ماذا يمكن أن يتبقى من «ألف ليلة وليلة» إذا حذفنا السفر من متنها؟

من دون الارتحال يسقط العجائبي وتموت الحكمة

ماذا يمكن أن يتبقى من «ألف ليلة وليلة» إذا حذفنا السفر من متنها؟
TT

ماذا يمكن أن يتبقى من «ألف ليلة وليلة» إذا حذفنا السفر من متنها؟

ماذا يمكن أن يتبقى من «ألف ليلة وليلة» إذا حذفنا السفر من متنها؟

منذ ما لم أعد أتذكر من السنين، كنت أرى في قريتي شيوخاً، تقتصر حركتهم اليومية على بضع خطوات محفوظة، يمشيها المبصر ويمشيها الأعمى بأمان وروية.
كانوا يخرجون من دورهم، يجلسون أمام المسجد. ومع كل نداء للصلاة يدخلون لأداء الفرض، ثم يعودون إلى جلستهم، صامتين معظم الوقت، يتنقلون مع الظل حتى آذان الصلاة التالية، ثم يعودون إلى دورهم بعد الِعشاء؛ آخر صلوات اليوم.
لا يتغير هذا الروتين، إلى أن يسحب الموت أحدهم فيمشون في جنازته دون أسى، ويعودون إلى جلستهم التي سرعان ما يترقى إليها شخص جديد اكتشف أنه صار مُسناً، لأنه لم يعد يقدر على مواصلة العمل الزراعي الأكثر مشقة من أعمال السجناء.
ربما يسافر أحدهم في مناسبات محدودة إلى المدينة القريبة، عادة «المركز الإداري» لتسجيل قطعة أرض جديدة، أو مصاحباً لمريض إلى عيادة طبيب. ولأنهم أميون، فإنهم لم يسافروا في كتاب، باستثناء القرآن الكريم الذي يستمعون إلى تلاوته ويحفظ كل منهم فاتحته وبعض آياته للصلاة.
للمرأة، في هذه البيئة الضيقة، الرتابة ذاتها، باستثناء بعض الحيوية التي تضفيها المشعوذات وضاربات الرمل اللائي يزرن القرية بين حين وحين، ويُعدُّ الاتصال بهن حكراً على النساء.
كنت أفكر؛ بعطف في أولئك الرجال وتلك النساء، وبخوف على مصيري: ما معنى الثمانين عاماً التي يعيشها إنسان في مكان واحد، تمضي فيه وقائع أيامه بتطابق مطلق بين اليوم والذي يليه؟
من لا يُغير مكانه لن يعرف في حياته، مهما طالت، إلا القليل الذي يمكن أن يدهشه، ولن تكون حياته تلك مصدر دهشة لأحد إلا إذا قام بانقلاب جنوني، كأن يرتكب جريمة شنعاء أو يكون ضحية لجريمة.
ومن الصعب على من لا يسافر أن يُغيِّر الصورة المرسومة له سلفاً. لذلك كان لا بد لكل نبي من هجرة.
الطبيب المعالج يأتي من البعيد، بعد أن يعجز أطباء المملكة؛ فالبعيد موطن الحكمة. وهو موطن الغرائبي كذلك. لا يمكن أن نصدق أن بساطاً يطير أو عفريتاً يأتي في هيئة طائر يحمل البطل على جناحه أو بين مخالبه إلا أن يكون في مكان بعيد لا يبلغه مستمع أو قارئ الحكاية.
لنفكر: ماذا يمكن أن يتبقى من ألف ليلة وليلة إذا حذفنا السفر من متنها؟
