قيس سعيّد... «مثقف فقير» أيده شباب تونس ونساؤها

يدخل جولة انتخابات الرئاسة الثانية الحاسمة مدعوماً بتأييد معظم منافسيه السابقين

قيس سعيّد... «مثقف فقير» أيده شباب تونس ونساؤها
TT

قيس سعيّد... «مثقف فقير» أيده شباب تونس ونساؤها

قيس سعيّد... «مثقف فقير» أيده شباب تونس ونساؤها

صدمت نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية التونسية غالبية المراقبين وصنّاع القرار داخل تونس وخارجها، بعدما احتل المرتبة الأولى المرشح قيس سعيّد، المثقف والحقوقي المستقل عن كل الأحزاب و«اللوبيات» السياسية والمالية والجهوية. ولقد وصفت وسائل الإعلام، وكذلك شخصيات تونسية بارزة، تصدُّر سعيّد الجولة الأولى بـ«الصاعقة» و«الزلزال» لأن حظوظه وافرة جداً في كسب الدورة الثانية من الانتخابات التي يتنافس فيها مع رجل الأعمال الموقوف في السجن نبيل القروي. وللعلم، أزاح سعيّد والقروي من السباق 24 مرشحاً، بينهم مَن أنفقوا أموالاً طائلة في حملاتهم الانتخابية داخل البلاد وخارجها، بينهم رئيس الحكومة يوسف الشاهد، ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، ورئيس الحكومة الأسبق المهدي جمعة، ورئيس الجمهورية الأسبق المنصف المرزوقي، وعبد الفتاح مورو رئيس البرلمان القيادي في «حركة النهضة»، والوزير السابق زعيم حزب «مشروع تونس» محسن مرزوق، وزعيمة الحزب الدستوري عبير موسي...
فمن هو قيس سعيّد الذي أعلن معظم منافسيه في الدور الأول وأحزابهم دعمه في الدور الثاني رغم انتقاداتهم السابقة له؟ ولماذا نال ثقة عشرات الآلاف من المتطوّعين الشباب والنساء والمثقفين المستقلين؟
عرفت أجيال من طلاب الجامعة التونسية، منذ أكثر من 30 سنة، قيس سعيّد مدرّساً «جدّياً جداً» وخلوقاً ومتواضعاً، لا يتغيب أحد عن دروسه التي يعشقون فيها عمقه وفصاحته باللغتين العربية والفرنسية، وتمضيته ساعات أسبوعياً معهم للرد على أسئلتهم وتوجيههم منهجياً... في مكتبة كلية الحقوق القانونية والسياسية والاجتماعية وقاعات محاضراتها، ثم في المقهى التابع لها.

