فراغ ما بعد الصحوة

موتها لا يعني تفتت البنى الاجتماعية والدينية والثقافية المنغرسة بعمق في المجتمع

جانب من معرض الرياض الدولي للكتاب 2019
جانب من معرض الرياض الدولي للكتاب 2019
TT

فراغ ما بعد الصحوة

جانب من معرض الرياض الدولي للكتاب 2019
جانب من معرض الرياض الدولي للكتاب 2019

وماتت الصحوة، أو أُميتت. المهم أنها لم تعد تُشكل ذلك الطقس الغائم كلياً الذي عطل كل مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية لما يزيد على ثلاثة عقود. والأهم أن التآكل الواضح لمفاعيلها إنما يحدث اليوم على إيقاع ضربات مؤسساتية وشعبية متناغمة لتبديد أي إمكانية لإعادة إنتاجها، حيث الاندفاعة القوية لتجريف قواعدها ورموزها وأدبياتها، وهو تناغم يشي بميلاد لحظة مغايرة تماماً لما كان عليه المشهد الحياتي. لحظة مضادة بالضرورة لكل ما مارسته من عنف ضد مخالفيها، وواعدة بمشهد أكثر انفتاحاً وتنوعاً وتعدداً. بمعنى إلغاء حالة الاستفراد التي كانت سائدة آنذاك، وفتح الأفق لتمثيلات فردية وجماعية أكثر مرونة واستيعاباً لمقتضيات التحول البنيوي العميق الشامل الذي نعبره باتجاه السعودية الجديدة.
إبان تلك الحقبة، تمكنت الصحوة من الهيمنة على كل مفاصل المشهد، بما في ذلك الحركة الثقافية، حيث كانت تعد وجودها حالة ثقافية بالدرجة الأولى، بالنظر إلى أن الحالة الدينية، وفق أدبيات الصحوة، هي جزء أصيل من المكون الثقافي، بل هي الأُس الذي يقوم عليه أي فعل ثقافي. وبالتالي، أخذت لنفسها حق احتلال المنابر الإعلامية والأدبية، وتعقيم المنتجات الأدبية، وابتداع مصطلح الأدب الإسلامي، وتكفير المخالفين، وذلك في إطار أسلمة الحياة. وهو توجه عنفي، رمزي ومادي، لم يقتصر وجوده ومفاعيله على السعودية فقط، بل كان نتيجة امتدادات تعزيمية على مستوى العالمين العربي والإسلامي، حيث التنكيل بالمثقفين وتكفيرهم، والتهديد بتصفيتهم، والعبث حتى بالنصوص الأدبية التأسيسية التي لا تتوافق مع مرئيات وروح واستراتيجيات الصحوة، الأمر الذي دفع بعض المثقفين إلى مواجهة تلك الهجمة بما تيسر من الخطابات التنويرية للحد من تغولها، والتحاق بعضهم بالحراك الصحوي لاكتساب مغانمها المادية والوجاهية، وانزواء فصيل ثالث في الهامش إيثاراً للسلامة، وهكذا.
لقد كانت الصحوة هي المعادل للثقافة، الثقافة بمعناها الشمولي المركزي، أو هذا ما بشرت به أدبياتها، وأشعلت المعارك من أجله، في محاولة لفرض هذه المعادلة كأمر واقع، لدرجة أنها استحوذت على آليات الفعل الثقافي وفضاءاته ومنصاته. وقد تمكنت بالفعل من مسح الحدود الفاصلة بين الحالة الدينية والحالة الثقافية، وذلك في سياق الهيمنة على كل ما هو ثقافي، حيث ولدت جيلاً من المثقفين الصحويين المنذورين على الدوام لمنازلة المثقفين المتمردين على مستوجبات الصحوة، الأمر الذي عطل الفعل الثقافي بمعانيه الإبداعية المتعددة: الأدبية والفنية. وذلك على قاعدة التحريم التي استخدمتها الصحوة على نطاق واسع، وبمجانية فارطة، وكذلك باستدراج المبدعين إلى فخ الاعتراك على هامش الإنتاج الإبداعي.
