مدير «بي بي سي» العربية: إيجاد طرق جديدة لنقل الأخبار هو التحدي الجديد

كفالة أكد في حوار مع «الشرق الأوسط» حرص القناة على عدم الانحياز.. رغم انتقادات تغطيتها للعدوان على غزة

طارق كفالة
طارق كفالة
TT

مدير «بي بي سي» العربية: إيجاد طرق جديدة لنقل الأخبار هو التحدي الجديد

طارق كفالة
طارق كفالة

يأمل طارق كفالة، مدير «بي بي سي» العربية، أن يغطي في المستقبل خبر اتفاق سلام دائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وقال الصحافي الذي يعمل من مكتبه بلندن بعد سنوات ميدانية في السعودية وليبيا والبوسنة وغيرها، ضمنها تجارب وذكريات شتى، كالإصابة بطلق ناري في رام الله واعتقال في مصراتة: «إن القناة تلتزم بعدم الانحياز والمحافظة على التوازن، رغم الانتقادات المستمرة». ونوه بأنه يدير خدمة «بي بي سي» العربية منذ عام 2013، التي يعتمد عليها أكثر من 23 مليون شخصا، تحت هدفين، وهما «بناء خدمة قادرة على مواكبة العصر، وتوفير مادة إعلامية متميزة لا يجدها المستمع أو المشاهد أو حتى القارئ في أي مكان آخر».
وأكد كفالة، الذي يتكئ على أكثر من 20 سنة من الخبرة بمختلف الوسائط الإذاعية والتلفزيونية والإلكترونية، أنه، في ظل نمو الإعلام الإلكتروني «يكمن التحدي في التكيف مع الواقع الجديد، وإيجاد طرق جديدة للتغطية الإخبارية، والوصول للجمهور». ومع أن رغبته الأولى كانت الانغماس في العالم الأكاديمي، لم يندم على الدخول إلى عالم الصحافة البتة. وأضاف أنه في طور «إعداد تقرير لـ(بي بي سي) يتنبأ بتطور الخدمات الإخبارية بعد 5 أعوام، وبعد 20 عاما».
وفي حديث خاص مع «الشرق الأوسط» أطلعنا مدير خدمة «بي بي سي» العربية العريقة التي انطلقت منذ عام 1938 على رسالة عنوانها الموضوعية والشفافية، مع توقعاته السياسية للعالم العربي جراء ما يُسمى بـ«الربيع العربي»، وآرائه الإعلامية، بما فيها الصفات التي ينبغي أن يمتلكها صحافي «بي بي سي»، وفيما يلي نص الحوار الذي يتطرق كفالة من خلاله إلى التحديات التي تواجهها خدمة «بي بي سي» العربية لمواكبة منافسيها الذين ازدادوا في الآونة الأخيرة.
* كيف بدأت حياتك المهنية صحافيا؟ وهل أصبحت عند لحظة معينة على يقين بأنك اخترت الوظيفة المناسبة؟
- كانت رغبتي هي أن أكون أكاديميا، وليس صحافيا. كانت البداية عندما تقدمت لوظيفة «متدرب» كانت معلَنة على موقع «بي بي سي» العربية وحصلت عليها. لم ينتبني الشعور بالندم على الإطلاق، فقد كانت وظيفة ممتعة مليئة بالتحديات والتغيرات المفاجئة
* ما أول قصة صحافية كتبتها أو غطيتها؟ ومتى نُشرت؟
- لا أذكر، فهذا كان أكثر من 20 عاما.
* هل قمت بتغطية قصص من مناطق النزاع؟ وهل ما زالت الذكريات التي عشتها في ذهنك إلى الآن؟
- عملت صحافيا في مناطق كثيرة، منها الأراضي الفلسطينية وإسرائيل والعراق واليمن ومصر وليبيا ولبنان والسعودية والبوسنة. وعندما كنت أصغر سنا، كنت دائما أشعر بالحماس للعمل في مناطق الأزمات. تبقى بعض من الذكريات واضحة بشكل كبير، مثل اليوم الذي ضللت فيه طريقي في الفلوجة، وإصابتي بعيار ناري في رام الله، واعتقالي في مدينة مصراتة الليبية.
* ما القصة التي تأمل أن تكتبها أو تغطيها قريبا؟
- آمل أن يكون بإمكاني تغطية اتفاق السلام الدائم والنهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
* ما الصحف اليومية العربية والأجنبية التي تتابع قراءتها بشكل يومي؟
- أقرأ ملخص جميع الصحف العربية والدولية الرئيسة بشكل يومي، الذي يصل من خلال قسم الأبحاث التابع لـ«بي بي سي»، وصحيفة «إيكونوميست» الأسبوعية هي المفضلة لدى.
* ما المدونة المفضلة بالنسبة لك؟ وما الموقع الإلكتروني المفضل؟
- «الأرابيست».
* من كان قدوتك في الإعلام؟
- 3 محررين كانوا مهمين جدا ومؤثرين بالنسبة لي، وهم: عارف حجاوي، حيث كان يشغل منصب مدير البرامج في قسم «بي بي سي» العربية، وذلك في فترة بدايتي، فقد كانت لمهنيته والتزامه في العمل الصحافي الأثر الكبير في نفسي. وأيضا، لسنوات عدة عملت تحت إدارة الصحافي مارتن بروتون، في قسم الوثائقيات التابع للراديو، حيث كان أفضل ناقد لعملي على الإطلاق، وتعلمت منه الكثير. وأخيرا ستيف هيرمان، الذي كان محررا لموقع «بي بي سي» إلكتروني الناطق بالإنجليزية، في فترة شهدت تغييرات ضخمة، وأنا الآن بصفتي مديرا أحاول الاحتذاء به.
* ما الشخصية الإعلامية، حسب رأيك، الأصلح كمثل أعلى يُحتذى في الإعلام المرئي والمسموع في بلدك؟
- في بريطانيا، ليز دوسيت، وهي من أبرز مراسلي إذاعة وتلفزيون «بي بي سي» الذين أعجب بهم. وفي «نيويورك تايمز»، كنت أتابع باستمرار مقالات الصحافي الراحل أنتوني شديد. وأيضا من بين الصحافيين المتفانين بعملهم الذين أعرفهم، وهو من أكثر الصحافيين شجاعة، شهدي الكاشف، مراسل «بي بي سي» العربية في قطاع غزة.
* من كاتبك المفضل محليا وعالميا؟
- هذا يتغير في كل الأوقات. حاليا، كاتبي المفضل هو خافيير ماريس وتشينوا أشيبي.
* في رأيك، ما أنجح قصة إخبارية قدمتها حتى الآن؟
- الكثير من القصص التي أشعر بالفخر بها، بعضها قمت بكتابتها شخصيا، والبعض الآخر كتب بناء على اقتراحي وتحت إشرافي، فمن الصعب أن أسمي قصة واحدة دون الأخريات.
* هل تعمل حاليا على كتابة كتاب أو مشروع معين؟ وما هو؟
- حاليا، أقوم بإعداد تقرير لـ«بي بي سي»، نحاول من خلاله التنبؤ بتطور الخدمات الإخبارية بعد 5 أعوام وبعد 20 عاما.
* بعد أكثر من 3 سنوات على ما يُسمى بـ«الربيع العربي»، هل أنت محبط بما آلت إليه الأمور في الدول العربية عموما؟ وليبيا على الخصوص؟
- أصبح ما يسمى «الربيع العربي» معقدا بشكل كبير مقارنة بالأيام الأولى، بداية عام 2011. فكل دولة لها مشاكلها الخاصة، وبالتأكيد كل منها ذهب لوجهه معينة. ففي تونس، حصل هناك تطور، وبالتالي هناك أمل في تشكيل حكومة أفضل، وفي تطور الاقتصاد والحياة السياسية، فما جرى تحقيقه هناك هو أمر مثير للإعجاب بكل المقاييس. في مناطق أخرى، جلب عام 2011 الحرب والفوضى من دون أي تطور أو تغيير، فهو مشهد متشابك وتأثيرات عام 2011 لا يمكن رؤيتها أو معرفتها إلى الآن، وليس في أي وقت قريب.
* كيف ترى مستقبل ليبيا؟ هل هناك إمكانية لوحدة وطنية مع التيارات الإسلامية والميليشيات؟ وهل أنت مع التدخل الخارجي؟
- في ليبيا، هناك شعور بالخوف من الأسوأ، ولكن يبقى الأمل موجودا. لا أعرف ما يخبئه المستقبل، ولكن الواضح أن ما يجري الآن ليس من مصلحة أحد، وليس لصالح أحد. لدى الليبيين عقول مستقلة. يحتاج الليبيون إلى المساعدة لتطوير مؤسساتهم وإعادة بناء البنية التحتية. ويبقى التدخل السياسي والعسكري من قبل جهات أجنبية غير مضمون العواقب في أغلب الأحيان.
* اتهمتكم بعض الأطراف بالتحيز إلى الجانب الفلسطيني خلال تغطية النزاع في غزة أخيرا. ما ردكم على ذلك؟
- من خلال تغطيتنا للصراع الذي وقع أخيرا في قطاع غزة، تعرضنا للانتقاد من قبل الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، وهذا غير اعتيادي. عندما نهدف من خلال تغطيتنا أن نحافظ على التوازن، وأن نقوم بشرح التغطية الإخبارية، كثيرون لا يقومون بتغطيتها وشرحها، فعندها قد يؤدي ذلك بالشعور بعدم الرضا من قبل بعض المتابعين. إن أساس العمل الصحافي لدينا هو التوازن والموضوعية اللذان يقومان على مبدأ العدالة، والانفتاح على كل الأصوات وطرح الأسئلة التي نشعر بأن الجمهور يريد إجابات عنها. نحن نعمل للحفاظ على تلك المبادئ من خلال تدريب صحافيينا، وتأسيس ثقافة داعمة للمصداقية والمراقبة لما نقوم ببثه بشكل مكثف.
* ما الدور الذي تلعبه خدمة «بي بي سي» العربية في عالم الإعلام والأخبار؟ وما الذي يميزها عن غيرها من الخدمات الإخبارية العربية؟
- مهمة «بي بي سي» العربية هي تغطية الأخبار، ثم شرحها للمشاهد من دون تحيز لأي جهة، وعجزنا عن القيام بذلك يعني خسارة الجمهور. كما أسلفت، دورنا هو تغطية القصص التي لا يقوم الآخرون بتغطيتها بطريقة جديدة ومبتكرة. لديّ هدفان: الأول، بناء خدمة قادرة على مواكبة العصر وملائمة لاحتياجات الجماهير الجديدة. والثاني، هو توفير مادة إعلامية متميزة لا يجدها المستمع أو المشاهد أو حتى القارئ في أي مكان آخر.
* في ظل خفض الميزانية والتقشف الذي تشهده «بي بي سي» والخدمة العربية بالأخص، كيف ستواكب الخدمة القنوات والصحف الإلكترونية الأخرى؟
- المنافسة تشتد في سوق الإعلام يوما بعد يوم، ونحن نؤمن بأننا نقدم منتجا إعلاميا متميزا تزيد بفضله أعداد جمهورنا كل عام. ولكن هذا لا يضمن بالضرورة نجاحنا. لنتمكن من البقاء والمنافسة، يتوجب علينا استخدام مواردنا المتاحة بشكل أكثر فعالية، وأن نواكب التغيرات في طبيعة العمل الصحافي وتقنياته. نحن نتمتع بقوة كبيرة تنبثق من كوننا جزءا من «بي بي سي».
*ما رأيك في الإعلام الجديد؟ وهل في رأيك سيحل محل الإعلام التقليدي بشكل عام، وبالأخص في «بي بي سي» العربية، علما بأن زوار موقع الخدمة الإلكتروني يتعدون الـ21 مليونا شهريا؟
- أعتقد أن الإعلام الجديد أو الإعلام إلكتروني هو في الوقت الحالي بديل للإعلام التقليدي (التلفزيون - الراديو - الصحف)، وهذا نتاج لتكنولوجيا وسلوكيات جديدة نتج عنه تغيرات في عادات الأشخاص المستهلكين للأخبار، فعلا، حياتنا تتغير، ولكن المهارات التي كانت مهمة لإنتاج الإعلام القديم أو التقليدي هي أيضا مهمة لإنتاج الإعلام الجديد. ويكمن التحدي في التكيف مع الواقع الجديد، وإيجاد طرق جديدة للتغطية الإخبارية، والوصول للجمهور.
* ما الشروط التي يجب توافرها، حسب رأيك، في أي صحافي للعمل معك في منظومة «بي بي سي»؟
- من المهم لصحافي «بي بي سي» أن يترك السياسة جانبا أو في البيت؛ فالصحافي الجيد لدى «بي بي سي» هو القادر على اقتناص القصص التي لا يقوم بها الآخرون واتباع طرق جديدة في بناء القصة المراد تغطيتها.
* هل في رأيك أنه من المهم، على نحو خاص، وجود الصحافي المتخصص بتغطية أخبار معينة، مثل أن يكون لديه إلمام كافٍ بتنظيم «القاعدة» أو أفغانستان أو العراق؟
- التخصص في تغطية الأخبار هو أمر جوهري، فالمراسلون المهتمون بالتغطية الإخبارية بشكل عام لن يتمكنوا من الوصول إلى التفاصيل. في المقابل، فإن المراسلين المتخصصين في مجالات محدودة جدا لن يصلوا لجمهور واسع.
* ما نصيحتك للصحافيين الشباب في بداية حياتهم الإعلامية؟
- إبداء مهارات متنوعة في الكتابة، التصوير، تحرير الفيديو، استخدام التكنولوجيا، وبعدها التفكير بما يمكن فعله ولا يمكن للآخرين القيام به.



كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
TT

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)

قبل 861 عاماً، نهضت كاتدرائية «نوتردام دو باريس» في قلب العاصمة الفرنسية. ومع مرور العقود والعصور تحوّلت إلى رمز لباريس، لا بل لفرنسا. ورغم الثورات والحروب بقيت «نوتردام» صامدة حيث هي، في قلب باريس وحارسة نهر السين الذي يغسل قدميها. إلا أن المأساة حلّت في شهر أبريل (نيسان) من عام 2019، عندما اندلع حريق هائل، التهمت نيرانه أقساماً رئيسة من الكاتدرائية التي انهار سقفها وتهاوى «سهمها»، وكان سقوطه مدوياً.

منظر للنافذة الوردية الجنوبية لكاتدرائية نوتردام دو باريس(رويترز)

حريق «نوتردام» كارثة وطنية

وكارثة «نوتردام» تحوّلت إلى مأساة وطنية، إذ كان يكفي النظر إلى آلاف الباريسيين والفرنسيين والسياح الذين تسمّروا على ضفتي نهر السين ليشهدوا المأساة الجارية أمام عيونهم. لكن اللافت كانت السرعة التي قررت فيها السلطات المدنية والكنسية مباشرة عملية الترميم، وسريعاً جدّاً، أطلقت حملة تبرعات.

وفي كلمة متلفزة له، سعى الرئيس إيمانويل ماكرون إلى شد أزر مواطنيه، مؤكداً أن إعادة بناء الكاتدرائية و«إرجاعها أجمل مما كانت» ستبدأ من غير تأخير. وأعلن تأسيس هيئة تشرف عليها، وأوكل المهمة إلى الجنرال جان لويس جورجولين، رئيس أركان القوات المسلحة السابق. وبدأت التبرعات بالوصول.

وإذا احتاجت الكاتدرائية لقرنين لاكتمال بنائها، فإن ترميمها جرى خلال 5 سنوات، الأمر الذي يعد إنجازاً استثنائياً لأنه تحول إلى قضية وطنية، لا بل عالمية بالنظر للتعبئة الشعبية الفرنسية والتعاطف الدولي، بحيث تحوّلت الكاتدرائية إلى رابطة تجمع الشعوب.

وتبين الأرقام التي نشرت حديثاً أن التبرعات تدفقت من 340 ألف شخص، من 150 دولة، قدّموا 846 مليون يورو، إلا أن القسم الأكبر منها جاء من كبار الممولين والشركات الفرنسية، ومن بينهم من أسهم بـ200 مليون يورو. ومن بين الأجانب المتبرعين، هناك 50 ألف أميركي، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وكان أحد الأسباب التي دفعته للمجيء إلى فرنسا؛ البلد الأول الذي يزوره بعد إعادة انتخابه في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

متطوعون يضعون برنامج الحفل على المقاعد قبل الحفل (أ.ف.ب)

منذ ما يزيد على الشهر، تحوّلت الكاتدرائية إلى موضوع إلزامي في كل الوسائل الإعلامية. وخلال الأسبوع الحالي، حفلت الصحف والمجلات وقنوات التلفزة والإذاعات ببرامج خاصة تروي تاريخ الكاتدرائية والأحداث الرئيسة التي عاشتها في تاريخها الطويل.

وللدلالة على الأهمية التي احتلتها في الوعي الفرنسي، فإن رئيس الجمهورية زارها 7 مرات للاطلاع على التقدم الذي حققه المهنيون والحرفيون في إعادة البناء والترميم. وإذا كانت الكاتدرائية تجتذب قبل 2012 ما لا يقل عن 12 مليون زائر كل عام، فإن توقعات المشرفين عليها تشير إلى أن العدد سيصل العام المقبل إلى 15 مليوناً من كل أنحاء العالم.

المواطنون والسياح ينتظرون إفساح المجال للوصول الى ساحة الكاتدرائية (أ.ف.ب)

باريس «عاصمة العالم»

خلال هذين اليومين، تحوّلت باريس إلى «عاصمة العالم»، ليس فقط لأن قصر الإليزيه وجّه دعوات لعشرات من الملوك ورؤساء الدول والحكومات الذين حضر منهم نحو الخمسين، ولكن أيضاً لأن الاحتفالية حظيت بنقل مباشر إلى مئات الملايين عبر العالم.

وقادة الدول الذين قدّموا إلى «عاصمة النور» جاءوا إليها من القارات الخمس. وبسبب هذا الجمع الدولي، فإن شرطة العاصمة ووزارة الداخلية عمدتا إلى تشكيل طوق أمني محكم لتجنب أي إخلال بالأمن، خصوصاً أن سلطاتها دأبت على التحذير من أعمال قد تكون ذات طابع إرهابي. وإذا كان الرئيس الأميركي المنتخب قد حظي بالاهتمام الأكبر، ليس لأنه من المؤمنين المواظبين، بل لأنه يُمثل بلداً له تأثيره على مجريات العالم.

لكن في المقابل، تأسف الفرنسيون لأن البابا فرنسيس اعتذر عن تلبية الدعوة. والمثير للدهشة أنه سيقوم بزيارة جزيرة كورسيكا المتوسطية الواقعة على بُعد رمية حجر من شاطئ مدينة نيس اللازوردية، في 15 الشهر الحالي. والمدهش أيضاً أنه منذ أن أصبح خليفة القديس بطرس في روما، «المدينة الخالدة»، فإنه زار فرنسا مرتين، ثانيها كانت لمدينة مرسيليا الساحلية. بيد أنه لم يأتِ إلى باريس إطلاقاً. ووفق مصادر واسعة الاطلاع، فإن قرار البابا أحدث خيبة على المستويين الديني والرسمي. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى حدث تاريخي رئيس، وهو أن بابا روما بيوس السابع، قدم إلى باريس يوم 2 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1804، لتتويج نابليون الأول إمبراطوراً.

وتمثل لوحة الرسام الفرنسي الشهير لوي دافيد، التي خلد فيها تتويج بونابرت، ما قام به الأخير الذي لم ينتظر أن يضع البابا التاج على رأسه، بل أخذه بيديه ووضعه بنفسه على رأسه، وكذلك فعل مع الإمبراطورة جوزفين.

احتفالية استثنائية

لم يساعد الطقس مساعدي الاحتفالية الذين خططوا لأن تكون من جزأين: الأول رسمي، ويجري في ساحة الكاتدرائية الأمامية؛ حيث يلقي الرئيس ماكرون خطابه المقدر من 15 دقيقة، وبعدها الانتقال إلى الداخل للجزء الديني. وكان مقدراً للمواطنين الـ40 ألفاً، إضافة إلى 1500 مدعو حظوا بالوجود داخل الكاتدرائية، أن يتابعوا الحدث من المنصات التي نصبت على ضفتي نهر السين، إلا أن الأمطار والعواصف التي ضربت باريس ومنطقتها أطاحت بالبرنامج الرئيس، إذ حصلت كل الاحتفالية بالداخل. بيد أن الأمطار لم تقض على شعور استثنائي بالوحدة والسلام غلب على الحاضرين، وسط عالم ينزف جراء تواصل الحروب، سواء أكان في الشرق الأوسط أم في أوكرانيا أم في مطارح أخرى من العالم المعذب. وجاءت لحظة الولوج إلى الكاتدرائية، بوصفها إحدى المحطات الفارقة، إذ تمت وفق بروتوكول يعود إلى مئات السنين. بدءاً من إعادة فتح أولريش لأبواب «نوتردام» الخشبية الكبيرة بشكل رمزي.

كاتدرائية «نوتردام» السبت وسط حراسة أمنية استعداداً لإعادة افتتاحها (إ.ب.ى)

وسيقوم بالنقر عليها 3 مرات بعصا مصنوعة من الخشب المتفحم الذي جرى إنقاذه من سقف الكاتدرائية الذي دمرته النيران، وسيعلن فتح الكاتدرائية للعبادة مرة أخرى. ونقل عن المسؤول عن الكاتدرائية القس أوليفييه ريبادو دوما أن «نوتردام»، التي هي ملك الدولة الفرنسية، ولكن تديرها الكنيسة الكاثوليكية «أكثر من مجرد نصب تذكاري فرنسي وكنز محبوب من التراث الثقافي العالم، لا بل هي أيضاً علامة على الأمل، لأن ما كان يبدو مستحيلاً أصبح ممكناً»، مضيفاً أنها أيضاً «رمز رائع».

الأرغن الضخم يحتوي على 8 آلاف مزمار تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام (أ.ف.ب)

كذلك، فإن تشغيل الأرغن الضخم الذي تم تنظيفه وتحضيره للمناسبة الاستثنائية، تم كذلك وفق آلية دقيقة. ففي حين ترتفع المزامير والصلوات والترانيم، فإنه جرى إحياء الأرغن المدوي، الذي صمت وتدهورت أوضاعه بسبب الحريق. ويحتوي الأرغن على 8 آلاف مزمار، تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام. وقام 4 من العازفين بتقديم مجموعة من الألحان بعضها جاء مرتجلاً.

إلى جانب الشقين الرسمي والديني، حرص المنظمون على وجود شق يعكس الفرح؛ إذ أدت مجموعة من الفنانين الفرنسيين والأجانب لوحات جميلة جديرة بالمكان الذي برز بحلة جديدة بأحجاره المتأرجحة بين الأبيض والأشقر وزجاجه الملون، وإرثه الذي تم إنقاذه من النيران وأعيد إحياؤه.

وبعد عدة أيام، سيُعاد فتح الكاتدرائية أمام الزوار الذي سيتدفقوة بالآلاف على هذا المعلم الاستثنائي.

حقائق

846 مليون يورو

تدفقت التبرعات من 340 ألف شخص من 150 دولة قدموا 846 مليون يورو لإعادة ترميم نوتردام