تبدأ القصة الإطار بملك يطلع على خيانة زوجته، ولو قتلها أو طلَّقها لانتهت الليالي قبل أن تبدأ. لكن شاه زمان المفجوع في زوجته يترك مملكته ويسافر إلى أخيه، فيكتشف أن شقيقه ضحية المأساة ذاتها. يترك الأخوان مُلكيهما ويسيحان في الآفاق، فتتأكد عداوتهما للمرأة عندما صادفا امرأة تجبرهما على الاضطجاع معها، لتكمل بهما رقم مائة من رجال خانت معهم الجني الغيور بمجرد أن غفا، لمجرد أنه تركها لحظات خارج الصندوق ثقيل الأقفال الذي يحبسها فيه.
أن يكون العفريت بقدراته الأسطورية ضحية للخيانة؛ فهذا يقلل من فجيعتهما في الزوجتين، ويصلح لأن يكون موعظة «لو كُتبت بالإبر على آماق البشر لكانت عبرة لمن يعتبر». وبدا أن الأخ الكبير اقتنع بالموعظة، لأنه خرج من متن الليالي. ولن نعرف عنه شيئاً حتى الصفحات الأخيرة فنكتشف أنه ـ دون اتفاق مع أخيه ـ مارس السلوك الوحشي نفسه: الاستمتاع بامرأة كل ليلة وقتلها في الصباح!
توقف شهريار عن القتل لأنه كان محظوظاً بامرأة ذكية سافرت به في حكاياتها ليلة بعد ليلة لتريه المزيد من العبر وتسيح به في آفاق لم يرها.
استبدلت شهرزاد عذرية الأماكن بعذرية البنات، لترضي شهوته للافتضاض. وبعد سنوات ثلاث من الترحال في الحكايات، كانت قد استأنسته تماماً وأنجبت منه، وقرر الزواج منها، ودعا أخاه لحضور حفل عرسه؛ فإذا بنا نكتشف أن فاجعة الدم تواصلت في المملكة الأخرى!
لم يجد شاه زمان شهرزاداً أخرى تردعه عن القتل، وعاش السنوات الثلاث يمارس الوحشية التي مارسها شهريار في البداية. لكنه استقبل خبر زواج أخيه بسرور، وقرر الاقتران بدنيا زاد الصامتة التي لم تفارق مكمنها تحت سرير أختها طيلة السنوات الثلاث.
أنقذت شهرزاد بسفرها في الحكايات رجلين لا رجلاً واحداً من شهوة الدم. وتنازل شاه زمان عن مُلكه، مُفضلاً عليه البقاء لدى شقيقه، وتنتهي الليالي بصحبة الأخين والأختين، لم يفرق بينهم سوى هادم اللذات.
لو كان خروج شاه زمان المبكر من الليالي نهائياً، وظلت حياته مجهولة بالنسبة لنا لاعتبرنا انقطاع خطه سهواً من المؤلفين المجهولين، لكن عودته تعني أن حياة الإقامة غير جديرة بأن تُحكى، رغم الدراما العالية التي ينطوي عليها جز رقبة فتاة كل يوم.
يمكننا باطمئنان أن نعتبر ألف ليلة كتاباً في السفر. من دون الرحلة يسقط العجائبي؛ العمود الفقري لليالي. لهذا انحاز السرد في الليالي إلى الارتحال من قمة جبل إلى قاع بحر ومن حواري دمشق إلى جزائر الهند.
وتيمناً بالليالي، يظل السفر هو روح السرد في كل زمان، يمده بالدهشة، ويمهد للانطلاقات الكبرى في الحكاية من «دون كيخوتة» إلى «موبي ديك» إلى «مدن لا مرئية» لهذا يحب الروائيون السفر، باستثناءات نادرة بينها نجيب محفوظ، وأبطاله مثله لا يسافرون، وإذا سافروا فإننا نعرف بسفرهم أو بعودتهم كخبر في جملة.
