بوبر: الديمقراطية يجب أن تحفظ ولو بالقوة

عد الاشتراكية مجرد حلم وأن الحرية أهم من المساواة

كارل بوبر
كارل بوبر
TT

بوبر: الديمقراطية يجب أن تحفظ ولو بالقوة

كارل بوبر
كارل بوبر

في بيئة منهمكة بالقانون والموسيقى، ولد الفيلسوف كارل بوبر (28 يوليو «تموز» 1902 - 17 سبتمبر «أيلول» 1994). كان والده ريموند دكتورا وأستاذا للقانون في جامعة فيينا، وأمه جيني عاشقة وعازفة للموسيقى. البيت المريح الذي ترعرع فيه الفيلسوف أثر فيه؛ مسكن مرصع بجواهر الموسيقى، وعيون الكتب. ولد في فيينا، عاصمة الذوق الموسيقي، أجاد عزف البيانو، كما أجاد الرياضيات والفلسفة والفيزياء، لهذا كان تشذيبه لنظريته فيه حس العازف، إذ سرعان ما يتنقل بين سلالم العلوم باحثا وفاحصا ومعلما وناقدا. ولا يهدئ شخصيته الحادة وأسلوبه النقدي الجاف إلا ما تشربه من فنون على يد أمه وأسرته عموما، إضافة إلى ما استمده من حكمة والده والتدرب على الصبر في المجالات الوعرة التي بحث فيها ونقب طوال حياته التي قاربت القرن.
لا تزال الدراسات حول أعماله تصدر، رغم الحديث المستمر عن انتهاء فعالية الكثير من نظرياته، غير أن الفيلسوف المنتج لا يمكن أن يرحل مشروعه أو ينسى، فقد يكون محركا لتشغيل النقد على المستوى السلبي على النحو الذي أحدثه هيغل، إذ لا تزال وظيفة الفلسفة حتى الآن محاولة الإفلات من قبضة هيغل القوية، كما تحدث عن ذلك ميشيل فوكو من قبل. بدأ بوبر مشروعه منطلقا من توضيح وتبسيط بعض التطورات العلمية. وفي دراسة مهمة لـ«روني بوفريس» عن «العقلانية النقدية لدى بوبر»، يقارن وبذكاء بين المشروعين المطروحين من قبل بوبر من جهة وغستون باشلار من جهة أخرى، وفي مقارنته الكثير من الإيضاح لعصب فلسفة بوبر.
فبينما يطرح بوبر «مبدأ التكذيب»، يطرح باشلار «فلسفة النفي»، وهما عبر هاتين الآليتين أحدثا رجة في ميادين العلم، وأسهمت أطروحاتهما في تغيير مجالات الانطلاق العلمي وتحدت البداهات المألوفة. لقد اشتركا في الحاسة الارتيابية والشكية والتعبير عن آفاق الاحتمال التي وصل إليها العلم. لقد وجه ضربات وامتحانات للنظريات التي تحمل «قوة تفسيرية»، وخص بالدحض سيغموند فرويد وكارل ماركس وإدلر. ودحضه جماعها «مبدأ التكذيب» الذي ناطح به حتى أينشتاين في «النسبية». خلاصة «مبدأ التكذيب»: «يمكن أن نحصل على تأييدات لأي نظرية، التأييدات لا تعتمد إلا إذا كانت نتاج تنبؤات مخاطرة. كل نظرية علمية هي نوع من المنع، فهي تمنع أشياء معينة أن تحدث، وكلما زاد ما تمنعه النظرية زاد نصيبها من الأصالة. النظرية التي لا تقبل الدحض بأي حدث يمكن تصوره هي نظرية غير علمية، عدم القابلية للدحض ليست مزية لأي نظرية». ببساطة: «محك المنزلة العلمية لأي نظرية من النظريات هو (قابليتها للتكذيب falsifiability)، أو (قابليتها للتنفيذ refutability)، أو(قابليتها للاختبار testability)». من هنا، انتقد نظريات في الاجتماع والتحليل النفسي والفيزياء.
في عمله «المجتمع المفتوح وأعدائه»، أعاد النظر في مفاهيم كثيرة أخذت على «شيوعها»؛ مثل الديمقراطية والليبرالية والحرية والمساواة. فهو يعد الاشتراكية مجرد حلم جميل، ذلك أن «الحرية أهم من المساواة، ذلك أن محاولة تحقيق المساواة من شأنها أن تهدد الحرية، وإن الحرية إذا فقدت فلن يتمتع فاقدوها حتى بالمساواة». كان من دعاة «الديمقراطية الليبرالية»، لكنه في نفس الوقت ينتقد الشيوع المبتذل لمفهوم الديمقراطية، يسأل بوبر: «ماذا لو أن الديمقراطية جاءت عبر التصويت والأغلبية بحزب مثل الحزب النازي أو الشيوعي، أو غيرها من الأحزاب التي لا تؤمن بالنظم الحرة وربما أطاح بالديمقراطية بعد أن يقبض على الحكم». ويطرح: «إذا كانت هناك محاولة للإطاحة بالنظم الحرة بالقوة المسلحة، فإن بوسعه دون أي تناقض ذاتي أن يدافع عنها بالقوة المسلحة، فالحق أن هناك مبررا أخلاقيا لاستخدام القوة ما دام هناك نظام قائم يفرض بقاءه بالقوة ما دام الهدف تأسيس النظم الحرة وحين تكون الغاية استبدال الحكم المسلح بحكم العقل والتسامح». ويشير إلى ضرورة حماية الديمقراطية من غير الديمقراطيين، وذلك عبر التمسك بالمؤسسات الحرة والدفاع عنها ضد الأخطار.
لم يغادر بوبر الليبرالية في أرضية تحليله رغم ميوله إلى الماركسية لبضعة أشهر، غير أنه ساهم في وضع بصمته الخاصة على هذا المفهوم، فالليبرالية التي تترجم من اللاتينية بـ«الكريم» هي أساس التسامح مع الآخر والاحترام للآخرين، ويرفض أن تكون وظيفة الليبرالية تحقيق السعادة المجردة أو تحقيق السعادة بالوسائل السياسية، بل على الليبراليين العمل على «أن تصبح الحياة أقل خطرا وجورا».
من أهم إسهامات بوبر، تأسيسه استقلال عالم أشياء الفكر عن الذات الإنسانية التي أبدعتْها، إذ يخلق الإنسان نظريات وأفكارا لا يمكنها أن تظهر من دونه، لكن ما إن يخلقها حتى يفقد السيطرة عليها، يلاقيها في كثافتها ويصطدم معها، مما يعني قبل كل شيء أنه لا يفهمها، في الواقع يتسامى محتوى فكر جذريا بالفهم الذي لدينا عنه، ما دام له نتائج كثيرة بشكل لا نهائي. هكذا رأى بوبر.
رحل بوبر بعد مشوار حافل بالسجال والصدام والإبداع، وهو الذي كتب: «مع بزوغ العقل، وظهور النظريات، تغير أسلوب الانتخاب الطبيعي، وتبدلت عدة الصراع من أجل البقاء، صار بوسعنا أن نترك نظرياتنا تتصارع نيابة عنا».



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.