واليوم، إذ تتهاوى الصحوة، بما كانت تمتلكه من حضورٍ كثيفٍ ساطٍ، ينفتح المشهد الثقافي على فراغ هائل، يبدو من الصعب على المثقفين ملؤه. وهذا هو أبرز التحديات للمثقفين الذين بنوا خطاباتهم وأمجادهم على منازلة الصحويين، حيث يُلاحظ وجود فصيل عريض منهم يفضل الإبقاء على وجود حالة صحوية ضعيفة، ليمارس ضدها حالة الاستئساد الثقافي، ويعيد إنتاج خطابه السجالي في المحطة المغادرة ذاتها. وذلك هو ما يكفل له مشروعية الحضور والتأثير والنجومية أيضاً على إيقاع تحطيم أصنام الصحوة. وفي نهاية المطاف، يحاول هذا الفصيل تأخير لحظة الاستحقاق الثقافي قدر الإمكان، لئلا ينكشف فقره المعرفي، وعجزه الأدائي على مستوى الإنتاج الإبداعي، بمعزل عن مهاترات الهامش. وهذا هو بالتحديد من يجعل المشهد مفتوحاً على خواءٍ إبداعي، يعجز المثقفون عن سد شقوقه الواسعة بمنتجات ثقافية مقنعة.
كل فراغ بحاجة إلى من يملأه أو يحركه. وبمقتضى هذا القانون، تقدم جيل شبابي جديد ليعبئ ذلك الفضاء الشاسع بحراك مغاير لاعتيادات المشهد، وهو حضور يمكن التأريخ له بجيل ما بعد الألفين، الجيل الذي اكتسب مشروعيته على إيقاع مبادرات استراتيجية معلنة تضع الروح الشبابية ضمن جوهر هوية ورؤية السعودية الجديدة. وفي الوقت الذي كان فيه رموز الثقافة القديمة، جيل الكِتاب، ينتظرون التفاتة مؤسساتية تموضعهم على رأس هرم الفعل الثقافي، وتدفعهم لاحتلال مواقع الصحويين المندحرين، تقدم ذلك الفصيل الشبابي بخبراته المعرفية والجمالية المتواضعة، وضآلة إحساسه بالمديونية للرموز الثقافية المكرسة، للقبض على مفاصل الفضاء الثقافي المفتوح على تحولات بنيوية كبرى. فهو جيل السوشيال ميديا والمدونات والبودكاست واليوتيوب، حيث الصوت الثقافي من حق الجميع، الأمر الذي شكل مظهراً مركباً من مظاهر التحدي، إذ لا حوار بين فريق ما زال غير قادر على الخروج من مضائق الماضي، وفريق مندفع بقوة إلى الأمام، ولا يريد الالتفات إلى الخلف.
في هذا المفصل بالتحديد تكمن أعتى التحديات الثقافية، وجوهرها يقوم على وجود تيار يرغب في تعديل مواقعه في المشهد، بحيث تكون الثقافة بالصورة التي اعتادها هي محور التنمية بمعناها الشامل، لتعويض الخسارة الفادحة التي تكبدها الوطن بسبب ذلك الضمور الثقافي المتأتي من تغول الصحوة، ولكنه لا يقدم الدليل على أحقيته بهذا الدور من خلال منتجاته الإبداعية والفكرية التي تمثل سيرورة اللحظة، فهو يتموضع في موقف المتفرج الذي يستشعر فيه وجود رؤية مؤسساتية تنتصر للثقافة بمعناها العصري الموائم بين النخبوي والشعبي، المؤكد عليه من خلال توأمة الفعل الثقافي بالأداءات الترفيهية. وفي المقابل، هناك تيار معولم، غير معني بكل السجالات حول الغرب والتراث والحداثة وشرعنة قصيدة النثر وقدسية اللغة، وغيرها من القضايا المؤرشفة، بقدر ما هو معني بالتعبير عن وجوده ضمن لحظة ما بعد حداثية.