نظافة يد وعمق معرفي
ولد قيس سعيّد عام 1958 في العاصمة التونسية تونس لعائلة شعبية تنحدر من بلدة بني خيار، في محافظة نابل بمنطقة الوطن القبلي الزراعية والسياحية، على بعد 80 كلم جنوب شرقي العاصمة. ولقد برز من بين عائلة سعيّد عدد من القضاة وكبار المثقفين والنشطاء السياسيين والمسؤولين، بينهم شقيقه المحامي والأستاذ الجامعي في العلوم السياسية والقانونية نوفل سعيّد، ومفتي الديار التونسية السابق الشيخ حمدة سعيّد.
يكتشف كل من واكب الشعبية الكبيرة التي حصل عليها قيس سعيّد، المثقف والإنسان، في المواقع الاجتماعية منذ ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 أن المعجبات والمعجبين بشخصيته والمطالبين منذ سنوات بتكليفه مسؤولية عليا في الدولة «ليحارب معهم الفساد» يقدّرون تواضعه ونظافة يديه وعمقه المعرفي ونقده اللاذع للفساد والرشوة ومنظومة الاستبداد كاملة.
كذلك، ينوّه هؤلاء بوقوفه على مسافة واحدة تقريباً من كل التيارات الفكرية والسياسية والحزبية؛ ما جعله يكتسب مصداقية عند انتقاده ثغرات «دستور 2014» وغلطات السياسة وصنّاع القرار والأحزاب، مع نأيه في الوقت نفسه عن كل أنواع السبّ والشتم أو التزلّف والنفاق.
ولقد شهد كبار أساتذة المدرّس الشاب قيس سعيّد وزملاؤه مثل عياض بن عاشور، وعبد الفتاح عمر، والصادق بلعيد، وهيكل بن محفوظ، وفرحات الحرشاني، ورافع بن عاشور بما تميّز به سعيّد منذ التحاقه بأسرة الأساتذة في جامعة الوسط في سوسة عام 1986، ثم في جامعة قرطاج في العاصمة عام 1994، من جدّية وإقبال على الدراسات والأبحاث التي تربط بين إصلاح نظام الحكم في البلاد ومحاربة الفساد والاستبداد بتعديل القوانين والدستور. وحقاً، أهّله هذا الإقبال ليصبح عضواً ثم نائباً لرئيس الجمعية التونسية للقانون الدستوري، ويبرز ناشطاً في المجتمع المدني من أجل تغيير النظام السياسي عبر بوّابة تغيير القوانين و«دستور 1959».
ورغم إحجام سعيّد عن الانخراط في منظومة الحكم قبل 2011 وبعدها، ساهمت دراساته وكتاباته ومحاضراته القانونية السياسية في أن تصنع منه شخصية عمومية لها حضورها في وسائل الإعلام الجدية والمؤسسات الثقافية والعلمية والسياسية النخبوية. أيضاً، برز سعيّد خصوصاً بمقترحاته وحول عدد من مشاريع الانتقال الديمقراطي، واستبدال فصول «الزجر والردع» في القوانين المنظمّة للشأن العام والعلاقة بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية تحرّرية وديمقراطية.

«ثورة الصندوق»
من جهة أخرى، تحرّك تيار من المُعجبات والمُعجبين بقيس سعيّد عشية انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2011 ونوفمبر (تشرين الثاني) 2014 لترشيحه الانتخابات، لكنه اعتذر، واتفق معهم على ألا يشارك فيها لامتناعهم عن انتقاد كامل المشهد السياسي وقتها ودور «لوبيات» المال والإعلام فيها.
بل، واعترف سعيّد للصحافيين بأنه لم يشارك سابقاً في أي عملية اقتراع. وشاءت الأقدار، قبل أيام، أن يشارك في انتخابات 2019 لأول مرة ناخباً ومرشحاً، ثم أن يكون الفائز الأول في الدور الأول... والأوفر حظاً بالفوز في الدور الثاني بعدما أعلنت غالبية القوى السياسية دعمه ضد منافسه نبيل القروي.
سعيّد برّر موافقته هذا العام على الاقتراع والترشح للرئاسة بقناعة تولّدت لديه بعد حوارات استمرت لسنوات مع عدد من أصدقائه والمعجبين به ممن صاغ معهم مشروعاً شاملاً لإصلاح الحياة السياسية. يبدو أن هؤلاء اعتبروا أنه قابل للتطبيق إذا انتصرت «ثورة الصندوق»، أي صندوق الاقتراع، بما سيفتح أبواب التفاؤل أمام ملايين الشباب العاطل عن العمل والمهمّش... والفقراء والمثقفين وضحايا الرشوة والاستبداد.
وكانت كلمة السر في تصريحات سعيّد بعد الإعلان عن نتائج الدور الأول من انتخابات 15 سبتمبر (أيلول) هي نجاح «ثورة الصندوق» في إعادة الاعتبار لشعار شباب الثورة في 2011 الذي وضعه شعاراً لحملته الانتخابية «الشعب يريد»، أي يريد تغيير النظام وإصلاح أوضاعه.

من الجامعة إلى مخيمات «شباب الثورة»
هذا، وفي حين يعتبر البعض قيس سعيّد «صندوقاً أسود» و«شخصية غامضة ومجهولة»؛ لأنه من أكثر الخبراء والحقوقيين حرصاً على الابتعاد عن الأضواء، فإن أنصاره من شباب المواقع الاجتماعية والجمعيات الحقوقية يروّجون حوله منذ أكثر من 8 سنوات نصوصاً وفيديوهات تبرزه في موقع المُصلِح حيناً والمصارع البطل في الحلبة حيناً آخر. ولا يخلو الأمر، كذلك، من التهجّم على الذين يسخرون منه لإصراره على استخدام اللغة العربية الفصحى بأسلوب خطابي ورفضه التكلّم باللهجة العاميّة التونسية.
ولكن بعد فترة غير قصيرة من التهكّم على سعيد وأنصاره بين «جيش» «فيسبوك» و«يوتيوب» و«تويتر»...الخ، برزت قصة نجاح لأكاديمي «فقير» راتبه في حدود 700 دولار أميركي (1600 دينار تونسي) يمتلك سيارة صغيرة متواضعة وشقة أنجزها مع زوجته القاضية في محكمة العاصمة تونس.
أصبح قيس سعيّد من أبرز المتخصّصين في الدراسات القانونية والسياسية الأكاديمية، لكنه نزل من علياء الجامعة، وغادر أسوارها. وجرّب النضال الميداني من خلال زياراته للجهات المُهمَّشة والفقيرة ولمخيمات المعتصمين والمضربين من الشباب العاطل عن العمل في العاصمة تونس والمدن الداخلية الفقيرة، وخاصة في المحافظات التي اندلعت فيها الانتفاضة الشبابية والثورة الشعبية في أواخر 2010 ومطلع 2011 مثل سيدي بوزيد والقصرين والقيروان.
وعرف سعيّد مع ثلّة من المثقفين والحقوقيين القريبين من تيار اليسار المعتدل بالتقرب من «شباب الثورة» وتمضية ساعات معهم كل مرة تخصص للحوار والاستماع إلى مقترحاتهم للتغيير.
إلا أنه عشية انتخابات 15 سبتمبر اختار سعيّد ألا ينظم حملة انتخابية تقليدية وتجمّعات ضخمة تلقى فيها الخطابات، بل جلس ومجموعة من رفاقه مع عموم الناس في الأسواق والساحات العامة والمقاهي للاستماع إلى مشاغلهم ومطالبهم ومقترحاتهم.

تجارب مع اليسار «الراديكالي»
وكان من بين مفاجآت سعيّد أنه، مثلما أوضح بنفسه، رفضه التمويل الذي تمنحه الدولة للمرشّحين والعروض المالية لرجال الأعمال، كما امتنع عن المشاركة في معظم الحوارات التلفزيونية والإذاعية. وتبين لاحقاً أن بعض منافسيه البارزين خسروا عشرات الآلاف من الأصوات بسبب قبولهم إجراء حوارات في قنوات يتّهمها تيار شعبي كبير بالانحياز والرداءة، وبتوظيف إعلاميين ومنشطين من خريجي السجون بسبب ملفات فساد مالي كبيرة.
في حينه، انتقد بعض خصوم سعيّد سلوكه واتهموه بالانتماء إلى «التيار الفوضوي» وتقليد «الفوضويين» الأوروبيين الذي تمرّدوا على كل منظومات السلطة والمجتمع، إلا أن أصدقاء سعيّد وزملاءه وطلبته في الجامعة يفنّدون هذه التهمة. إذ يشير هؤلاء إلى أنه كان قريباً من التيار الطلابي اليساري عندما كان شاباً. بل كان أقرب إلى الزعماء اليساريين والنقابيين الذين انشقوا عن الحزب الشيوعي التونسي وعن أنصار الزعيم الصيني ماو تسي تونغ... وتبنّوا أفكار «القادة البراغماتيين» في الصين الذين انتفضوا على «الماوية» داعين إلى الانفتاح على القيم الديمقراطية وتجاوز المقولات الدوغمائية السابقة.
وبالفعل، كانت حصيلة هذه التجربة، أن أسند قيس سعيّد رئاسة فريق حملته الانتخابية لأحد زعماء اليسار الطلابي السابقين، ورفاقه في الجامعة قبل 35 سنة، رضا شهاب المكي الذي عُرف وقتها باسم «رضا لينين» نسبة إلى زعيم الثورة البلشفية الماركسية اللينينية في أكتوبر1917، لكن المعروف عن سعيّد أنه كان طوال العقود الماضية أبعد ما يكون عن الماركسية وعن مواقف لينين، لدى اقترابه من التيار الديمقراطي الاجتماعي الذي يطالب بالإصلاح والتغيير، مع التأكيد على شعارات التحرّر الوطني اقتصادياً وثقافياً، وعلى الاعتزاز بالثقافة العربية الإسلامية.

ليبرالي سياسياً
واستطراداً، حرص سعيّد على تثبيت استقلاليته السياسية والحزبية خلال مشاركاته في مهمات علمية وقانونية في تونس، وفي القاهرة مع الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وفي عدد من العواصم الأوروبية. وأغضب ذلك المسؤولين في الدولة والحزب الحاكم، وخاصة عامَي 2001 و2002، عندما انتقد في سلسلة حوارات نظمتها صحيفة «الصباح» التونسية مع خبراء في العلوم السياسية حول مشروع الاستفتاء العام الذي تقدّمت به السلطات لتعديل الدستور. وكان الهدف السماح بترشّح الرئيس زين العابدين بن علي لدورة جديدة وإلغاء شرط منع البقاء في الحكم أكثر من 15 سنة.
وتميّز سعيّد بانتقاداته للمشروع الحكومي الذي وعد بانتقال تونس من «الجمهورية الأولى» إلى «الجمهورية الثانية»، ورد عليه متهكماً بجملة شهيرة «تونس لن تنتقل من الجمهورية الأولى الجمهورية الثانية، بل إلى الجمهورية الأولى مكرّر».
المصطلح نفسه استخدمه سعيّد بعد ثورة يناير 2011 والمصادقة على «دستور 2014»، وعودة الحديث عن «جمهورية جديدة» و«جمهورية ثانية» فقال «إنها جمهورية عدد واحد مكرّر»، وانتقد انتهاكات السياسيين في الحكم والبرلمان لروح الدستور والقانون وتبادلهم الترضيات السياسية. ولعله، اكتسب جانباً كبيراً من شعبيته بسبب تلك الانتقادات التي وجد فيها المعارضون والشباب به «زعيماً جريئاً».

حداثي... أنصاره من النساء والشباب
في هذه الأثناء، وظّف خصوم سعيّد ماضيه اليساري الظرفي، عندما كان طالباً، ثم دفاعه عن الهوية العربية الإسلامية واستشهاده ببعض الآيات القرآنية، ولا سيما المتصلة بالإرث منها، ليتهموه حيناً باليسراوية وحيناً آخر بالسلفية والتحالف مع المتشدّدين دينياً. لكن سعيّد والمقربين منه فنّدوا دوماً تلك الاتهامات. وجاء رد سعيّد تعقيباً على الحملات التي تستهدفه بتأكيد عراقة مواقفه الحداثية والوسطية ورفض التطرف بأنواعه. كذلك، ردّ المتطوّعون من أنصاره على تلك الحملات بنشر صورة نادرة التقطها الصحافيون له مع زوجته القاضية إشراف شبيل التي ظهرت إلى جانبه بلباس أوروبي أنيق لأول مرة يوم الاقتراع في مدرسة ابتدائية عمومية بالقرب من مسكن أسرته في حي النصر بأريانة (ضواحي تونس العاصمة) حيث درس أبناؤهما الثلاثة.
ولقد نوهت كلثوم كنو، القاضية اليسارية المعارضة والرئيسة السابقة لجمعية القضاة، بسمعة زوجة سعيّد وهي مستشارة في محكمة الاستئناف في العاصمة تونس ونائبة رئيس المحكمة الابتدائية بتونس.
ختاماً، هل يكون قيس سعيّد بعد الجولة الثانية الحاسمة للانتخابات الرئاسية التونسية أول رئيس تونسي «صنعه الشباب وأبناء الطبقات الشعبية» من المتمردين على الأحزاب والطبقة السياسية التقليدية؟ وهل تصبح القاضية إشراف شبيل «سيدة تونس الأولى» بعدما كانت بدورها مغمورة بين مكاتب المحاكم؟



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».