«جلال ذو الجلالة» الفتوة الوحيد من سلالة عاشور الناجي الذي فتنته رغبة الخلود لم يسافر بحثاً عن عشبة تعفيه من الموت، لكنه استعاض عن ذلك بتغييب الشهود كي تحدث المعجزة، اعتكف حسب وصفة الدجال في غرفة مظلمة لمدة عام.
هذا الاعتكاف هو السفر الذي يناسب مخيلة كاتب مقيم. وكان في هذا الاختفاء الغامض ما يكفي من الفتنة لسكان الحارة؛ لأنهم عدوه سفراً. في اعتقادهم لا يمكن لأحد أن يبقى ساكناً طوال العام في ظلام غرفته؛ لا بد أنه قام بأسفار لا يعرفون طبيعتها خلال هذه الغيبة، ولا بد أنه عاد منها ليخلُد، وهو ما جعله مهاباً أكثر من أي فتوة آخر.
بسبب إجهاد الذاكرة، تصورت لسنوات طويلة أن حلم الكتابة كان حلمي الوحيد. نسيت أنني حلمت مبكراً جداً بالسفر، حتى التقيت في ميلانو بصديق طفولة يقيم بتلك المدينة الشمالية الإيطالية، دون أن أجرؤ على القول «يعيش هناك» فالإقامة غير العيش تماماً. لم يسافر إلا للضرورة. ولم ينسَ ذلك. كان يريد الستر الذي يجلبه العمل في الخارج، ولم يكن باحثاً عن المتعة، ولا عن مضاعفة العمر الذي يبتغيه الناس من السفر.
أبهجني لقاء صديق الصبا، وأدهشني صفاء ذاكرته، عندما سألني بغتة: «هل تتذكر حلمك بالعيش في الريف الإنجليزي؟».
ومضى السؤال كبرق أضاء منطقة معتمة في الذاكرة؛ وتذكرت فرحتي عندما تلقيت في البريد مجلة من القسم العربي للإذاعة البريطانية، فرحة لم تتكرر بتلقي شيء مطبوع بعد ذلك أبداً، لا عندما رأيت توقيعي للمرة الأولى في جريدة، ولا عندما تلقيت النسخة الأولى من أول كتبي.
قرأت في تلك المجلة أشياءً عن بريطانيا، لكن الذي سلب خيالي كان العشب الأخضر الزاهي الممتد بين بيوت أنيقة متناثرة بأسطح هرمية من القرميد ومداخن قصيرة. كانت الألوان مبهجة، وبدت لي حياة الريف الإنجليزي ناعمة ومصقولة كورق تلك المجلة. ومن حسن حظي أنني لم أرَ الريف الإنجليزي حتى الآن، ولا يبدو أنني سأسعى يوماً لزيارته حتى لا أجرح صورة الجنة التي حلمت بها!
طفلٌ في قرية مصرية يحلم بمكان بعيد، لم يحلم بمدينة، بل بريفٍ آخر بعيدٍ جداً؟
هل كانت المدينة شيئاً يتجاوز أحلامي؟ هل كان العالم بالنسبة لي مجرد ريف متعدد الأشكال؟ لا أذكر، حتى، هل المجلة هي التي خلقت حلمي، أم أنه كان موجوداً وأنه هو الذي دفعني إلى مراسلة الإذاعة بطلب المجلة لتعزيزه وتأكيده.
معرفة منطلقات حلمي ليست مهمة بذاتها، كما أن حلمي بالعيش في الريف الإنجليزي قد لا يراود الكثير من البشر، وما كنت لأرويه إلا لافتراضي أن الشوق إلى لقاء المختلف والمدهش الذي انطوى عليه حلمي يتطابق مع أحلام ملايين البشر.



هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التفاعل والتبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً، ومسكوناً بهاجس الهويات ونزاعاتها.

ومع أن الكُرد شعبٌ يسكن مناطق متفرقة في عدة دول، فإنهم حافظوا على تراثهم الأدبي عبر القرون، وعلى لغتهم التي يتحدث بها أكثر من 30 مليون شخص. وتمتلك هذه اللغة تاريخاً أدبياً غنياً، وتُعد جسراً طبيعياً بين الثقافات في المنطقة.

لقد طُرحت مشاريع عدة لتقريب الثقافتين العربية والكردية؛ لكنها أُجهضت، فقد عملت السياسة كعنصر تخريب للتواصل الثقافي؛ بل أسهمت مشاريع التهميش من جانب والانغلاق من جانب آخر في توسيع الشقة حتى بين أبناء البلد الواحد.

إدراكاً لهذا الواقع المؤسف، أخذت دار «رامينا» التي يديرها الكاتب والروائي الكردي السوري، المقيم في بريطانيا، هيثم حسين، على عاتقها إصدار أو ترجمة عدد من الكتب الكردية إلى اللغة العربية، أو ترجمة الكتب العربية إلى الكردية، في مسعى يهدف «لبناء الجسور بين شعوب المنطقة، وبناء قيم التسامح ونبذ الكراهية والتطرف والعنف، في سياق أدبي إنساني رحب»، كما تقول الدار في نشرة التعريف عن نفسها، على الموقع الإلكتروني. وتضيف أنها تركز «على ثقافات الأقليات والمجتمعات المهمشة في جميع أنحاء العالم، وذلك ضمن الفضاء الثقافي والحضاري والإنساني الأرحب».

الترجمة كجسر للتواصل

يقول صاحب الدار لـ«الشرق الأوسط»: إن هذا المشروع يستهدف إنشاء منطقة تواصل حقيقي: «نحن نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له، وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه. إن تجربة دار النشر (رامينا) هي محاولة لاستعادة ما فقدته الجغرافيا من قدرة على جمع البشر. لقد بدأتُ في تأسيس الدار حين شعرت بأن العلاقة بين العربية والكردية تحتاج إلى عناية تُنقذها من التباعد التاريخي، وبأن الأدب قادر على أداء هذا الدور إذا أُتيح للنصوص أن تنتقل بحرية بين الضفتين».

انطلقت «رامينا» إلى الترجمة بوصفها عملاً يتجاوز التقنية، ولم تبحث عن «نقل الكلمات»، إنما عن نقل التجارب والمخيلات والوجدان، كما يقول مؤسسها. وكانت القفزة الأهم حين عملت -بدعم من مبادرة «ترجم» وبالتعاون مع وكالة «كلمات»- على مشروع ترجمة كتب عدة من الإبداعات السعودية إلى الكردية، وهو حدث يتحقق للمرة الأولى في تاريخ الأدبين العربي والكردي.

لقد قدَّمت «رامينا» للقارئ الكردي نصوصاً عربية خليجية وسورية وعُمانية وبحرينية، مترجمة إلى لغته الأم. وكذلك قدَّمت للقارئ العربي نصوصاً كردية بأصوات متنوعة تمثِّل جغرافيات كردية متعددة، وأعادت فتح نافذة على الأدب السرياني ضمن سلسلة النشر السريانية التي خصصتها لإحياء هذا الإرث الموشَّى بالروحانية والشعر، وهو من أعمق طبقات تاريخ المنطقة، كما أطلقت شراكات ترجمة إلى الإنجليزية، لحاجة الأدب الكردي والعربي إلى هذا الأفق العالمي كي لا يبقى أسير لغته أو مكانه.

من الأعمال التي شكَّلت نقطة تحول في هذا المشروع: سلسلة الإبداعات السعودية المترجمة إلى الكردية؛ وهو مشروع غير مسبوق فتح باباً واسعاً لفهم جديد بين القارئ الكردي والمشهد السعودي، فقد نقلت «رامينا» للقارئ الكردي أعمالاً لأدباء ونقاد سعوديين، منهم: سعد البازعي، ويوسف المحيميد، وأميمة الخميس، وأمل الفاران، وطارق الجارد، وعزيز محمد، وغيرهم.

والثاني، مشروع الترجمات العُمانية والبحرينية، مثل رواية «بدون» ليونس الأخزمي و«الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي؛ و«دخان الورد» لأحمد الحجيري، وهي نصوص أدخلت القارئ الكردي إلى سرديات لم يكن يصل إليها.

والثالث، مشروع الترجمة من الكردية إلى العربية، الذي قدَّم للعربي أصواتاً كردية ذات حساسية عالية، تنقل الهويات المتعددة والمعاناة المتراكمة في كردستان سوريا والعراق وتركيا وإيران؛ حيث تُرجمت إلى العربية عشرات الأعمال الكردية لكُتَّاب كُرد، مثل: عبد القادر سعيد، وسيد أحمد حملاو، وصلاح جلال، وعمر سيد، وكوران صباح... وغيرهم.

وأما الرابع فهو مشروع النشر السرياني، الذي يعيد الاعتبار لطبقة ثقافية مهمَّشة، ولغة أصيلة من تراث منطقتنا، ويمنحها موضعها الطبيعي داخل المشهد الأدبي.

والخامس، إطلاق الترجمات إلى اللغة الإنجليزية.

يقول هيثم حسين إنه «بهذه الحركة المتبادلة، صار مشروع الترجمة في (رامينا) مشروعاً لإعادة النسج بين لغتين، وتأسيس حوار ثقافي طال غيابه».

«نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه»

هيثم حسين

التراث الأدبي المشترك

وردّاً على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عما يمكن أن يضيفه هذا المشروع إلى التراث الأدبي المشترك، يقول هيثم حسين إن مشروع التواصل الأدبي الذي تقوم به «رامينا»، يضيف ما يشبه «الخيط المفقود»، فالتراث العربي والكردي والسرياني ظلَّ متجاوراً دون أن يتشابك بما يكفي.

ويضيف: «الآن، حين يقرأ كردي نصاً سعودياً بلُغته، أو يقرأ عربي رواية كردية، أو قارئ إنجليزي عملاً مترجماً من هذه البيئات، تظهر طبقة جديدة من التراث؛ طبقة عابرة للغات والانتماءات، ترى الإنسان قبل كل شيء. نحن لا ندَّعي أننا بصدد صنع أو تصدير تراث بديل، إنما نحاول أن نعيد توزيع الضوء على تراث موجود، ولكنه كان منسياً في الظلال والهوامش».

أما الثيمات التي تتكرر في إصدارات «رامينا»، فهي تكاد تتقاطع حول هوية تبحث عن مكانها في عالم مضطرب: الذاكرة، بصفتها محاولة لمقاومة النسيان. الكتابات السيرية الذاتية والغيرية. المنفى، باعتباره إعادة تكوين للذات. اللغة، بما تحمله من فجيعة وحماية في آن واحد. الهوامش التي تتحول إلى مركز حين يُكتب عنها بصدق. الأمكنة المحروقة والقرى المطموسة والطفولة المهددة بالمحو. وهذه الثيمات امتداد لتجارب الكُتاب أنفسهم: كرداً، وعرباً، وسرياناً، ومهاجرين.

وعن الحركة الأدبية الكردية في سوريا، يقول هيثم حسين: «إن القوة الأدبية الكردية في سوريا نابعة من صدق التجربة وعمق الجرح. هناك كُتَّاب يمتلكون لغة عربية متماسكة، وأخرى كردية راسخة، ما يجعل أصواتهم قادرة على الوصول إلى جمهورَين. من خلال الترجمة والتوزيع في كردستان العراق، ومن خلال النشر في لندن، أصبح لهذه الأصوات مسار يصل بها إلى مَن لم يكن يسمعها. أرى أن هذا الامتداد عابر للحدود، وأن الكتابة الكردية السورية مرشَّحة لأن تكون أحد أهم أصوات الأدب القادم من المنطقة».

ورداً على سؤال بشأن كيفية تقديم التراث الكردي والهوية الكردية للآخرين، قال مؤسس «رامينا»: «إن الدار قدَّمت التراث عبر نصوصه؛ لا عبر خطاب خارجي عنه. فحين يقرأ قارئ عربي أو إنجليزي أو كردي نصاً مترجماً أو أصلياً، يكتشف مفردات الهوية الكردية كما تعيش في الحياة اليومية: في الأغاني، في اللغة، في القرى، في القصص العائلية، وفي تفاصيل الفقد والحنين. بهذا يصبح التراث الكردي جزءاً من المشهد الثقافي العام، لا معزولاً ولا مؤطَّراً. كما أن النصوص الأدبية تثبت العناصر المشتركة بين الثقافات؛ حيث تكشف النصوص أن الألم واحد، والحنين واحد، وأسئلة الإنسان واحدة. وتُظهر أن الاختلافات اللغوية لا تزيل جوهر التجربة الإنسانية؛ بل توسِّعها. حين يتجاور الأدب الكردي والعربي والسرياني والإنجليزي في سلسلة نشر واحدة، تتكوَّن منطقة مشتركة؛ بلا حدود، يتقاطع فيها الإنسان مع الإنسان. وهذا هو جوهر المشروع الذي أردتُ لـ(رامينا) أن تكون منصته».


