المصادفة ومفارقاتها سردياً

حسن عبد الموجود ينوع طرائقها في «حروب فاتنة»

المصادفة ومفارقاتها سردياً
TT

المصادفة ومفارقاتها سردياً

المصادفة ومفارقاتها سردياً

تهيمن المصادفة بمفاجآتها ومفارقاتها العبثية على أغلب قصص المجموعة القصصية «حروب فاتنة» للكاتب القاص حسن عبد الموجود، وتتنقل بتنويعات سردية ومكانية سلسلة في تخوم القص، تحفز القارئ لأن يصبح طرفاً فاعلاً في اللعبة القصصية، وكسر إيهام التوقع لما قد تنتهي إليه. وأيضاً كسر مفهوم الإطلاق التي تفرضه المصادفة بإيقاعها المباغت. لذلك فالكثير من قصص المجموعة هي ابنة المصادفة، أو على الأقل ترتدي أقنعتها، حتى يبدو السرد نفسه وكأنه فعل مصادفة.
فهناك مصادفة المظروف السري، في قصة «دراجة تعيد رفيق الحزب القديم»، وكيف تتحول من كود سياسي إلى أقنوم عاطفي ينتهي بزواج بطلي القصة. وفي «مِعزة جوركي» تتحول مصادفة المِعزة الضالة إلى حرب صغيرة، تعلو فيها وتيرة العبث والسخرية وظنون التجسس، بين الزوج وزوجته، والأب والأم التي تتوهم أن جارتها تتلصص على هاتفها الجوال فتخفيه في أماكن لا تخطر على البال... وتبلغ المصادفة ذروة السخرية، فالمعزة الرافضة للطعام بعد أن تم حبسها في مكتبة السارد الكاتب تلتهم كل تراث الأدب الروسي بالرف الأول، بينما يقبع تحت أظافرها جزء صغير من أحد الأغلفة عليه اسم مكسيم غوركي؛ فيما يجتر مشهد النهاية المزيد من العبث واللامعنى، فتراث جوركي وعائلته يتحولان إلى روث تلفظه المعزة على هيئة كرات سوداء على أرض الشارع. وفي قصة «النوم مع فتاة مودلياني»، تتضافر مصادفة اللوحة نفسها المعلقة خلف مكتب رئيس البنك، ومصادفة النوم في أثناء اليقظة، ثم يتحول المشهد من مرض يعاني منه البطل الموظف إلى حلم بالنوم في اللوحة نفسها، حتى أنه يجلس أمامها متخيلاً أن المرأة العارية خرجت من الإطار، وسوف تنثني بجذعها على ركبتيه... وفي «العرض الأخير» يصبح المشهد بتوتراته العاطفية والجنسية بين البطل وحبيبته مرآة كاشفة لتناقضات الواقع، في لحظة مفصلية من تاريخه تتقاطع فيها ظلال «ثورة 25 يناير»، مع مصادقة الشقة التي تطل على فناء السجن بضاحية المعادي، والتي تتحول نافذتها وستارتها إلى خشبة مسرح، يتبادل عليها البطلان والمساجين التلصص على بعضهما بعضا.. ثم مصادفة زيارة السلطان المفاجئة وموكبه المهول، وما يفرضه من تغيير خطط السير في شوارع مدينة مسقط العمانية حيث تدور أحداث قصة «إشارات حمراء تفضي إلى البحر»، وسط حالة من الهلع تنتاب البطل الذي يسكن على ربوة في منطقة نائية، لم يتخيل يوماً أن يزورها مسؤول، فيغادرها ومعه صديقته، ويظل يقود عربته في شوارع تحولت فجأة إلى متاهة حتى يجد نفسه على شاطئ البحر... وفي قصة «ليلة العقرب»، تطالعنا مصادفة القردة التي تهبط من بين الأشجار وتقذف بالحجارة أبطالها الثلاثة: الزوج المصري المدرس، وزوجته المدرسة الجديدة التي تهفو لرؤيته، وتحملت مشاقاً في صعود الجبل، وناظر المدرسة اليمني، وهما يهرعان به إلى المشفى بعد أن أصيب بلدغة عقرب في موضع حساس بجسده... ترتطم الزوجة بالأحجار وتسقط دامية، ممزقة ثيابها، لكن ناظر المدرسة المريض المتهم بالتربص جنسياً بها، سرعان ما يخلع قميصه ويسترها به، في مصادفة صنعها وعي الكاتب السارد، ليضفي مسحة من التوتر الدرامي للنص.
تتنوع المصادفة ما بين داخل الحكاية وخارجها، وتشكل ماهية ضمائر السرد وتنقلاتها السلسة، من ضمير المتكلم المفرد المسكون بلذة البوح، إلى ضمير الغائب المفتوح على براح الآخر. بينما تسعى الذات في صراعها العبثي مع العالم إلى كسر العلاقات التراتبية الثابتة بين الأشياء والكائنات، خصوصاً في واقع عبثي، اختلطت فيه الأشياء وتداعت إلى حد الشعور بالتقزز واللامعنى. فبطل قصة «ضحكات التماسيح» الرئيس الشهير لإحدى الصحف الخاصة المحسوبة على المعارضة أصبح بعد تقاعده واعتزاله العمل يقيس حياته بمعدل سيجارتين مسموح له بهما طبياً، وتحت وطأة الشيخوخة وافتقاده الإثارة حتى مع زوجته المسنة الشاردة طوال اليوم، لا يجد بديلاً لكسر طوق العزلة سوى أن يتعمد الإثارة، حين يمشي في الشارع أو يجلس بالمقهى موهماً زبائنه بأن تمساحه كان مربوطاً في رجل الكرسي، ويطلب منهم تحريك أرجلهم ليعرف أين زحف... وفي زيارته المفاجئة الثانية الصاخبة للصحيفة وبعد أن يوبخه رئيس تحريرها لتدخله في العمل، ويطرده رجال الأمن خارج المبني، يكرر حيلة التمساح نفسها مع كوكبة من الصحافيين التفوا حوله، وكأنها مرثية لحياة أصبحت خارج الزمن.
يتعاطف الكاتب مع أبطاله، ويلتمس لهم الأعذار والمبررات، فهي شخصيات مهمشة تعيش على الحافة، فيما تبدو مصادفة السقوط العبثي، وكأنها الإطار الوحيد الذي يحفظ لوجودهم مجرد إشارة مضمرة في المشهد.. يطالعنا هذا على نحو خاص في قصة «غرف منسية»، فالبطل موظف في مكتب الاتصال أيام الوحدة بين مصر وسوريا، وبعد أن رقي إلى درجة مفتش وأصبح رئيساً للمكتب الذي عفا عليه الزمن، وصفصف عليه وزميله، يستعيد ملامح زوجته بعد 30 عاماً من وفاتها في جسد «رغدة» الفتاة الشابة التي جلبها زميله لتنظيف المكتب، فيلاطفها ويضرب لها موعداً غرامياً، لكن صورة الزعيم المعلقة على الحائط في الغرفة تصيبه بالضيق والنفور، ممثلة حاجزاً نفسياً بينه وبين رغبته المشتهاة.
تكشف هذه القصة في ثنايا السرد والوصف سيكولوجية رجال النظام الحاكم المسكونة دوماً بالخوف والخنوع، فمحض صورة صماء معلقة على الحائط تقتل الشهوة الإنسانية في أوج تفجرها... في المقابل وعلى الضفة الأخرى المعارضة للنظام لا تختلف الصورة، فبطل قصة «دراجة تعيد رفيق الحزب القديم» أحد كوادر العمل السري بالحزب الشيوعي، مضطرب نفسياً، يعاني من أزمة هوية، تتمثل في أن له أكثر من اسم فهو «توفيق»، أو «تو»، وهو «عبد الرسول»، بينما اسمه الحقيقي «عبد الملاك» يكاد ينساه تحت وطأة هويته المفتتة، فلا أحد يتذكره، أو يناديه به، حتى رفيقته «مونيكا» بالحزب التي يسلمها «مظروفاً» به نقود كل فترة، في موعد ومكان متفق عليهما، لا تعرف هذه الأسماء، وهي أيضا بمثابة لغز، فلا يعرف اسمها الحقيقي، إلا بعد أن يقعا في الحب ويتزوجان بشكل سري. يصف الكاتب شخصية «تو» متوغلاً في داخلها على هذا النحو، قائلاً (ص8) «لا يخشى الموت بقدر خوفه من النسيان، لا يرغب في شهرة بقدر رغبته في أن يبقى اسمه أطول وقت، ولو في ذاكرة شخص واحد».
«تو» الذي يسلمه الحزب دراجة كعهدة للتخفيف من عبء المهام المكلف بها، والذي غادر الحزب بلا رجعة، عقب وفاة زوجته في آخر مهمة لهما قبل أن يسلمها المظروف إثر صدمة سيارة لها في شارع عدلي بوسط القاهرة، بعد عشرين عاماً تغير فيها الحزب، يصر على أن يرجع الدراجة خوفاً من أن يتهمه أحد بالسرقة، فيتم استغلاله بفجاجة وهو ودراجته في الدعاية لصالح الحزب في طوره الجديد. حينئذ تتحول الدراجة من مجرد رمز ضمني في القصة إلى بطل حقيقي. لكن رغم ما تشي به هذه القصة من تعرية جوانب معتمة ومهمة في عالم الأحزاب اليسارية السرية، إلا أن نبرة الشعار السياسي كثيراً ما طغت على حركة السرد، فبدا وكأنه مجرد ظل لها. على العكس من ذلك، وفي بعض القصص، خصوصاً قصة «ماء العقرب وتراب العذراء»، ينفتح المشهد القصصي على تعقيدات الواقع سياسياً واجتماعياً بروح مرحة، فبطله الشاب محرر باب الأبراج بصحيفة قومية، يعي أنه يمارس لعبة، تخفف عنه وطأة العيش وحيداً مع والده بعد وفاة أمه وهجر زوجته له... يستثمر البطل ما ينطوي تحت قشرة اللعبة من مصادفات مخاتلة، في توسيع شهرته ومكانته الوظيفية، مدركاً أن حيل الأبراج واللعب معها لا ينفصلان عن حيل اللعب مع الحياة، كما أنها رغم بساطتها تنطوي على مناطق شائكة ممنوع عليه الاقتراب منها، خصوصاً اللعب مع برج «الثور» لأنه برج رئيس الدولة، وخط أحمر يكتبه رئيس التحرير بنفسه... إن قوة الرمز هنا تكمن في مقدرته على التحليق في النص كإشارة خاطفة على تأرجح اللعبة برمتها، ما بين الحضور والغياب، والقوة والضعف.
يعزز الوصفُ وتنوع طرائقه الفضاءَ السردي الرحب في المجموعة، ويبتكر الكاتب ما يمكن تسميته بثنائية «الضخامة والضآلة» لصنع صورة بصرية تكسر الإطار التقليدي في رسم الشخوص، ورصد انعكاسها، ما بين الضوء والعتمة، وضخامة الجسد وضآلة الروح في الحياة... يطالعنا ذلك في وصفه لضخامة جسد العقيد في قصة «حروب فاتنة» في مقابل هشاشة جسد الجندي، الذي يجد صعوبة في ربط بنطال العقيد المفكوك، حتى يساعده العقيد «بشفط أرطال من الدهون بمخزن سري قرب عموده الفقري». وكذلك نظرته لمدير البنك، في «النوم مع فتاة مودلياني»، الذي يشبهه برسوم الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو المعروفة بضخامة هياكلها البشريّة. وفي «ضحكات التماسيح»؛ حيث يصف زوجة البطل المرأة المسنة بأن «وجهها الضخم لا يتناسب مع جسدها الضئيل» وغيرها.
وهكذا، في هذه المجموعة الشيقة، ليس ثمة «حروب فاتنة»، ابنة صراعات فادحة ومصيرية، هناك مآزق إنسانية وشخوصٌ كل همها التعايش مع مصائرها، بينما تبدو المصادفة وكأنها النافذة الوحيدة الباقية أمامها للاستمتاع بلحظة استثنائية على هامش الحياة، بعيداً عن مكابدات هذه المآزق... إنها إذن «مصادفات فاتنة»، فالحياة بلا مصادفة، سواء في حيزها الضيق الخانق، أو المتسع الباهظ، رتيبة إلى حد الضجر والجنون.



