«داعش» و«القاعدة» ومستقبل التطرف

تقدم أحد التنظيمين على صعيد الإرهاب العالمي يؤكد خسارة ملموسة لدى الطرف الآخر

متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح  في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)
متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)
TT

«داعش» و«القاعدة» ومستقبل التطرف

متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح  في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)
متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)

أسفرت تداعيات الانقسام ما بين تنظيم «داعش» وتنظيم «القاعدة» الإرهابيين عن نشوء منافسة وصفت بالمحتدمة، وأحياناً بالمصيرية تلك التي عدها الطرفان منابذة صفرية النتائج من حيث طبيعتها القاسية؛ إذ يشير تقدم أحد التنظيمين على صعيد الإرهاب العالمي إلى خسارة أكيدة لدى الطرف الآخر.
كانت الآيديولوجية المتماثلة والأهداف المتناظرة لكلا التنظيمين من أحد المحركات الأساسية لاحتدام المنافسة البينية على صعيد الإرهاب الدولي. إذ لجأ تنظيم «داعش» إلى اعتماد مستويات مفرطة من أعمال العنف بغية التفرد وتمييز الذات عن منافسيه من جماعات وتنظيمات الإرهاب الأخرى، بما في ذلك تنظيم «القاعدة» نفسه. وتبذل كلتا الجماعتين جهود تجنيد الأتباع من داخل الأوساط المتطرفة نفسها، وبسط التأثير والنفوذ بكل الوسائل الممكنة لاستمالة أكبر عدد من الأنصار. وتكمن الاختلافات الرئيسية الواضحة ما بين التنظيمين في أن «داعش» سعى سعياً حثيثاً لإقامة الخلافة الموهومة عبر خط زمني اعتبره تنظيم «القاعدة» سابقاً لأوانه بكثير، كما اعتمد تنظيم «داعش» لنفسه أجندة أعمال اتسمت بنزعة طائفية عميقة في معرض محاولاته لتحقيق أهدافه المنشودة بأي وسيلة كانت. وما إذا كان لهذه الاختلافات أن تنزوي، بصرف النظر عن كيفية ذلك، فسوف يكون لها تداعيات كبيرة ومؤثرة على مستقبل الحركة الجهادية العالمية بنطاقها الواسع.

مخاوف من الاقتتال الداخلي

وقع الانقسام المذكور أول الأمر على مستوى الأنساق القيادية العليا لهذه التنظيمات الإرهابية، ومن ثم فإن أحد التساؤلات المهمة المطروحة يقول: إلى أي مدى يعبأ قادة الخلايا الوسطى وجنود المستويات الدنيا من هذه التنظيمات بشأن الاقتتال الداخلي والنزاعات الاستراتيجية السالفة؟ وبالنسبة إلى بعض المقاتلين من هذه المستويات غير القيادية، هناك خط موازٍ واضح يربط بين حالات الاقتتال والتنافس الداخلي وبين مجريات الصراع البينية داخل عصابات الشوارع والتنظيمات الإجرامية، حيث تقوم بعض العصابات بتمييز نفسها عن طريق تحديد بعض الألوان المميزة لملابسهم، مع التهوين المستمر من شأن الخصوم عبر نشر مختلف مقاطع الفيديو على شبكة الإنترنت بهدف السخرية والاستهزاء، وربما تهديد، العصابات المنافسة.
وحازت منصات التواصل الاجتماعي على نصيب الأسد من مجريات وفعاليات الفتن بين تلك الجماعات، حيث يواصل القادة من كل جانب كيل الاتهامات وإلقاء التبعات وتوجيه اللوم على الجانب الآخر ووصمهم بـ«المسلمين العصاة»، بحسب تقرير عن مستقبل التشدد الأصولي في مجلة «ناشيونال إنترست» الأميركية.

