وكأنه عدة معارض في معرض واحد... أو نزهة فنية في دروب مصرية وأفريقية تنتقل خلالها بين أفكار وموضوعات وشخوص وأمكنة مختلفة، لدرجة أن المتلقي قد يظن أنه لا رابط بينها سوى الأسلوب الفني والمساحات اللونية، إلا أنه سريعا ما يكتشف أن ثمة خيطا آخر يجمع بين أقسام المعرض المتعددة، وهو العودة إلى الجذور والأصالة الحاضرتين بقوة في الأعمال الفنية، إلى جانب النوستالجيا التي تعاظم إحساس المصريين بها خلال السنوات القليلة السابقة.
الفنان المصري وائل حمدان تارة يعود بنا عبر معرضه «كريشندو» المقام حالياً بغاليري «أرت كورنر» إلى بداية عشرينات القرن الماضي، من خلال مجموعة لوحات تقوم على فكرة الصور والبورتريهات العائلية القديمة، والتي تشبع حنين المصريين للماضي، وتارة أخرى يكون الحنين إلى مكان مسكون بعبق التاريخ، حيث ننتقل من هذه الأجواء العائلية الحميمة إلى مجموعة أخرى من الأعمال الفنية بالمعرض يأخذنا عبرها في رحلة إلى منطقة القرنة الواقعة على الشاطئ الغربي للنيل بجنوب مصر؛ لنعيش أجواء أخرى من الأصالة والدفء، حيث المناظر المشحونة بالتفاصيل وبامتداد النيل وروعة الطبيعة وعراقة معمار البيوت القابعة على المرتفعات والجبال، إلى جانب الفرق الموسيقية التي تستدعي من فلكلور الصعيد العتيق ألحانه وآلاته ببصمتها الفنية المغايرة.
يقول حمدان لـ«الشرق الأوسط»: «جاءت الأعمال كنوع من التوثيق لمرحلة زمنية تغازل الجمهور دوماً، وتحفزه على تأملها، ولا أقدمها اعتباطاً، إنما قمت بدراسة أدق تفاصيل الصور الفوتوغرافية قديماً من حيث ترتيب أفراد الأسرة عند التصوير وطريقة وقوفهم وجلوسهم وملابسهم ونظراتهم وتصفيف الشعر والأسلوب الفني في التصوير، والفراغ في الكادرات، وغير ذلك من تفاصيل كانت تسكن هذه الصور، لأقدم سرداً بصريا لها، عبر نحو 25 اسكتشا فنيا».
وتماهياً مع عنوان المعرض «كريشندو» وهي كلمة إيطالية أصبحت مصطلحاً موسيقياً، ويعني ازدياد مستوى الصوت تدريجياً، ننتقل إلى مستوى آخر من الارتباط بالجذور، والتي تُعد تجسيداً للحياة الفطرية التي لا تزال تتمسك بها بعض القبائل الأفريقية، يقول وائل حمدان: «جذبتني هذه القبائل وتوقفت طويلاً أمام إصرارها على الإبقاء على جذورها، في عاداتها وتقاليدها وملابسها وفنونها التقليدية وتواصلها مع الطبيعة، فاستفزني ذلك فنياً والتقى مع ولعي بمفهوم الجذور، لا سيما في ظل الارتباط التاريخي والمكاني لمصر بأفريقيا».
ورغم أن الوجوه الأفريقية اجتذبت خلال الفترة الأخيرة كثيرا من التشكيليين المصريين، فإن حمدان نجح في تقديم رؤية مغايرة تخلصت من الطابعين التجاري والاستشراقي التقليدي لها واللذين يسودان بعض الأعمال الفنية، إلى حد أن بعض لوحاته تسقط الجانب الجمالي للوجوه، إلا أنها في الواقع تحمل بين طياتها جمالاً خفياً، بما يبثه عبرها من طاقة إيجابية أو مشاعر نبيلة أو تمسك بتراث الأجداد، وتتميز هذه المجموعة بالسمات والعناصر اللونية المبهجة، والألوان الصريحة القوية.
هذا الارتباط بالجذور ليس جديداً على الفنان وائل حمدان، فقد سبق له في معارضه السابقة أن وجه احتفاءً خاصاً بالقاهرة الإسلامية بأسلوب فني يعرف باسم «منظور عين الطائر»، كما أنه كثيراً ما اصطحب المتلقي عبر لوحات أخرى في جولات إلى قرى النوبة والحارات والأزقة العتيقة في القاهرة، إضافة إلى لوحاته المستقاة من التراث الشعبي كراقص التنورة أو الواقع المصري اليومي مثل مجموعته الفنية «الفسبا».
كما أن ارتباطه بالجذور لا يدعو للدهشة بالنسبة لفنان ينتمي إلى أسرة لها باع طويل في الأدب والثقافة والتاريخ، يقول: «فُتحت عيناي على تذوق الفن والنهل من الثقافة، ورؤية جمال العمارة حيث نشأت في منطقة وسط البلد، وتأملت معالم العمارة الإسلامية والأوروبية»، ويتابع: «كما تغذيت على ما تضمه مكتبة والدي من روائع مصورة عن القاهرة الخديوية، فقد كان أديباً وتلميذاً لعباس العقاد»، ويلفت: «وعمى هو المؤرخ جمال حمدان صاحب كتاب (شخصية مصر)، والذي ربما لا يعرف الكثيرون عنه أنه كان يرسم بورتريهات تم نشرها بمجلة (الهلال)، ويتبع فيها الكلاسيكية الأوروبية، وقد تأثرت بذلك كله أثناء محاولاتي للعودة إلى الجذور».
تأثر الفنان بعمله في مجال الدعاية والإعلان وفن البوستر واضح في الأعمال الفنية، إذ يُعد التصميم عنصراً حاضراً حتى في الخلفية، التي لم يكتف حمدان فيها بلون واحد، ولم يرض لها بالسكون، إنما قام بوضع تصاميم لها تتضمن بعض العناصر الهندسية، وضربات الفرشاة، والموتيفات والرموز المأخوذة من التراث، كما أن الألوان القوية الصارخة تعتبر جزءا من التصميم ذاته.
ووسط هذا الزخم الفني الأصيل تطل علينا في المعرض لوحة واحدة لـ«كوكب الشرق» أم كلثوم، وعن هذه اللوحة يقول: «أردت أن أدعو المشاهد من خلال هذه اللوحة إلى مشاركتي ميلاد تجربة جديدة، وهي مرحلة سأقوم فيها برسم بورتريهات لمشاهير تركوا بصماتهم في الفكر والفن والثقافة بأسلوب البوب آرت، للمزج بين الجذور والحداثة».
أعمال فنية تستلهم حنين المصريين للعودة إلى الجذور
تشكيلي مصري يستعرض دفء الحكايات عبر 25 لوحة
أعمال فنية تستلهم حنين المصريين للعودة إلى الجذور
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة