجديد الفعل الثقافي، وإعادة ربطه بالفعل الاجتماعي، بالنظر إلى كونهما نسقين متكاملين.
الفراغ الثقافي الهائل لا يمكن تعبئته بضجيج المشتبهات الثقافية، ولا بأي نزعة وطنية صاخبة، خالية في الآن نفسه من الرصيد الأدبي والفني. وذلك يعني أن إعلان موت الصحوة ما هو إلا خطوة ابتدائية لمشوار طويل بتنا نتلمسه حتى في تغيير المناهج التعليمية، وذلك ضمن خطة بعيدة المدى. وهو الأمر الذي يحتم على المؤسسة الثقافية اعتماد سياسة الخطوط المتوازية، التي تعادل بين إعجابها ومساندتها للفصائل الشبابية التي صارت تتمدد في الهامش الأكبر من المشهد، وبين فصيل المحاربين القدماء من المثقفين الذين صاروا يستشعرون تهميشهم القصدي، الأمر الذي يهدد المشهد بانزواء أهل الخبرة الثقافية، وظهور مشهد بلا رموز ثقافية. وهذا لا يعني بالتأكيد الدعوة إلى تزيين المشهد بتماثيل ثقافية عاطلة عن الفعل، ولا استكمال مشروع تجريف الصحوة بالاعتماد على جحافل شبابية محمولة على صخب اللحظة.
- ناقد سعودي



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!