بنين تستيقظ على خطر الإرهاب

رحلة سفاري في غرب أفريقيا تنتهي بكابوس

تدريب الجنود في حديقة بندجاري الوطنية في شمال بنين لتأمين حدودها  مع بوركينا فاسو بعد تصاعد العمليات الإرهابية (نيويورك تايمز)
تدريب الجنود في حديقة بندجاري الوطنية في شمال بنين لتأمين حدودها مع بوركينا فاسو بعد تصاعد العمليات الإرهابية (نيويورك تايمز)
TT

بنين تستيقظ على خطر الإرهاب

تدريب الجنود في حديقة بندجاري الوطنية في شمال بنين لتأمين حدودها  مع بوركينا فاسو بعد تصاعد العمليات الإرهابية (نيويورك تايمز)
تدريب الجنود في حديقة بندجاري الوطنية في شمال بنين لتأمين حدودها مع بوركينا فاسو بعد تصاعد العمليات الإرهابية (نيويورك تايمز)

كان مرشد رحلات السفاري يعلم كل نبع ماء في متنزه بندجاري الوطني في بنين، لكنه لم يكن يعلم أن الإرهابيين قادرون على الوصول إليه في عقر داره عبر الحدود. لم يكن هناك أي اختلاف واضح بين فياكر غبيدجي، مرشد رحلات السفاري في محمية برية مترامية الأطراف في غرب أفريقيا، وبين السائحين اللذين كان يرشدهما، حيث كان يشهق عندما يرى أي أسد، ويشعر بالإثارة لدى رؤية كل ظبي يقفز بين الشجيرات.
مع ذلك، عندما دخل غبيدجي، هو وسائحان فرنسيان، في قلب المتنزه، قام إرهابيون باختطافهم. وقام الجيش الفرنسي بإنقاذ السائحين بعد 10 أيام، وتم تنظيم مراسم في قلب باريس لتأبين 2 من أفراد القوات الخاصة الفرنسية كان قد تم قتلهما في أثناء تنفيذ المهمة. وفي خضم الاهتمام الدولي بعملية الاختطاف، اختفى غبيدجي، بل لم يأتِ ذكره تقريباً على لسان أحد، فما هو في النهاية سوى «مرشد». لقد قتله المختطفون، وأكلت الحيوانات جثته، على حد قول مسؤولين.
ورغم ذلك، أصبح اسم غبيدجي نذير شؤم في بنين، الدولة الصغيرة الواقعة في غرب أفريقيا بين توغو ونيجيريا، التي بدأت تصبح من وجهات رحلات السفاري، وبات متنزه بندجاري جوهرة البلد تحت مظلة الإدارة الجديدة. ومع ذلك، عرقلت عملية الاختطاف ذلك التقدم، وجذبت الانتباه إلى خطر الإرهاب الذي يقترب من البلاد، بعدما ضرب بوركينا فاسو ودول جوارها. وقد اتجه كل من تنظيم القاعدة وجماعات على صلة بتنظيم داعش إلى بنين، في ظل هروبهم من الهجمات العسكرية على معاقلهم السابقة في مالي والنيجر، بحسب خبراء أمنيين. وقد تمكنوا من تجنيد عناصر، والعثور على ملجأ آمن على أرض المتنزه ذات الأشجار الكثيفة.
وتزايدت اليوم أعداد المرشدين السياحيين الذين يتجولون بين الفنادق الخالية، بعد إلغاء سائحين لرحلاتهم. وتراقب الدوريات العسكرية في بنين اليوم، التي تتجول بين التماسيح وأفراس النهر في بندجاري، الحدود مع بوركينا فاسو. ويبدو أن موت غبيدجي دليل على أن عدم اتخاذ إجراءات فورية ربما يجعل بنين، الدولة الديمقراطية الآمنة إلى حد كبير، عرضة لخطر الإرهاب.
بدأ ذلك اليوم مثل أي يوم آخر في حياة غبيدجي، البالغ من العمر 33 عاماً، بحسب ما قالت أسرته. فبعدما أزاح في الفجر الشبكة الحامية من الناموس المعلقة أعلى سريره الذي يتقاسمه مع زوجته فيرونيكا فارا، البالغة من العمر 29 عاماً، التي تحمل في بطنها طفله الثاني، توجه إلى منزل أمه في الباحة ليلقي التحية عليها، حيث حول منزله الصغير المصنوع من الطين إلى مسكن متطور لعائلته، فقد ساهم تزايد الاهتمام بالمتنزه في زيادة دخل أسرته. وقد منح رئيس البلاد، باتريس تالون، الذي تولى منصبه عام 2016، الأولوية لدعم السياحة. ويعد المتنزه واحداً من 3 متنزهات تمثل مجمعاً يضم 1700 فيل، ويمتد بين بوركينا فاسو والنيجر وبنين.
وقد خصص الرئيس تالون، الذي شبّه أراضي المتنزه غير المستغلة بالنفط غير المستغل، 6 ملايين دولار للمتنزه الذي تبلغ مساحته 1800 ميل مربع. وفي عام 2017، سمح لمؤسسة «أفريكان باركس» في جنوب أفريقيا بإدارة العمل به. وساعد تدفق السائحين غبيدجي في إعالة أطفاله الستة وأمهاتهم الست. وتقول أم غبيدجي، جاستين كوليكبا، البالغة من العمر 63 عاماً: «محبة النساء له هبة من الله». وكان ذلك بعد مرور 3 أسابيع على مقتل ابنها، بينما يجلس حفيدها، بيرا إسيلي، ذو العامين متململاً بين ذراعيها. وقد راودت السيدة كوليكبا أفكار انتحارية منذ وفاة ابنها، لكن ما منعها من تنفيذها، كما تقول، رعاية أحفادها، مضيفة: «لقد أخبرني أنه سيعود قريباً». وكان من المفترض أن يلتقي غبيدجي عملاء له في ذلك اليوم، وهما لوران لاسيمويلا (46 عاماً) وباتريك بيكي (51 عاماً)، معلما الموسيقى الفرنسيان. لم يطلب غبيدجي في ذلك اليوم من أمه تحضير غدائه المفضل، وهو عجينة السبانخ بالذرة، لذا قالت: «لقد مات ومعدته خاوية وجائعاً».
وكان غبيدجي مرشداً معتمداً، إلى جانب تمتعه بخبرة كبيرة في المكان، حيث كان يعرف كل نبع ماء وعرين أسد. كذلك كان يعلم جيداً الأماكن التي لا ينبغي الذهاب إليها، وهي نهر بندجاري في الشمال الذي يفصل بين بنين وبوركينا فاسو. وكان ذلك النهر يمثل خطاً أحمر على الخرائط الرسمية التي وضعتها الحكومتين الفرنسية والأميركية قبل وفاته. وينشط مسلحون أصوليون على الطرف الشمالي، لذا «لا يُنصح» بالقيام بأنشطة سياحية في تلك المنطقة، بحسب وزارة الخارجية الفرنسية. بدأ على ذلك الشاطئ تدفق متمردين هاربين من عمليات الجيش الفرنسي في مالي والنيجر، وهم ينجحون في تجنيد عناصر من خلال استغلال التوترات التي تسود العلاقة بين الرعاة والمزارعين، والصراع على الموارد التي باتت نادرة بسبب التغير المناخي، والإحباط الناتج عن سوء استغلال القوات الحكومية للسلطة.
تجدر الإشارة إلى أن بوركينا فاسو شهدت خلال العام الماضي 137 هجوماً من جانب جماعات إرهابية، بعدما كان عدد الهجمات 12 فقط خلال عام 2016ن بحسب بيانات المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية. وقالت كورين دوفكا، مديرة غرب أفريقيا في منظمة «هيومان رايتس ووتش»: «التحدي الذي تواجهه الحكومات هو تمكن المتطرفين في كثير من المناطق من تلبية احتياجات الناس الأساسية قريبة المدى، ومنها الاستقرار وسيادة القانون». وكثيراً ما يفرض المسلحون النظام المطلوب، قبل تصعيد وتيرة العنف مع فرض آيديولوجيتهم. وتواجه بنين تحديات مماثلة، حيث لا تتوافر كثير من الخدمات الأساسية، كما يتزايد عدم الاستقرار، فقد أصبح رئيس الدولة، التي مثلت نموذجاً للديمقراطية عام 1991، حين تحولت إلى الحكم الديمقراطي بعد النظام الاشتراكي، أكثر ميلاً للاستبداد. وتحتاج بنين إلى معالجة الأمور التي جعلت الجماعات المتطرفة تكتسب نفوذاً وسطوة في بلدان أخرى، على حد قول دوفكا التي تحذر من زيادة توغل تلك الجماعات في قلب غرب أفريقيا، مما يجعل بنين آخر ملجأ محتمل. وقد توجه المتطرفون نحو الجنوب، إلى المجمع المكون من 3 متنزهات، حيث يوجد طعام ومأوى يحميهم من الرقابة الجوية، على حد قول لوري آن ثيروكس بينوني، مديرة مكتب معهد الدراسات الأمنية في غرب أفريقيا. وقد هاجم الإرهابيون في بوركينا فاسو والنيجر مرشدي غابات، وأجبروا كثيرين على الهروب من ذلك الجزء.
وفي الجزء الموجود في بنين، أعادت إدارة «أفريكان باركس» إحياء متنزه «بندجاري»، لكن أثارت تلك العملية الشعور بالاستياء في بعض الأحيان، خصوصاً عند حظر اصطياد لحم الحيوانات البرية، وهو تقليد محلي، رغم إصدار تصريحات مدفوعة الأجر لصائدي الحيوانات.
وأوضحت ثيروكس أن الإرهابيين «يدركون نقاط الضعف في المجتمع المحلي ويستغلونها». وكان غبيدجي يعمل بعيداً عن نهر بندجاري، ويشعر بالأمان، على حد قول مرشدين سياحيين آخرين. لكن منذ عملية الاختطاف، أصبحت منطقة بندجاري بالكامل منطقة خطر، وملونة بالأحمر على الخرائط الفرنسية والأميركية.
ويقول نويل نابوغو، المرشد الذي يبلغ من العمر 30 عاماً، والذي ينتظر في فندق تاتورا في مدينة ناتيتينغو، حيث ألغى كثير من السائحين رحلاتهم: «نحن ضحايا». وردد قول حكومة بنين التي ذكرت أن ضمّ بندجاري إلى منطقة الخطر أمر غير مبرر، وأوضح قائلاً: «إذا تخلينا عن المتنزه اليوم بسبب انعدام الأمن، لن يتم فتحه مرة أخرى، وسيستقر المتطرفون به؛ سوف يعدون ذلك المتنزه أرضاً مشاعاً لا صاحب لها، ويستخدمونها كقاعدة لهم».
وقد تمكنت القوات الخاصة الفرنسية من إقامة كمين للمختطفين في بوركينا فاسو تحت جنح الليل، وتمكن أفراد القوات الخاصة من قتل 4 من العناصر الإرهابية المسلحة، في حين تمكن 2 من الهرب. ولكن راح ضحية تلك العملية من جانب القوات الفرنسية سيدريك دي بيربونت (32 عاماً) وألين بيرتونسيلو (27 عاماً). وتم إنقاذ السائحين الفرنسيين ورهينتين آخرين. وكان المختطفون يقتادون رهائن إلى خلايا إرهابية في مالي، بحسب الجيش الفرنسي.
وكان قد تم قتل غبيدجي قبل أيام من مهمة الإنقاذ مايو الماضي، وتم العثور على جثته في بوركينا فاسو، بحسب ما ذكر مارسيل باغلو، المدير العام لجهاز الأمن الداخلي في بنين. ولم يتبقِ من جثمان غبيدجي سوى جمجمته، وبعض قطع من عظامه وملابسه. وتم التعرف عليه من بنطاله على حد قول باغلو. وتم دفن غبيدجي تحت كومة من الحجارة على شكل صليب داخل المتنزه.
مع ذلك، لا يزال الغموض يلفّ عملية الاختطاف، حيث لم تعلن أي من الجماعات الإرهابية مسؤوليتها عن الحادث، ورفض السائحان الفرنسيان إجراء أي مقابلة، كذلك لم تسمح الحكومة الفرنسية لمسؤولي بنين بإجراء مقابلة معهما، كما أوضح باغلو.
وعلى الجانب الآخر، أشار خبراء إلى أن الهجوم لا يعني بالضرورة تسلل المسلحين إلى بندجاري واختراقهم لها، بل محاولتهم القيام بذلك. وأوضحت ثيروكس قائلة: «لا نعرف حتى الآن مستوى توغلهم، لكن من الواضح أن تلك المنطقة قد باتت هدفاً استراتيجياً لهم». واتخذت سلطات بنين خطوات أخرى، من بينها خطوات تتعلق بأفراد قبيلة الفولاني، وهم من البدو الرحل الذين جنّدهم المتطرفون في بلاد أخرى. وقد شيدت بنين على مدى 7 سنوات أسواراً ومدارس ومراكز شرطة، حيث تقيم القبيلة «حتى يشعروا أنهم من مواطني بنين»، كما يشير باغلو الذي أضاف: «لا توجد دولة في أفريقيا قادرة على حماية حدودها وحدها». ومع ذلك، يخشى البعض في ناتيتينغو من أن تكون الإجراءات التي تتخذها الحكومة غير كافية ومتأخرة.
وقالت بريسكا، شقيقة غبيدجي، إنه عندما تم قتل شقيقها، كانت تلك هي المرة الأولى التي يخطر ببالها أن خطر الإرهاب يمكن أن يصل إلى بنين. وهي تعتقد حالياً أن ذلك الخطر قد ضرب بجذوره في البلاد، وأضافت قائلة: «لا يوجد دخان بلا نار». كذلك قالت إنها تتمنى زيارة قبر شقيقها، لكنها لن تتمكن من ذلك أبداً، وتخشى مما يمكن أن يحدث في متنزه بندجاري.

*خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.