رصاصات التوبيخ والتأنيب

وانطلقت أولى رصاصات التوبيخ والتأنيب من جانب أيمن الظواهري، الزعيم الحالي لتنظيم «القاعدة» الإرهابي، الذي أسهب في ملامة تنظيم «داعش» متهماً إياهم بالمروق والانحراف عن آيديولوجية ومنهجية «القاعدة»، التنظيم الأم كما أشير إليه.
وحقيقة الأمر، أن العلاقة بين التنظيمين الإرهابيين الكبيرين كان محكوماً عليها بالانقسام والتشرذم منذ البادرة الأولى. فالجماعة التي تشكلت في خاتمة المطاف فيما بات يُعرف بتنظيم ما يسمى «داعش» في العراق والشام، اختصاراً «داعش»، كانت تحمل منذ البداية عناصر ومكونات الجماعة المارقة، تلك التي شكّلها وأشرف على ترتيب أوراقها رجل «القاعدة» الأسبق في العراق - الأردني أبو مصعب الزرقاوي، الذي قاتل أشرس قتال يمكن وصفه بُغية المحافظة على انفصال ثم استقلال جماعته عن الجماعة الأم. وحتى بعد إعلانه الولاء وتعهده بالانتماء إلى أسامة بن لادن، الزعيم الأول لتنظيم «القاعدة» في أفغانستان، ظل الزرقاوي يتعمد تجاهل، وربما التلاعب، بالتوجيهات الصادرة إليه عن القيادة المركزية لتنظيم «القاعدة» متابعاً بدلاً من ذلك أجندته الطائفية الصارمة ذات الصبغة «الانفصالية» عن التنظيم الأم على أمل إشعال نيران حرب أهلية مستعرة بين السنّة والشيعة أولاً داخل العراق تلك التي يمتد شررها المستطير لاحقاً إلى أرجاء العالم الإسلامي الواسع كافة.
ومن الخطوات الأولى المتخذة من جانب تنظيم «القاعدة» على سبيل تقديم نفسه بصفته تنظيماً «متشدداً» أكثر نزاهة في الأساليب وأعمق إنصافاً في الغايات والمقاصد كان عبر التنديد الشديد بالنزعة الطائفية الفجة والصارخة المعتمدة من قبل تنظيم «داعش» مع العمل على إقناع رجال «القاعدة» في العراق على نبذ الطائفية ووأد فتنتها في مهدها على اعتباره من المبادئ التوجيهية الأساسية لأعمال التنظيم هناك. وخطّ الظواهري، في يوليو (تموز) من عام 2005، رسالة موجهة إلى الزرقاوي، زعيم تنظيم «القاعدة» في العراق، يأخذ عليه فيها أعمال العنف المفرطة من جانب رجاله وذبحهم غير المميز لعناصر الشيعة في العراق، مشدداً على التداعيات السلبية العميقة لمثل هذه التصرفات على صورة «القاعدة»، مع حضه على تجنب استهداف المسلمين الآخرين هناك. لكن عندما بلغت الزرقاوي رسالة أميره من أفغانستان، ما كان منه إلا أنه تجاهل فحواها وتغافل عن مقصدها مواصلاً تعزيز سمعة تنظيم «القاعدة» في العراق على اعتباره جماعة متطرفة ذات أقدام صلبة وقلب لا يعرف الرحمة بات العنف في حد ذاته مقصدها المنشود ناهيكم عن كونه وسيلة من وسائلها.
لذا؛ وفي حين أن التصدع المبدئي بين التنظيمين قد بدأ يتخذ طريقه نحو العمق في العراق خلال النصف الأول من القرن العشرين، إلا أنه تطور إلى ما يشبه الصراع الداخلي في السنوات الأولى من الحرب الأهلية السورية. وفي إثر السقوط، عمل تنظيم «القاعدة» بكل جدية على إعادة تأسيس الذات كأحد العوامل الفاعلة في بلاد الشام. وتحقيقاً لهكذا غاية، اضطر التنظيم، أفغاني النشأة، إلى محاولة التغلب على الكثير من الانتكاسات التي واجهته في الطريق والمتعلقة بوحدة صفوف التنظيم وتماسك عناصره. وكان التواجد الأول لتنظيم «القاعدة» في سوريا، كما هو معتاد، عبر أحد فروعه هناك والمعروف باسم «جبهة النصرة»، أو ما كان يُعرف بفرع «داعش في بلاد الشام» سابقاً. وفي منتصف عام 2016، أعادت «جبهة النصرة» تسمية نفسها بمسمى «جبهة فتح الشام»، ثم أعلنت توحيد صفوفها مع جماعات إرهابية منشقة أخرى لتعلن لاحقاً تشكيل تنظيم «هيئة تحرير الشام»، وهي تنظيم إرهابي شامل اعتمد منذ البداية النأي بنفسه وخلق مسافة فاصلة يزداد اتساعها بينه وبين تنظيم «القاعدة».
واعتباراً من منتصف عام 2018، لم يكن لدى تنظيم «القاعدة» أي أذرع أو فروع رسمية داخل سوريا، غير أنه لا يزال يحظى بولاء بعض من أبرز المتطرفين المتواجدين هناك. وأعلنت بعض العناصر الموالية لتنظيم «القاعدة» في عام 2018 عن تشكيل جماعة جديدة أخرى تحمل مسمى «تنظيم حراس الدين». وفي حين التزام «هيئة تحرير الشام» بالتركيز على الأحداث الجارية في سوريا، كان «تنظيم حراس الدين» يضم قدامى محاربي تنظيم «القاعدة» ممن قد يسعون إلى استغلال سوريا كقاعدة انطلاق لشن هجمات إرهابية فائقة المستوى ضد الغرب. ويعد هذا الموقف المتخذ من قبل «تنظيم حراس الدين» انحرافاً واضحاً عن مسار تركيز تنظيم «القاعدة» في الآونة الأخيرة على استمالة تأييد القاعدة الشعبية من المتطرفين داخل سوريا؛ الأمر الذي إن أتى ثماره المنتظرة، فسوف يرجع بتداعيات كبيرة على عودة التنظيم الأم إلى مجده السابق في عالم التطرف والإرهاب. وكانت عملية إعادة التسمية من جانب عناصر تنظيم «القاعدة» في سوريا ضرورية بصفة جزئية غير أنها كانت خطوة مهمة ذات طبيعة استراتيجية كذلك. ومن وجهة النظر البراغماتية البحتة، خدمت عمليات إعادة التسمية تلك في إنشاء مسافة واضحة المعالم ما بين تنظيم «القاعدة» (الأم) وبين مجموعة من الجماعات المقلدة والمنافسة على الجانب الآخر من الطيف المتشدد.
ولم تختلف الزاوية الاستراتيجية لعملية إعادة التسمية كثيراً عن استعانة شركة من الشركات بأدوات العلاقات العامة والتسويق التجاري لإعادة طرح الصورة أو ارتداء ثوب جديد؛ إذ يحاول تنظيم «القاعدة» في الآونة الراهنة طرح نفسه بديلاً أكثر «اعتدالاً» عن تنظيم «داعش». وسوّق الأخير علامته التجارية على صعيد الجهاد العالمي استناداً إلى فكرة مسمى الخلافة المزعومة والتزام التنظيم خط أعمال العنف المفرطة، في حين سعى تنظيم «القاعدة» إلى تصوير نفسه تنظيماً أكثر تكيفاً مع التغيرات وأكثر حنكة في التخطيط الاستراتيجي، ويملك الفرص السانحة الكبيرة ذات الجاذبية المؤثرة المساهمة في إنجاح مساعيه في المستقبل.
ورغم أن عمليات إعادة التسمية تعتبر من قبيل المخاتلة والمخادعة التي تستعين بها جماعات التطرف والإرهاب في نظر الكثيرين من علماء وخبراء مكافحة الإرهاب، فإنها قد تنجح في إعادة طرح صورة تنظيم «القاعدة» في الداخل السوري. وعلى هذا النحو، وفي حين أن مجرد ظهور وصعود تنظيم «داعش» الإرهابي اعتبر تهديداً وجودياً لتنظيم «القاعدة» عند مرحلة من المراحل، إلا أنه قد أتاح الفرصة لـ«القاعدة» لمعاودة الظهور على مسرح الأحداث. كان قرار تنظيم «القاعدة» المدروس يدور حول النأي بالنفس تماماً عن التنظيمات المتفرعة عن مداره لإفساح المجال أمام تصوير نفسه الحائز القوة الشرعية، والمقدرة، والاستقلال ضمن مجريات الحرب الأهلية السورية المستمرة. ومن الأهداف الأخرى المتصورة لتنظيم «القاعدة» كان إثبات أن مقاتلي التنظيم كرّسوا حياتهم وجهدهم لمعاونة السوريين على الانتصار في حربهم ونضالهم. وأخيراً، من شأن ذلك أن يمنح قيادة «القاعدة» الرئيسي قدراً يسيراً من الإنكار المعقول الذي يمهد الطريق لحلفائه السابقين للتأهل للحصول على المساعدات العسكرية من عدد من البلدان الخارجية المعنية.
الآن، وبعد سقوط خلافة تنظيم «داعش» المزعومة في العراق وسوريا، ربما يعاود تنظيم «القاعدة» الظهور على اعتباره الجماعة الوحيدة ذات الإمكانات العسكرية القادرة على الوقوف في وجه بشار الأسد وتحدي قبضته الحديدية على السلطة في البلاد، على الرغم من أن ذلك يبدو من الآمال بعيدة المنال على اعتبار مجريات الأحداث وتطوراتها منذ منتصف عام 2018 وحتى الآن. ومن شأن تنظيم «القاعدة» إثبات أنه يمثل التهديد طويل الأجل على الأمن والاستقرار في الداخل السوري، ويرجع ذلك في مقامه الأول إلى قاعدة التأييد الشعبي وجاذبيته التي لا يزال يحظى بها على الصعيد المحلي. وعلى النقيض من تنظيم «داعش»، يُنظر إلى تنظيم «القاعدة» من واقع أنه الكيان المتأهب للعمل مع السكان المحليين من حيث امتلاكه الموارد اللازمة لتوفير بعض، وليس كل، مظاهر الحكم هناك. وعلى المدى البعيد، يمكن لتنظيم «القاعدة» التحول إلى ما يشبه تنظيم «حزب الله» اللبناني الشيعي – الكيان العنيف غير الحكومي في الداخل اللبناني – الذي تمكن من تعزيز شرعية تواجده سياسياً مع المحافظة في الوقت نفسه على قدرات شن أعمال العنف والإرهاب واسعة النطاق كلما اقتضت الظروف.


