لماذا صنفت الباراغواي «حزب الله» إرهابياً؟

إرهاصات النهايات لأنشطة الحزب في أميركا اللاتينية

عمال الإغاثة والإنقاذ وآثار الخراب والدمار بعد انفجار شاحنة محملة بالمتفجرات خارج مبنى الجمعية الإسرائيلية - الأرجنتينية في 18 يوليو 1994 في بوينس آيرس (رويترز)
عمال الإغاثة والإنقاذ وآثار الخراب والدمار بعد انفجار شاحنة محملة بالمتفجرات خارج مبنى الجمعية الإسرائيلية - الأرجنتينية في 18 يوليو 1994 في بوينس آيرس (رويترز)
TT

لماذا صنفت الباراغواي «حزب الله» إرهابياً؟

عمال الإغاثة والإنقاذ وآثار الخراب والدمار بعد انفجار شاحنة محملة بالمتفجرات خارج مبنى الجمعية الإسرائيلية - الأرجنتينية في 18 يوليو 1994 في بوينس آيرس (رويترز)
عمال الإغاثة والإنقاذ وآثار الخراب والدمار بعد انفجار شاحنة محملة بالمتفجرات خارج مبنى الجمعية الإسرائيلية - الأرجنتينية في 18 يوليو 1994 في بوينس آيرس (رويترز)

بعد أقل من شهر على تصنيف «حزب الله» اللبناني منظمة إرهابية من قبل الأرجنتين، اتخذت باراغواي بدورها قراراً مشابهاً كثاني دولة في أميركا اللاتينية تصنف الحزب إرهابياً؛ وذلك في سياق إعادة النظر إلى هذه الجماعة، التي بات الجميع يعتبر أنها إحدى الأذرع الميليشياوية لنظام الملالي في طهران، والتي تستخدمها لتحقيق أهدافها الأوسع، وربما تهيئة للمعركة المرتقبة مع الغرب عامة، والولايات المتحدة الأميركية بنوع خاص.

لم يتأت قرار الالباراغواي من فراغ، وإنما مما توافر للسلطات هناك من حقائق ومعلومات تؤكد على أن الحزب وأطرافه باتوا على علاقة جذرية بجماعات الجريمة المنظمة في المثلث الحدودي القائم ما بين البرازيل والأرجنتين والباراغواي، حيث تجري تجارات مشبوهة تبدأ بالمخدرات، ثم عملية غسل الأموال، وصولاً إلى الاتجار بالبشر.
والشاهد أن الدور الذي يقوم به «حزب الله» في أراضي أميركا اللاتينية بات يمثل إزعاجاً كبيراً، بل ومخيفاً لدول القارة بأكملها، وعليه فإنه يتوقع في القريب العاجل كذلك أن تحذو البرازيل حذو الباراغواي، وتصنف الحزب جماعة إرهابية وتحظر أنشطته على أراضيها.
يعنّ لنا أن نتساءل بداية: «هل من علاقة ما بين تسارع اعتبار (حزب الله) منظمة إرهابية والصراع الدائر بين واشنطن وطهران؟».
المؤكد أن هناك علاقة عضوية في الأمر، ذلك أن طهران كانت تمثل الحبل السري لتمويل كل جماعات الإرهاب المؤدلج الدائرة في فلكها، وفي المقدمة منها «حزب الله»، الذي اعترف زعيمه حسن نصر الله بأن معاشات أعضائه ومصروفاته كافة تأتي من طهران مباشرة، وفي حين العقوبات الأميركية الاقتصادية تضيّق الخناق على الحزب وقادته، يعيش الأخير أزمة مالية كبيرة جعلته يقوم بتوزيع صناديق التبرعات على الطرقات علها تقوم مقام تمويلات طهران، لكنها لا تفعل، ومن هنا يأتي دور الأعضاء المنتمين إلى الحزب الذين يسعون إلى جعل دول أميركا اللاتينية ساحة خلفية لتمويل أنشطة الحزب عوضاً عن طهران.
أحد الأسئلة الرئيسية في سياق البحث عن مستقبل جماعة «حزب الله» في أميركا اللاتينية: «هل من علاقة بين التطورات الأخيرة وتوجهات واشنطن جهة الحزب، والتي اعتبرت الحرس الثوري الإيراني النواة الرئيسية لتأسيسه؟».
الثابت أن ما يجري في واشنطن يعتبر حرباً لا هوادة فيها تجاه أنشطة الحزب على الأراضي المجاورة في القارة اللاتينية، والرئيس ترمب وإدارته باتوا يولون المشهد هناك أهمية خاصة، ناهيك عن الأصوات المتصاعدة، وجميعها تطالب باجتثاث الحزب من جذوره نظراً لمدى الخطورة التي يمثلها على الولايات المتحدة الأميركية في الداخل، وعلى مصالح واشنطن في القارة الواسعة المترامية الأطراف في الداخل.
قبل أن ينقضي شهر أغسطس (آب) الماضي كان السيناتور الأميركي الذي ينتظره مستقبل سياسي بارز في الداخل الأميركي تيد كروز، يحذر من أن ميليشيا «حزب الله» الإرهابي ما زالت نشطة في أميركا اللاتينية، وقد جاء ذلك خلال احتفال جرى في مبنى الكابيتول هيل، إحياء لذكرى حادث تفجير مبنى الجمعية التعاضدية الإسرائيلية - الأرجنتينية الذي وقع عام 1994 في الأرجنتين.
لم يتوقف كروز عند هذه الذكرى فقط، بل ذكّر الحضور بأن «حزب الله» مسؤول عن الهجوم الذي أودى بحياة 85 شخصاً وجرح 200، وأن أنشطته في نشر الفكر المتطرف والإرهاب في الأرجنتين والباراغواي والبرازيل لا تزال قائمة، وتتواصل من خلال المساجد والمدارس التي تروج لأجندة التطرف والإرهاب.
تصريحات السيناتور كروز في واقع الحال تفتح أعيننا على مشروع كبير وخطير تقوم به إيران من خلال «حزب الله» في داخل دول القارة اللاتينية، أي مشروع نشر التشيع هنا، ذاك الذي تستتبعه بالضرورة رؤى واعتقادات تزخم طريق الإرهاب، طريق تبدأ من عند المعتقدات الدوجمائية، غير القابلة للتفاوض، والتي تصنف العالم تصنيفاً حدياً بالمطلق، وتجعل من العالم فسطاطين لا أكثر، من معنا والذين ضدنا؛ ولهذا فإن خطرها الفكري في الاستقبال، يتجاوز تصرفاتها في الحال، والهول الأعظم يطل برأسه من نافذة مستقبل الأجيال القادمة، ولا سيما أنها ستكون وقوداً لنار معركة إرهابية كبرى مع الولايات المتحدة الأميركية، تلك التي بدأت تعي خطورة المشهد ولو متأخرة، غير أنه أن تصل متأخراً خير من ألا تصل بالمرّة.
كيف استطاع «حزب الله» الوكيل الإرهابي لإيران أن يمد أذرعه الأخطبوطية على هذا النحو داخل القارة اللاتينية؟
يمكن القطع بأن المشهد لم يحدث بين عشية وضحاها؛ فمنذ نهاية الحرب الإيرانية - العراقية، تلك التي انتهت بتجرع خوميني المرشد الأول للثورة كأس السم، كما قال، حين أُجبر على إنهاء تلك الحرب، وعين إيران على نشر أطرافها وتعضيد طيفها العقائدي حول العالم، لتكون لها عوناً في الملمات الجسام، وهي تعرف أنه في لحظة ما ستحين ساعة الصفر مع الغرب.
في هذا السياق، نظرت إيران إلى الخريطة الجغرافية والديموغرافية على حد سواء ورأت في الجالية العربية الكبيرة المنتشرة هناك ملعباً واسعاً وفسيحاً لاقتناص عملاء لها يذهبون في طريق ثورتها العنكبوتية، وترويع الآمنين عبر إرهابها المستمر والمستقر.
في هذا الإطار، نجح «حزب الله» في تعميق روابطه مع الكثير من الحكومات الشعبوية اللاتينية، ولا سيما عبر مجالات التجارة والاقتصاد، وتجلى الأمر بصورة خاصة في العلاقة بين فنزويلا وإيران في زمن الرئيس الراحل هوغو تشافيز، فقد اعتبر الرجل أنه من أجل تعظيم المكايدة السياسية لواشنطن فإنه يتوجب عليه تعزيز علاقته بطهران؛ الأمر الذي سهّل كثيراً جداً أعمال «حزب الله» في فنزويلا ومن بعد في بقية دول القارة اللاتينية، وليس سراً أن الأوضاع الأمنية في تلك الدول ضعيفة بصورة أو بأخرى، كما أن الفساد المستشري في الكثير جداً من إداراتها الحكومية يجعل من السهل اختراقها بالأموال والفرص الاقتصادية عبر الشراكات المغشوشة.
ولعل المثير في شأن سياسات «حزب الله» في القارة اللاتينية هي أنها تتشابه من الناحية العسكرية والمفاهيم السياسية مع ما تقوم به على الحدود مع إسرائيل، والعهدة هنا على الراوي، لويس فيشمان، الأستاذ الجامعي في الولايات المتحدة الأميركية والخبير في قضايا الشرق الأوسط وتعود جذوره إلى أوروغواي؛ إذ يرى: «أن هناك تكاملاً بين إيران و(حزب الله) وعصابات المخدرات»، وأوضح في تصريحات له أن «الأنفاق التي بنتها عصابات المخدرات لنقل منتجاتها عبر الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة تشبه تلك الأنفاق التي بناها (حزب الله) في لبنان لنقل الأسلحة».
جزء غير قليل من إرهاصات نهاية «حزب الله» في أميركا اللاتينية مرتبط بالمواجهة الساخنة الدائرة مع واشنطن في الأوقات الراهنة، الأمر الذي أشار إليه ماثيو ليفيت، مدير برنامج مكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى مؤخراً في تقرير مطول له قال فيه «قريباً جداً سيكون (حزب الله) قادراً على جمع المزيد من الأموال من تجارة المخدرات أكثر من جميع مصادر تمويله الأخرى».
ولعل الأكثر إزعاجاً للإدارة الأميركية قطع الخبير ليفيت، بأن خلايا «حزب الله» النائمة في الداخل الأميركي، باتت في انتظار إشارة إيران لضرب الأهداف الأميركية، وهنا فإن أطراف «حزب الله» في أميركا اللاتينية سوف تكون بمثابة القاعدة والخلفية اللوجيستية لأي أعمال إرهابية في الداخل الأميركي، ومن هنا يفهم المرء تكثيف واشنطن أنشطتها بحثاً عن عناصر عربية معروفة بانتمائها إلى جماعات إرهابية تعيش على أراضي المثلث الحدودي المشار إليه سلفاً.
إرهاصات نهاية «حزب الله» في أميركا اللاتينية تتسارع، ولا سيما أن الأخبار الواردة من البرازيل تقول بأن العلاقة الجيدة للغاية بين الرئيس ترمب، ورئيس البرازيل الموسوم بميل إلى جهة اليمين بولسونارو، سوف تسفر عن قرار برازيلي قريب جداً يصف «حزب الله» بأنه جماعة إرهابية قائمة على أراضي الدولة، ولا سيما أن الكونغرس الأميركي قد أكد في تقارير عدة أخيرة له أن «حزب الله» له جذور قوية في البرازيل، وأن سبعة ملايين شخص من أصول لبنانية بينهم مليون شيعي يعيشون هناك وولاؤهم العقائدي والآيديولوجي لـ«حزب الله».
ولعل المثير في الأمر أن الحزب يعتبر هؤلاء بمثابة الفيروسات القادرة على اختراق أي استحكامات أمنية أو حكومية برازيلية من أجل تحقيق درجة عالية من التمكين الذي يقود إلى مقدرة على المواجهة فيما بعد.
أحد التقارير الأميركية الاستخباراتية يشير إلى أن هناك قلقاً كبيراً من عناصر الحزب المتواجدين في البرازيل، الذين يقومون بإنشاء مؤسسات قوية للغاية عبر الحدود، وداخل الباراغواي والأرجنتين، وبالنسبة لخوان فيليكس مارتو، الرئيس السابق لمكتب مكافحة غسل الأموال في الأرجنتين، فلقد ثبت أن هناك تحالفات بين العائلات اللبنانية التي تمتلك جزءاً كبيراً من التجارة غير المشروعة، ومن الواضح أنها بدأت في مشاركة الحزب برعاية وحماية الأموال التي تأتي من تجارة المخدرات.
النيابة العامة البرازيلية بدورها اكتشفت تالياً أدلة ملموسة على علاقات تربط أطرافاً منتمية إلى «حزب الله» مع عصابتين برازيليتين شهيرتين، «القيادة الحمراء»، و«القيادة الأولى في العاصمة».
غير أنه تتبقى هناك عقبة خطيرة ومثيرة تتمثل في اعتبار فنزويلا بؤرة تجمّع لجماعة «حزب الله» وعناصره الإرهابية من دول أميركا اللاتينية كافة، والمعروف أن الصراع المحتدم بين واشنطن وبين نظام الرئيس مادورو، يفتح الباب الفنزويلي ومن جديد، بل أكثر مما كان الحال في زمن الرئيس تشافيز لاستضافة المزيد من عناصر «حزب الله» على الأراضي الفنزويلية، والمعروف أن الرئيس تشافيز كان قد منح الكثيرين منهم أوراقاً ثبوتية تسهل لهم الانتقال في القارة بأكملها، كما وفّر لهم أرض جزيرة مارجريتا التي تقع قبالة سواحل فنزويلا ملاذاً آمناً لعناصر الحزب.
على أنه رغم تلك المحاولة اليائسة الأخيرة، فإن مستقبل الجماعة في الداخل الأميركي اللاتيني تبدو شبه معدومة من جراء التضييق القادم، الذي قد يصل إلى حد المواجهة العاصفة المسلحة، حال جنوح الجماعة إلى مزيد من العمليات الإرهابية التي تسقط الآمنين في حال نشبت المعركة المنتظرة مع الولايات المتحدة الأميركية من قبل إيران، وساعتها يمكن الاستنتاج من دون أدنى تزيد أن مؤشر تصاعد «حزب الله» قد أخذ في الانكسار مرة وإلى الأبد.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.