في 30 أغسطس (آب) الماضي، حلت الذكرى الـ13 لرحيل الروائي المصري نجيب محفوظ؛ حيث تسابقت وسائل إعلام عدة على استعادة ملامح مهمة من حياته، أو استعراض أفكار وتصريحات أدلى بها خلال مسيرته الإبداعية المُشرقة.
وفي هذا الإطار، أُعيد نشر حوار نادر أجرته الصحافية الفرنسية شارلوت الشبراوي مع الأديب الحاصل على جائزة نوبل، لمجلة «باريس ريفيو»، في عام 1992؛ وهو حوار بديع وحافل بالمفاجآت والآراء الجريئة، التي لم يعتد محفوظ على البوح بها علناً.
من بين أكثر من عشر أفكار صالحة لإثارة الدهشة وتفجير الجدل ضمن هذا الحوار، تبرز فكرة مهمة يمكن من خلالها أن نبدأ نقاشاً جاداً حول قضية حرية الرأي والتعبير من جانب، واستحقاقات إدامة النظام العام، وحماية «الأمن القومي»، واحترام العقائد والمقدسات و«الثوابت المجتمعية» من جانب آخر.
سألَتْ الصحافية الشبراوي: «ما رأيك في حالة سلمان رشدي؟ هل ترى أنه يجب على الكاتب أن يُعطى الحرية المطلقة؟».
وأجاب محفوظ: «سأخبرك بالضبط عما أفكّر به: لكلّ مجتمع تقاليده، وقوانينه، ومعتقداته الدينية، التي يحاول الحفاظ عليها. ومن وقت لآخر يظهر أفراد يطلبون التغيير. وأظنّ أنه للمجتمع الحقّ في الدفاع عن نفسه، مثلما للفرد الحقّ في الهجوم على ما لا يتوافق معه. وإن توصّل كاتب إلى نتيجة مفادها أن لمجتمعه قوانين أو معتقدات لم تعد صالحة، أو حتى ضارة، فواجبه أن يجهر بكلامه؛ لكن عليه أيضاً أن يستعدّ لدفع ثمن صراحته. وإن لم يكن مستعداً لدفع هذا الثمن، فعليه أن يختار أن يظلّ صامتاً. والتاريخ مليء بمَن راحوا إلى السجن، أو أُحرقوا، بسبب مخاطرتهم بالإعلان عن أفكارهم. فالمجتمع يدافع عن نفسه دائماً. وهو يفعل ذلك، الآن، بشرطته ومحاكمه. إني أدافع عن حرية التعبير؛ لكني أدافع أيضاً عن حق المجتمع في مواجهتها. وعليَّ أن أدفع ثمن هذا الاختلاف معه. هذه هي الطريقة الطبيعية للأشياء».
الإجابة التي قدمها محفوظ عن هذا السؤال مدهشة بطبيعة الحال، ومع ذلك فيمكن إيجاد تسويغ لها في طبيعة الرجل نفسه، الذي أمضى حياته في كتابة الأفكار الروائية الجريئة من جانب، وحافظ على وظيفة مسؤول الرقابة الفنية على الإنتاج الفني والإبداعي من جانب آخر، من دون أن يشعر بأزمة أو اضطراب أو حرج.
لا يكاد يمر يوم من دون أن نسمع عن صدام جديد بين كاتب أو صحافي أو مدون يريد أن يتمتع بحرية الرأي والتعبير، وبين سلطة تطبق قوانين ولوائح تأخذه إلى السجن أو تغرمه مالاً أو تقصيه من موقعه.
يحدث هذا الأمر باطراد، سواء في المجتمعات المتقدمة في أوروبا وأميركا الشمالية، أو في الدول الأقل تقدماً والأكثر سلطوية. وفي بعض الأحيان ينتج عن هذا الصدام غبار كثيف تعجز وسائل الإعلام بسببه عن التماس الطرق الأكثر مهنية واتساقاً مع القيم، كما حدث في الانقسام حول نشر «الرسوم المسيئة» في بيئات صحافية أوروبية عدة.
لطالما استندت رؤى منع نشر الأفكار التي تتحدى مفاهيم مجتمعية مستقرة أو تُراد لها الحماية، إلى تعبير «صيانة الأمن القومي»، أو «الدفاع عن الثوابت والرموز»، وهو أمر لم يجد محفوظ فيه ما يستدعي استنكاراً.
ثمة تعريفات كثيرة لمفهوم الأمن القومي، كما يعرف الباحثون في علم السياسة؛ لكن أحد أكثر هذه التعريفات إثارة للاهتمام قال به الباحث أرنولد والفرز، الذي رأى أن الأمن القومي هو «التدابير التي تتخذها الدولة لحماية القيم الحيوية للأمة».
تُعرّف السلطة، بمعناها العام: «القيم الحيوية للأمة»، وتسن القوانين، وتُفعّل الإجراءات التي تكفل حمايتها؛ وهو أمر يحدث في كل دول العالم، إلى درجة أن يصدر حكم بالسجن ضد روجيه غارودي، في فرنسا؛ لأنه شكك في الأرقام المتداولة بشأن «ضحايا الهولوكوست».
يبدو أن لكل مجتمع من المجتمعات خطوطاً حمراء يريد أن يحافظ عليها من دون خرق أو تجاوز، وتلك الخطوط تتفاوت من مجتمع إلى آخر، كما تتفاوت الإجراءات الرادعة المستخدمة في كل دولة من دول العالم، بحسب عوامل تاريخية وحضارية وقانونية وسياسية متعددة، وهو أمر أدركه محفوظ، واختبره، وكاد يدفع حياته ثمناً لهذا الاختبار.
حرية الرأي في مواجهة «الثوابت»
حرية الرأي في مواجهة «الثوابت»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة