في كتاب عباس محمود العقاد «مع عاهل الجزيرة العربية»، حكى عن الملك عبد العزيز وحياته، وتطرق إلى جوانب مختلفة في تفاصيل الحياة، يورد العقاد شرحا سرديا عما شاهده، ولفت نظره العرضة النجدية أو ما تعرف اليوم بالعرضة السعودية.
يقول العقاد: «العرضة من أحب الرياضات إلى الملك عبد العزيز، هي رقصة مهيبة متزنة تثير العزائم وتحيي في النفوس حرارة الإيمان، ويتفق أحياناً أن يستمع جلالته إلى أناشيدها ويرى الفرسان، وهم يرقصونها فتهزه الأريحية ويستعيد ذكرى الوقائع والغزوات فينهض من مجلسه ويزحزح عقاله ويتناول السيف وينزل إلى الحلبة مع الفرسان، فترتفع حماستهم حين ينظرون إلى جلالته بينهم».
العرضة السعودية، كنز تراثي وإرث وطني للبلاد، ساهمت الأحداث والمحافل في أرجاء المناطق السعودية منذ توحيد البلاد في 1932 وحتى اليوم، في أن تجعلها مسك الختام لأي احتفاء، مما عزز حضورها بين مختلف الأجيال، وفتحت شهية الكتّاب كي تبني قصصها وتأخذ أبعادا في البحث عن أغوارها، ومدى تأثيرها.
وتأتي العرضة السعودية كأيقونة للتراث الشعبي، والتي تشتهر بها منطقة نجد وتم إدراجها مؤخراً ضمن قائمة التراث العالمي غير المادي لدى المنظمة الدولية للتربية والعلم والثقافة «يونيسكو»، إضافة إلى تأسيس مدارس خاصة بتعليم هذه الرقصة الشعبية، وتهدف من خلالها إلى نشر ثقافة العرضة لدى الجيل الجديد وتأصيل روح التراث بهم.
وجاءت العرضة كأول نذر في الحرب آنذاك لتثير حماسة المحاربين وغيرتهم وتزيد من قوتهم لمجابهة العدو، بأشعار تصور الأحداث بدقة وتستشف مشاعر المحاربين، تبدأ بـ«الحوربة» النداء الأول للعرضة، ثم يتجه المنادي إلى تناول أبيات شعرية تصف قومه بالشجاعة والقوة، ليصطفوا على إيقاعات الطبول مطوقين خواصرهم بأحزمة جلدية حاملين بها أسلحتهم كاستعدادٍ للحرب.
وعن قصائد العرضة يقول عبد الله بن خميس المؤرخ والشاعر السعودي في كتابه أهازيج الحرب: «قصيدة الحرب لا تتجاوز في عددها عشرة أبيات تبدأ بإركاب المركوب أو بوصف سحاب مرهب أو بنداء موجه، ثم تتجه القصيدة لتناول العدو وتمزيقه وهزيمته ثم تصف المحاربين بالشجاعة والقوة بمعانٍ بديعة التكوين».
وتؤدى العرضة في صف أو أكثر يقف بها الرجال متراصين كتفاً لكتف، يتوسطهم حامل «الراية» علم السعودية، يرفع بها الرجال سيوفهم تحت أنغام حماسية متناسقة، لتبدأ بأحد أشهر أبياتها «نجد شامت لأبو تركي وأخذها شيخنا» وتنتهي بالنداء الجماعي الإلزامي «تحت راية سيدي سمعٍ وطاعة» الذي يؤكد الولاء للأرض والقائد.
قبل أسابيع، جاء الإعلان عن إنشاء «المركز الوطني للعرضة السعودية» حيث عمل على تدريب المعلمين في مدارسهم قبل نقل هذا الموروث للطلبة، وأكدت دارة الملك عبد العزيز على حضور العرضة السعودية في ملحمة توحيد البلاد على يد الملك المؤسس حيث كان حريصاً عليها قبل انطلاق المعارك، وهي أداء مهيب متزن يثير العزائم ويحيي في النفوس مشاعر الشجاعة، ولا سيما شجاعة الفرسان، وتنقسم العرضة في أدائها إلى مجموعتين، الأولى مجموعة منشدي قصائد الحرب، والثانية مجموعة حملة الطبول، حيث يتوسط حامل العلم صفوف المجموعتين ليبدأ منشدو القصائد في أداء الأبيات وترديدها، ثم يليها الأداء مع قرع الطبول لترتفع السيوف.
وتهدف العرضة في إيقاعها ونظم صفوفها إلى تجميع مشاعر جموعها المصطفة والمتفرجة نحو هدف واحد، كان في السابق جمع حشد المحاربين، كذلك كانت علامة لانتصاراتهم، في أداء حركي تعبيري ممزوج بكلمات الانتماء والوحدة، التي حرصت عليها الفرق الشعبية التي تقدمها بشكل واحد مستذكرة ملاحم الماضي، والحفاظ على بنيتها التاريخية حتى اليوم.
رقصة لا تؤديها الأصوات والطبول الإيقاعية فحسب؛ بل تزينها السيوف البراقة المرفوعة في أيدي العارضين اليمنى، يتوسط تلك الصفوف محمولا العلم السعودي وهو ما يعرف بـ«البيرق»، وعلى يمينه حامله يقف القائد الذي يتمثل عادة في قائد المحفل وراعيه كما كان الملك سلمان بالأمس، ومن قبله إخوته القادة الملوك في تعبير الانسجام على صف القيادة.
ولا تكتمل العرضة النجدية أو السعودية، دون ملابس ذات مزايا تحضر في العرضة بملابسها ذات التشكيل الأشبه بالملابس المعتادة للسعوديين، بل تعد ذات ألوان بصبغة واحدة، تكون متماهية مع الخطوط الذهبية والفضية الفضفاضة والحزام المثلث بألوانه الزاهية وأحزمة المسدسات المعلقة على الأكتاف، فيما تعد كلماتها التي ترددها الصفوف الطويلة نبعا لكلمات التعبير الوطنية، حيث استفادت منها أيضا الأغنية السعودية لدى عدد من المطربين والمؤدين.
وعَرّفت اليونيسكو «العرضة النجدية» على أنها أحد العناصر الرئيسية في التعبيرات الثقافية التي يمارسها المجتمع السعودي، وقالت في تعريفها بعد تسجيلها في اللائحة العالمية، بأنها تعد «أداءً استعراضيا، يجمع بين الرقص، وقرع الطبول، وإلقاء الشعر، لبدء أو إنهاء المناسبات البارزة، مثل الأعياد الدينية، وحفلات الزواج، أو حفلات التخرج من الجامعة، وفي المناسبات ذات الطابع الوطني أو المحلي».
والعرضة النجدية أو السعودية، لا يكتمل مشهدها العام، دون الانضمام أمام قائد الدولة في المناسبات بترديد أهزوجة الختام تحمل في طياتها «السمع والطاعة» متنقلة في مشهدها بين القديم المحارب إلى القوة التي تحكيها الصفوف وأصوات المؤدين، في مشهد الهوية السعودية الكبير.
«العرضة السعودية»... ما هو أعمق من الراية والسيف لدى الملك المؤسس
الملوك جعلوها رقصة الفخر قبل أن يتعرف عليها الطلبة في مدارسهم
«العرضة السعودية»... ما هو أعمق من الراية والسيف لدى الملك المؤسس
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة