بنين تستيقظ على خطر الإرهاب

رحلة سفاري في غرب أفريقيا تنتهي بكابوس

تدريب الجنود في حديقة بندجاري الوطنية في شمال بنين لتأمين حدودها  مع بوركينا فاسو بعد تصاعد العمليات الإرهابية (نيويورك تايمز)
تدريب الجنود في حديقة بندجاري الوطنية في شمال بنين لتأمين حدودها مع بوركينا فاسو بعد تصاعد العمليات الإرهابية (نيويورك تايمز)
TT

بنين تستيقظ على خطر الإرهاب

تدريب الجنود في حديقة بندجاري الوطنية في شمال بنين لتأمين حدودها  مع بوركينا فاسو بعد تصاعد العمليات الإرهابية (نيويورك تايمز)
تدريب الجنود في حديقة بندجاري الوطنية في شمال بنين لتأمين حدودها مع بوركينا فاسو بعد تصاعد العمليات الإرهابية (نيويورك تايمز)

كان مرشد رحلات السفاري يعلم كل نبع ماء في متنزه بندجاري الوطني في بنين، لكنه لم يكن يعلم أن الإرهابيين قادرون على الوصول إليه في عقر داره عبر الحدود. لم يكن هناك أي اختلاف واضح بين فياكر غبيدجي، مرشد رحلات السفاري في محمية برية مترامية الأطراف في غرب أفريقيا، وبين السائحين اللذين كان يرشدهما، حيث كان يشهق عندما يرى أي أسد، ويشعر بالإثارة لدى رؤية كل ظبي يقفز بين الشجيرات.
مع ذلك، عندما دخل غبيدجي، هو وسائحان فرنسيان، في قلب المتنزه، قام إرهابيون باختطافهم. وقام الجيش الفرنسي بإنقاذ السائحين بعد 10 أيام، وتم تنظيم مراسم في قلب باريس لتأبين 2 من أفراد القوات الخاصة الفرنسية كان قد تم قتلهما في أثناء تنفيذ المهمة. وفي خضم الاهتمام الدولي بعملية الاختطاف، اختفى غبيدجي، بل لم يأتِ ذكره تقريباً على لسان أحد، فما هو في النهاية سوى «مرشد». لقد قتله المختطفون، وأكلت الحيوانات جثته، على حد قول مسؤولين.
ورغم ذلك، أصبح اسم غبيدجي نذير شؤم في بنين، الدولة الصغيرة الواقعة في غرب أفريقيا بين توغو ونيجيريا، التي بدأت تصبح من وجهات رحلات السفاري، وبات متنزه بندجاري جوهرة البلد تحت مظلة الإدارة الجديدة. ومع ذلك، عرقلت عملية الاختطاف ذلك التقدم، وجذبت الانتباه إلى خطر الإرهاب الذي يقترب من البلاد، بعدما ضرب بوركينا فاسو ودول جوارها. وقد اتجه كل من تنظيم القاعدة وجماعات على صلة بتنظيم داعش إلى بنين، في ظل هروبهم من الهجمات العسكرية على معاقلهم السابقة في مالي والنيجر، بحسب خبراء أمنيين. وقد تمكنوا من تجنيد عناصر، والعثور على ملجأ آمن على أرض المتنزه ذات الأشجار الكثيفة.
وتزايدت اليوم أعداد المرشدين السياحيين الذين يتجولون بين الفنادق الخالية، بعد إلغاء سائحين لرحلاتهم. وتراقب الدوريات العسكرية في بنين اليوم، التي تتجول بين التماسيح وأفراس النهر في بندجاري، الحدود مع بوركينا فاسو. ويبدو أن موت غبيدجي دليل على أن عدم اتخاذ إجراءات فورية ربما يجعل بنين، الدولة الديمقراطية الآمنة إلى حد كبير، عرضة لخطر الإرهاب.
بدأ ذلك اليوم مثل أي يوم آخر في حياة غبيدجي، البالغ من العمر 33 عاماً، بحسب ما قالت أسرته. فبعدما أزاح في الفجر الشبكة الحامية من الناموس المعلقة أعلى سريره الذي يتقاسمه مع زوجته فيرونيكا فارا، البالغة من العمر 29 عاماً، التي تحمل في بطنها طفله الثاني، توجه إلى منزل أمه في الباحة ليلقي التحية عليها، حيث حول منزله الصغير المصنوع من الطين إلى مسكن متطور لعائلته، فقد ساهم تزايد الاهتمام بالمتنزه في زيادة دخل أسرته. وقد منح رئيس البلاد، باتريس تالون، الذي تولى منصبه عام 2016، الأولوية لدعم السياحة. ويعد المتنزه واحداً من 3 متنزهات تمثل مجمعاً يضم 1700 فيل، ويمتد بين بوركينا فاسو والنيجر وبنين.
وقد خصص الرئيس تالون، الذي شبّه أراضي المتنزه غير المستغلة بالنفط غير المستغل، 6 ملايين دولار للمتنزه الذي تبلغ مساحته 1800 ميل مربع. وفي عام 2017، سمح لمؤسسة «أفريكان باركس» في جنوب أفريقيا بإدارة العمل به. وساعد تدفق السائحين غبيدجي في إعالة أطفاله الستة وأمهاتهم الست. وتقول أم غبيدجي، جاستين كوليكبا، البالغة من العمر 63 عاماً: «محبة النساء له هبة من الله». وكان ذلك بعد مرور 3 أسابيع على مقتل ابنها، بينما يجلس حفيدها، بيرا إسيلي، ذو العامين متململاً بين ذراعيها. وقد راودت السيدة كوليكبا أفكار انتحارية منذ وفاة ابنها، لكن ما منعها من تنفيذها، كما تقول، رعاية أحفادها، مضيفة: «لقد أخبرني أنه سيعود قريباً». وكان من المفترض أن يلتقي غبيدجي عملاء له في ذلك اليوم، وهما لوران لاسيمويلا (46 عاماً) وباتريك بيكي (51 عاماً)، معلما الموسيقى الفرنسيان. لم يطلب غبيدجي في ذلك اليوم من أمه تحضير غدائه المفضل، وهو عجينة السبانخ بالذرة، لذا قالت: «لقد مات ومعدته خاوية وجائعاً».
وكان غبيدجي مرشداً معتمداً، إلى جانب تمتعه بخبرة كبيرة في المكان، حيث كان يعرف كل نبع ماء وعرين أسد. كذلك كان يعلم جيداً الأماكن التي لا ينبغي الذهاب إليها، وهي نهر بندجاري في الشمال الذي يفصل بين بنين وبوركينا فاسو. وكان ذلك النهر يمثل خطاً أحمر على الخرائط الرسمية التي وضعتها الحكومتين الفرنسية والأميركية قبل وفاته. وينشط مسلحون أصوليون على الطرف الشمالي، لذا «لا يُنصح» بالقيام بأنشطة سياحية في تلك المنطقة، بحسب وزارة الخارجية الفرنسية. بدأ على ذلك الشاطئ تدفق متمردين هاربين من عمليات الجيش الفرنسي في مالي والنيجر، وهم ينجحون في تجنيد عناصر من خلال استغلال التوترات التي تسود العلاقة بين الرعاة والمزارعين، والصراع على الموارد التي باتت نادرة بسبب التغير المناخي، والإحباط الناتج عن سوء استغلال القوات الحكومية للسلطة.
تجدر الإشارة إلى أن بوركينا فاسو شهدت خلال العام الماضي 137 هجوماً من جانب جماعات إرهابية، بعدما كان عدد الهجمات 12 فقط خلال عام 2016ن بحسب بيانات المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية. وقالت كورين دوفكا، مديرة غرب أفريقيا في منظمة «هيومان رايتس ووتش»: «التحدي الذي تواجهه الحكومات هو تمكن المتطرفين في كثير من المناطق من تلبية احتياجات الناس الأساسية قريبة المدى، ومنها الاستقرار وسيادة القانون». وكثيراً ما يفرض المسلحون النظام المطلوب، قبل تصعيد وتيرة العنف مع فرض آيديولوجيتهم. وتواجه بنين تحديات مماثلة، حيث لا تتوافر كثير من الخدمات الأساسية، كما يتزايد عدم الاستقرار، فقد أصبح رئيس الدولة، التي مثلت نموذجاً للديمقراطية عام 1991، حين تحولت إلى الحكم الديمقراطي بعد النظام الاشتراكي، أكثر ميلاً للاستبداد. وتحتاج بنين إلى معالجة الأمور التي جعلت الجماعات المتطرفة تكتسب نفوذاً وسطوة في بلدان أخرى، على حد قول دوفكا التي تحذر من زيادة توغل تلك الجماعات في قلب غرب أفريقيا، مما يجعل بنين آخر ملجأ محتمل. وقد توجه المتطرفون نحو الجنوب، إلى المجمع المكون من 3 متنزهات، حيث يوجد طعام ومأوى يحميهم من الرقابة الجوية، على حد قول لوري آن ثيروكس بينوني، مديرة مكتب معهد الدراسات الأمنية في غرب أفريقيا. وقد هاجم الإرهابيون في بوركينا فاسو والنيجر مرشدي غابات، وأجبروا كثيرين على الهروب من ذلك الجزء.
وفي الجزء الموجود في بنين، أعادت إدارة «أفريكان باركس» إحياء متنزه «بندجاري»، لكن أثارت تلك العملية الشعور بالاستياء في بعض الأحيان، خصوصاً عند حظر اصطياد لحم الحيوانات البرية، وهو تقليد محلي، رغم إصدار تصريحات مدفوعة الأجر لصائدي الحيوانات.
وأوضحت ثيروكس أن الإرهابيين «يدركون نقاط الضعف في المجتمع المحلي ويستغلونها». وكان غبيدجي يعمل بعيداً عن نهر بندجاري، ويشعر بالأمان، على حد قول مرشدين سياحيين آخرين. لكن منذ عملية الاختطاف، أصبحت منطقة بندجاري بالكامل منطقة خطر، وملونة بالأحمر على الخرائط الفرنسية والأميركية.
ويقول نويل نابوغو، المرشد الذي يبلغ من العمر 30 عاماً، والذي ينتظر في فندق تاتورا في مدينة ناتيتينغو، حيث ألغى كثير من السائحين رحلاتهم: «نحن ضحايا». وردد قول حكومة بنين التي ذكرت أن ضمّ بندجاري إلى منطقة الخطر أمر غير مبرر، وأوضح قائلاً: «إذا تخلينا عن المتنزه اليوم بسبب انعدام الأمن، لن يتم فتحه مرة أخرى، وسيستقر المتطرفون به؛ سوف يعدون ذلك المتنزه أرضاً مشاعاً لا صاحب لها، ويستخدمونها كقاعدة لهم».
وقد تمكنت القوات الخاصة الفرنسية من إقامة كمين للمختطفين في بوركينا فاسو تحت جنح الليل، وتمكن أفراد القوات الخاصة من قتل 4 من العناصر الإرهابية المسلحة، في حين تمكن 2 من الهرب. ولكن راح ضحية تلك العملية من جانب القوات الفرنسية سيدريك دي بيربونت (32 عاماً) وألين بيرتونسيلو (27 عاماً). وتم إنقاذ السائحين الفرنسيين ورهينتين آخرين. وكان المختطفون يقتادون رهائن إلى خلايا إرهابية في مالي، بحسب الجيش الفرنسي.
وكان قد تم قتل غبيدجي قبل أيام من مهمة الإنقاذ مايو الماضي، وتم العثور على جثته في بوركينا فاسو، بحسب ما ذكر مارسيل باغلو، المدير العام لجهاز الأمن الداخلي في بنين. ولم يتبقِ من جثمان غبيدجي سوى جمجمته، وبعض قطع من عظامه وملابسه. وتم التعرف عليه من بنطاله على حد قول باغلو. وتم دفن غبيدجي تحت كومة من الحجارة على شكل صليب داخل المتنزه.
مع ذلك، لا يزال الغموض يلفّ عملية الاختطاف، حيث لم تعلن أي من الجماعات الإرهابية مسؤوليتها عن الحادث، ورفض السائحان الفرنسيان إجراء أي مقابلة، كذلك لم تسمح الحكومة الفرنسية لمسؤولي بنين بإجراء مقابلة معهما، كما أوضح باغلو.
وعلى الجانب الآخر، أشار خبراء إلى أن الهجوم لا يعني بالضرورة تسلل المسلحين إلى بندجاري واختراقهم لها، بل محاولتهم القيام بذلك. وأوضحت ثيروكس قائلة: «لا نعرف حتى الآن مستوى توغلهم، لكن من الواضح أن تلك المنطقة قد باتت هدفاً استراتيجياً لهم». واتخذت سلطات بنين خطوات أخرى، من بينها خطوات تتعلق بأفراد قبيلة الفولاني، وهم من البدو الرحل الذين جنّدهم المتطرفون في بلاد أخرى. وقد شيدت بنين على مدى 7 سنوات أسواراً ومدارس ومراكز شرطة، حيث تقيم القبيلة «حتى يشعروا أنهم من مواطني بنين»، كما يشير باغلو الذي أضاف: «لا توجد دولة في أفريقيا قادرة على حماية حدودها وحدها». ومع ذلك، يخشى البعض في ناتيتينغو من أن تكون الإجراءات التي تتخذها الحكومة غير كافية ومتأخرة.
وقالت بريسكا، شقيقة غبيدجي، إنه عندما تم قتل شقيقها، كانت تلك هي المرة الأولى التي يخطر ببالها أن خطر الإرهاب يمكن أن يصل إلى بنين. وهي تعتقد حالياً أن ذلك الخطر قد ضرب بجذوره في البلاد، وأضافت قائلة: «لا يوجد دخان بلا نار». كذلك قالت إنها تتمنى زيارة قبر شقيقها، لكنها لن تتمكن من ذلك أبداً، وتخشى مما يمكن أن يحدث في متنزه بندجاري.

*خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

حرب شوارع في جنوب شرقي تركيا احتجاجاً على عزل رؤساء بلديات

شؤون إقليمية قوات الشرطة تمنع نائب حزب الشعب الجمهوري المعارض دنيز ياووز يلماظ من دخول مبنى بلدية إسنيورت في إسطنبول الجمعة (إعلام تركي)

حرب شوارع في جنوب شرقي تركيا احتجاجاً على عزل رؤساء بلديات

اندلعت أعمال عنف وشغب تخللتها أعمال حرق ونهب لمحال تجارية في جنوب شرقي تركيا احتجاجاً على عزل 3 رؤساء بلديات منتخبين.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أفريقيا اجتماع مجلس الأمن القومي يبحث ملفات التهريب والجريمة المنظمة والمهاجرين غير النظاميين (موقع الرئاسة التونسية)

تونس: «عملية بيضاء» ضد الهجمات الإرهابية والتهريب على حدود ليبيا

كشفت المواقع الرسمية للداخلية التونسية أن وزير الدولة للأمن وعدداً من كبار المسؤولين أشرفوا في المنطقة الحدودية التونسية - الليبية على «عملية أمنية».

كمال بن يونس (تونس)
شؤون إقليمية الرئيس التركي رجب طيب إردوغان متحدثاً خلال فاعلية في إسطنبول الجمعة (الرئاسة التركية)

إردوغان طلب من ترمب وقف الدعم الأميركي لأكراد سوريا

كشف الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عن أنه طلب من الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب وقف الدعم الأميركي لـ«وحدات حماية الشعب الكردية» في سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا جندي باكستاني يقف حارساً على الحدود الباكستانية الأفغانية التي تم تسييجها مؤخراً (وسائل الإعلام الباكستانية)

باكستان: جهود لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين

الجيش الباكستاني يبذل جهوداً كبرى لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين.

عمر فاروق (إسلام آباد)
شؤون إقليمية الطفلة نارين غوران راحت ضحية لجريمة قتل بشعة على يد أفراد من عائلتها هزَّت تركيا (مواقع التواصل الاجتماعي)

بدء محاكمة المتهمين في جريمة قتل بشعة لطفلة هزَّت تركيا

عقدت محكمة الجنايات العليا في ديار بكر جنوب شرقي تركيا أولى جلسات الاستماع في قضية مقتل وإخفاء جثة الطفلة نارين غوران التي هزَّت البلاد وشغلت الرأي العام لأشهر

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