المتحف المصري الكبير يحتفي بالفنون التراثية والحِرف اليدوية

المتحف المصري الكبير يضم آلافاً من القطع الأثرية (الشرق الأوسط)
المتحف المصري الكبير يضم آلافاً من القطع الأثرية (الشرق الأوسط)
TT

المتحف المصري الكبير يحتفي بالفنون التراثية والحِرف اليدوية

المتحف المصري الكبير يضم آلافاً من القطع الأثرية (الشرق الأوسط)
المتحف المصري الكبير يضم آلافاً من القطع الأثرية (الشرق الأوسط)

في إطار التشغيل التجريبي للمتحف المصري الكبير بالجيزة (غرب القاهرة) أقيمت فعالية «تأثير الإبداع» التي تضمنت احتفاءً بالفنون التراثية والحِرف اليدوية وتاريخها الممتد في عمق الحضارة المصرية.

واستهدفت الفعالية التي نُظمت، الأحد، بالتعاون بين مؤسسة «دروسوس» وجمعية «نهضة المحروسة» تسليط الضوء على الدور الذي يلعبه الإبداع في مجالات التراث والفنون والحِرف اليدوية، في الاحتفاظ بسمات حضارية قديمة، كما تستهدف تعزيز دور الصناعات الإبداعية باعتبارها رافداً أساسياً للتنمية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وكذلك إبراز أهمية الابتكار والإبداع في مختلف المجالات.

وأكد الدكتور أحمد غنيم، الرئيس التنفيذي لهيئة المتحف المصري الكبير، أن «هذه الفعالية تعزز روح التعاون والرؤية المشتركة وتشجيع التبادل الثقافي»، لافتاً في كلمة خلال الاحتفالية إلى أن «المتحف المصري الكبير ليس متحفاً تقليدياً، وإنما هو مُجمع ثقافي يحتفي بالتاريخ والثقافة المصرية ويشجِّع على الإبداع والابتكار الذي يرتكز على الماضي لينطلق نحو مستقبل أكثر إشراقاً وتطوراً».

الحِرف اليدوية تحمل طابعاً تراثياً (وزارة السياحة والآثار)

وأوضح غنيم في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن «المتحف عبارة عن منارة ثقافية هدفها ليس فقط عرض الآثار، لكن أيضاً عرض التراث المصري سواء المادي أو غير المادي، وربطها بالحضارة المصرية القديمة وعبر عصور مختلفة وصولاً إلى العصر الحديث».

وتضمنت الفعالية جولة بالمتحف تمت خلالها زيارة البهو، حيث تمثال الملك رمسيس، والدَّرَج العظيم، وقاعات العرض الرئيسة، وكذلك المعرض الخاص بالفعالية، كما اختتمت فرقة «فابريكا» الفعالية، حيث قدَّمَت أوبريت «الليلة الكبيرة»، وفق بيان لوزارة السياحة والآثار.

ويضيف الرئيس التنفيذي لهيئة المتحف أن «الجمعيات الأهلية أو الجهات المتخصصة والمعنية بالتراث نحاول أن نعرضها في المتحف بشكل لائق ومشجع لمن يقومون على هذه الحِرف والفنون».

جانب من فعالية «تأثير الإبداع» للفنون التراثية والحِرف اليدوية (وزارة السياحة والآثار)

وأشار إلى أن الفعالية تضمنت عرض مجموعات من الخزف وكذلك فنون على الأقمشة والأعمال الخاصة بالخشب وأعمال متنوعة في المجالات كافة.

ويعدّ المتحف المصري الكبير من أهم المتاحف المصرية المنتظر افتتاحها، ووصفه رئيس الوزراء المصري في تصريحات سابقة بأنه سيكون «هدية مصر للعالم»، ويقع المتحف على مساحة 117 فداناً، ضمن مشهد مفتوح على منطقة الأهرامات الثلاثة، وتُعوّل مصر عليه كثيراً في تنشيط الحركة السياحية، ومن المنتظر أن يشهد عرض المجموعة الكاملة لآثار الفرعون الذهبي توت عنخ آمون التي يتجاوز عددها 5 آلاف قطعة لدى افتتاحه الرسمي بشكل كامل.

وتضمنت الفعالية التي شهدها المتحف رحلة عبر الزمن اصطحبتهم من الماضي حيث الحضارة الخالدة، مروراً بالحاضر ورموزه الفنية، نحو صورة لمستقبل أكثر ابتكاراً وإبداعاً.

وتعدّ فعالية «تأثير الإبداع» إحدى الفعاليات المتنوعة التي يستضيفها المتحف المصري الكبير في إطار التشغيل التجريبي الذي يشهده ويتيح لزائريه زيارة منطقة المسلة المعلقة، والبهو العظيم والبهو الزجاجي، والمنطقة التجارية، بالإضافة إلى قاعات العرض الرئيسة التي تم افتتاحها جزئياً.