وإذا كان تاريخ الصحوة هو تاريخ معاركها، فإن تاريخ الثقافة التنويرية هو تاريخ مقاومتها لمحاولات تزييف الوعي، وبالتالي فإن مهمة المثقف التنويري لا تعني الاستنقاع في تلك اللحظة المتخثرة، بل تجديد خطاب المواجهة. وهذا ما تحتمه خطابات المابعد، فموت الصحوة لا يعني تفتت البنى الاجتماعية والدينية والثقافية المنغرسة بعمق في مجتمعنا، التي تتمظهر على شكل أعراف وتقاليد وطقوس ومقولات راسخة، إذ لا تكفي النزعة الوطنية المتعالية اليوم للإجهاز على الثقافة العنيدة، الرافلة في المحافظة والتقليدية، وبالمقابل لا يمكن لمد الثقافة الاستهلاكية التي تشكل جانباً محورياً من الثقافة الشبابية أن يكون منطلقاً لتهديد ثقافة أصولية ممتدة في الزمان والمكان. والأهم أن الثقافة التنويرية التي أدت دورها بكفاءة في لحظة مفصلية من لحظات المواجهة تحتاج اليوم إلى أن تسائل نفسها عن جدوى الأبعاد الآيديولوجية التي كانت تنحقن بها آنذاك، وأثبتت المنعطفات التاريخية والأحداث السياسية والاجتماعية عطالتها. كما أنها مطالبة بألا تكون غطاءً زائفاً لمشتبهات ثقافية. وكل ذلك لا بد أن يُستظهر في أدبيات اللحظة على طاولة حوار عريضة وصلبة بين مختلف التيارات الفاعلة.
الجيل الجديد من المشتغلين بالثقافة لا يشكل تهديداً للجيل الماضي، فهما ينتميان إلى المجال الدلالي ذاته، ويؤديان الوظيفة الإنتاجية ذاتها، مع اختلاف الأدوات والأولويات، وهو تصور استراتيجي أكد عليه وزير الثقافة الأمير بدر بن عبد الله آل فرحان في أكثر من مناسبة، ضمن رؤية التحول الوطني، وفي سياق توطين التعريف الأحدث الذي اعتمدته اليونيسكو لمعنى الثقافة، المعني بتمثيل جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه، التي تشمل بالضرورة الفنون والآداب وطرائق الحياة. وهذا هو جوهر الاستراتيجية الثقافية بموجب الوثيقة التي اعتمدتها الوزارة، من خلال تأكيدها على بناء مجتمع حيوي تكون فيه الثقافة نمط حياة، وركيزة للنمو الاقتصادي، ومنطلقاً لتعزيز الهوية الثقافة للمملكة ومكانتها الدولية، وهي مهمة ثقافية كُبرى لا تحيل إلى رغبة للإبدال الثقافي، بتهميش جيل لصالح جيل أحدث، بقدر ما هي دعوة لتجديد الفعل الثقافي، وإعادة ربطه بالفعل الاجتماعي، بالنظر إلى كونهما نسقين متكاملين.
الفراغ الثقافي الهائل لا يمكن تعبئته بضجيج المشتبهات الثقافية، ولا بأي نزعة وطنية صاخبة، خالية في الآن نفسه من الرصيد الأدبي والفني. وذلك يعني أن إعلان موت الصحوة ما هو إلا خطوة ابتدائية لمشوار طويل بتنا نتلمسه حتى في تغيير المناهج التعليمية، وذلك ضمن خطة بعيدة المدى. وهو الأمر الذي يحتم على المؤسسة الثقافية اعتماد سياسة الخطوط المتوازية، التي تعادل بين إعجابها ومساندتها للفصائل الشبابية التي صارت تتمدد في الهامش الأكبر من المشهد، وبين فصيل المحاربين القدماء من المثقفين الذين صاروا يستشعرون تهميشهم القصدي، الأمر الذي يهدد المشهد بانزواء أهل الخبرة الثقافية، وظهور مشهد بلا رموز ثقافية. وهذا لا يعني بالتأكيد الدعوة إلى تزيين المشهد بتماثيل ثقافية عاطلة عن الفعل، ولا استكمال مشروع تجريف الصحوة بالاعتماد على جحافل شبابية محمولة على صخب اللحظة.
- ناقد سعودي



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.