مقالات ذات صلة

تحذير أممي من عودة «داعش» في سوريا

المشرق العربي غير بيدرسون المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا يتحدث إلى مجلس الأمن الدولي عبر تقنية الفيديو خلال عقد المجلس اجتماعاً طارئاً بشأن سوريا في مقر الأمم المتحدة بنيويورك 3 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

تحذير أممي من عودة «داعش» في سوريا

حذّر مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا، غير بيدرسون، اليوم (الثلاثاء)، من أن الوضع في سوريا «خطير ومتغير»، وقد يؤدي إلى عودة ظهور تنظيم «داعش».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
أوروبا جانب من مداهمة الشرطة السويدية مقر جمعية إسلامية (أرشيفية)

اتهام 3 في السويد بتدبير جريمة إرهابية مرتبطة بتنظيم «داعش»

قال الادعاء العام في السويد، الاثنين، إنه وجّه اتهاماً إلى ثلاثة أشخاص بتدبير جريمة إرهابية مرتبطة بتنظيم «داعش».

«الشرق الأوسط» (ستوكهولم)
العالم العربي الإدارة الذاتية الكردية تُدين في بيان الهجوم الذي تشنه الدولة التركية ومرتزقتها على الأراضي السورية (أ.ف.ب)

الإدارة الذاتية الكردية لشمال وشرق سوريا تتهم تركيا بقيادة الهجوم على البلاد وتعلن التعبئة العامة

اتهمت الإدارة الذاتية الكردية لشمال وشرق سوريا، اليوم (الأحد)، تركيا بقيادة الهجوم الذي تشنه فصائل مسلحة في سوريا، وأعلنت التعبئة العامة.

«الشرق الأوسط» (حلب)
أفريقيا عناصر من الجيش السوداني خلال عرض عسكري (أرشيفية - أ.ف.ب)

5 نزاعات منسية خلال عام 2024

إلى جانب الحربين اللتين تصدَّرتا عناوين الأخبار خلال عام 2024، في الشرق الأوسط وأوكرانيا، تستمر نزاعات لا تحظى بالقدر نفسه من التغطية الإعلامية.

«الشرق الأوسط» (باريس)
العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.