رؤساء وزراء انتقاليون حكموا السودان بعد ثلاث ثورات

رؤساء وزراء انتقاليون حكموا السودان بعد ثلاث ثورات
TT

رؤساء وزراء انتقاليون حكموا السودان بعد ثلاث ثورات

رؤساء وزراء انتقاليون حكموا السودان بعد ثلاث ثورات

يباهي السودانيون أقرانهم في الإقليمين العربي والأفريقي، بأنهم صنعوا ثلاث ثورات شعبية سلمية أسقطت ثلاثة أنظمة ديكتاتورية، خلال نصف قرن من الزمان أو تزيد قليلاً، مستخدمين ذات الآلية «قوة الجماهير» ونزوعها نحو التحرر والانعتاق من العسف والاستبداد.
وما يدهش في الثورات الثلاث، أن الآليات التي استخدمت لإسقاط الديكتاتوريات كانت متشابهة، إن لم تكن متطابقة، مع اختلاف الأسماء وتباين القوى الاجتماعية التي تقف وراءها، لكن المحصلة كانت واحدة هي سقوط حكم الفرد، وبناء نظام ديمقراطي تعددي على رأسه «رئيس وزراء انتقالي».
القوى الاجتماعية نصّبت «المعلّم» سرّ الختم الخليفة رئيساً لأول وزارة انتقالية في تاريخ السودان، بعيد ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1964 التي أطاحت بانقلاب الفريق إبراهيم عبود. وكانت تتمثّل في «جبهة الهيئات» التي شكلتها نقابات أساتذة جامعة الخرطوم، والمحامين، والمهندسين، والعمال، والمزارعين وغيرهم. ولقد تولت قيادة الحراك الشعبي عقب مقتل الطالب في جامعة الخرطوم أحمد القرشي برصاص الشرطة في 21 أكتوبر 1964. واستخدمت سلاح «الإضراب السياسي والعصيان المدني» للإطاحة بعبود. وبعد إطاحته تم التوافق على الخليفة رئيسا لوزراء الحكومة الانتقالية، ليكون أو رئيس وزراء يأتي بتفويض شعبي يحكم البلاد.
عمل سرّ الختم الخليفة، معلماً بمعهد تدريب المعلمين في «بخت الرضا»، ثم ترقّى في سلك التعليم إلى أن وصل وظيفة «باش مفتش» تعليم، ثم صار مساعدا لمدير التعليم في الولايات الجنوبية، وعميداً للمعهد الفني (جامعة السودان الحالية).
اختير الخليفة رئيسا لحكومة ثورة أكتوبر الانتقالية، بعد سقوط نظام عبود وحكم البلاد لسنتين، ليدخل تاريخ السودان من بابه الفسيح، وعاد في عهده الحكم المدني للبلاد، وأجريت بعد نهاية الفترة الانتقالية انتخابات حرة ديمقراطية اختيرت على إثرها حكومة مدنية.

انقلاب نميري
وكأنما يأبى تاريخ السودان، إلاّ أن يعود للنقطة ذاتها، التي يطلق عليها المتشائمون «الدائرة الشريرة»، لم تصمد «حكومة أكتوبر» كثيراً، إذ سرعان ما عاجلتها «المارشات العسكرية» بانقلاب المشير جعفر النميري في 25 مايو (أيار) 1969. ليذيق الشعب والبلاد الأمرّين.
بيد أن نار الثورة لم تنطفئ في قلوب السودانيين، وبعد حكم بالحديد والنار دام 16 سنة، انطلقت الاحتجاجات الشعبية العفوية في مارس (آذار) 1985. ثم تصدت لها نقابات المهنيين، وبرز «التجمع النقابي» ولحقت به الأحزاب السياسي في «التجمع الحزبي»، فقاد الجميع الاحتجاجات ضد النميري، التي بلغت ذروتها بإعلان الإضراب السياسي والعصيان المدني ليسقط النظام في 6 أبريل (نيسان) 1985. وفي 22 أبريل من العام ذاته اختير رئيس نقابة الأطباء الدكتور الجزولي دفع الله رئيسا للوزارة خلال الفترة الانتقالية البالغة عاماً واحداً، أجريت بعدها انتخابات ديمقراطية انتخبت الصادق المهدي رئيساً للوزراء.
عمل الدكتور دفع الله طبيباً بعد تخرّجه في كلية الطب جامعة الخرطوم، ثم نال زمالة كلية الأطباء الملكية البريطانية، وتخصّص في مناظير الجهاز الهضمي وسرطان المعدة في اليابان، قبل اختياره رئيساً للوزراء.

الثورة على البشير
في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018، اشتعلت ثورة شعبية عارمة ضد نظام حكم الإسلاميين بقيادة الرئيس المعزول عمر البشير انطلقت من مدن سنار وسنجة وعطبرة وبورتسودان قبل أن تنتقل للعاصمة الخرطوم.
ومثلما اتفقت النقابات المهنية في الثورتين السابقتين، استجاب الآلاف لدعوت «تجمع المهنيين السودانيين» لتنظيم موكب احتجاجي 25 ديسمبر (كانون الأول) 2018 يتجه صوب القصر الرئاسي لتسليم مذكرة لرئاسة الجمهورية تطالب بتنحي البشير ونظامه. وتعاملت أجهزة أمن النظام وميليشياته وكتائب ظله بعنف مُفرط، لكن الاحتجاجات والمواكب لم تتوقف، بل استمرت طوال أربعة أشهر، إلى انتهت بعزل البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019.
نظام البشير، من خلال التجربة التاريخية، حاول السيطرة على النقابات للحيلولة دون حدوث إضرابات وعصيان مدني قد تؤدي لإسقاطه، غير أن «تجمع المهنيين السودانيين»، الذي أسس عام 2013 كتجمع نقابي مطلبي مواز للاتحادات والنقابات الموالية لحكم البشير، تصدى لقيادة الحراك قبل أن تلحق به الأحزاب المعارضة، ليكوّنا معا «تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير» في مطلع يناير (كانون الثاني) 2019.
ولقي «التجمع» تأييداً مطلقاً من الناشطين والمتظاهرين واستجابة فريدة. وأصبحت دعوته للتظاهر والمواكب والاحتجاجات على وسائط التواصل الاجتماعي تجاب بالساعة والدقيقة، حتى أن مصطلح «الساعة الواحدة ظهرا بتوقيت الثورة السودانية»، ميقاتاً لا يفوته متظاهر ومحتج وناشط. وفي 6 أبريل (نيسان) دعا «تجمع المهنيين» وحلفائه في قوى «إعلان الحرية والتغيير»، إلى موكب يتجه لقيادة الجيش لمطالبته بالانحياز للشعب وعزل البشر... وتحوّل الموكب إلى اعتصام شارك فيه الملايين، اضطرت قيادة الجيش للانحياز له المحتجين وعزلت البشير في 11 أبريل.
لكن عزل البشير لم يكن كافياً بالنسبة للثوار، الذين ظلوا معتصمين لحراسة ثورتهم والمطالبة بتسليم الحكم للمدنيين، حتى حدثت «مأساة» الثالث من يونيو (حزيران) الماضي، حين فضّت قوات من الجيش والدعم السريع الاعتصام بالقوة. وأدت العملية لمقتل أكثر من 128 معتصما وجرح المئات وفقدان العشرات الذين لا يزال بعضهم مفقوداً.
وطوال الفترة منذ سقوط نظام البشير، وحتى إعلان تشكيل الحكومة الانتقالية أول من أمس، دخل قادة الثورة والعسكريين في المجلس العسكري الانتقالي، في تفاوض ماراثوني تعثير كثيراً، ليصلوا لتوقيع وثائق الفترة الانتقالية في 17 أغسطس (آب) الماضي، وبناء عليها أدى رئيس الوزراء الانتقالي الثالث الدكتور عبد الله حمدوك رئيساً للفترة الانتقالية الثالثة في تاريخ البلاد في 21 أغسطس الماضي.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.