«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة
TT

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية تتراوح بين المدينة والقرية على خلفية عوامل من القهر والإحباط التي تجعل من حواء لقمة سائغة في فم وحش الوحدة والعزلة والشجن والحنين.

تعتمد المجموعة تقنيات سردية تستكشف كذلك قضايا الوجود والهوية والاختيارات الصعبة والأحزان العميقة عبر أعمال تمزج بين أشكال مختلفة من السرد مثل السيناريو والمونتاج والفلاش باك والمشهدية البصرية بهدف تسجيل لحظات نسائية خاصة، عبر تجربة أدبية تجمع بين العمق الإنساني والتجريب الفني.

تتنوع النماذج التي تدعو للتأمل في المجموعة القصصية من الخالة التي تجلس وقت الغروب تمضغ التبغ وهى تزعم أن الموتى يبعثون برسائل عبرها كوسيطة، إلى المصابات بالاكتئاب السريري، وليس انتهاء بالأديبة الشابة التي تواجه أديباً شهيراً اعتاد السخرية من الكتابات النسوية.

تميزت عناوين المجموعة بوقع صادم يعبر عن فداحة ما تتعرض له المرأة في المجتمعات الشرقية، بحسب وجهة نظر المؤلفة، مثل «السقوط في نفق مظلم»، «نزع رحم»، «يوميات امرأة تشرب خل التفاح»، «الناس في بلاد الأفيون»، «البكاء على حافة اليقظة».

ولم يكن قيام هناء متولي بإهداء العمل إلى الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ماتت منتحرة عام 1963 عن 30 عاماً، فعلاً عشوائياً، حيث سبق انتحار الأديبة الشهيرة سنوات طويلة من الاضطرابات النفسية والاكتئاب السريري وهو ما يبدو ملمحاً أساسياً من ملامح المجموعة.

وجاء في الإهداء:

«إلى سيلفيا بلاث... التي عرفتْ جيداً كيف يبدو الألم حين يصبح مألوفاً، أستمعُ إلى صدى كلماتك بين همسات الوحدة وأصوات الكتابة، كأنك تركتِ لي خريطة في دفاترك، تشير إلى تلك الأماكن العميقة داخل النفس حيث تختبئ الظلال خلف الضوء».

ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ:

«شروق خجل للشمس بعد ليلة ممطرة، تهرول سناء في عباءتها الصوفية وشالها القطني الطويل، تقترب من البيت المطل على الترعة وحيداً ورغم أنه قد شُّيد من طوب لبن ومعرش بسقيفة من القش فإنه يشع دفئاً في وجه الزمن. تنادي بصوت مترقب: يا خالة، فتطل عليها المرأة قصيرة القامة ذات الجسد المنكمش بعينين يقظتين لتكرر على مسامعها جملتها المعتادة: لا رسائل لك.

تعاود الهرولة وقد أحكمت الشال حول كتفيها العريضتين وقوست قامتها الطويلة، يهاجمها البرد بقسوة ليزيد جفاف قلبها. تعود سناء إلى بيتها... تتكور في فراشها... تحاذر أن تلمس جسد زوجها السابح في النوم، لئلا توقظه برودتها فينكشف سرها.

في ليلة حناء شقيقتها، ارتدت سناء فستاناً بنفسجياً من القطيفة وحجاباً زهرياً خفيفاً، كانت تعجن الحناء وتراقب الرقص والتصفيق بعينين شاردتين، تفاجئها موجة جديدة من حزن كثيف يتلبس روحها ويقبض على قلبها بقسوة. تهرب وتحبس نفسها في مخزن الغلال لتغرق في بكاء لاينتهي. يرغمها والدها على تناول قطعة صغيرة من حلوى العروس وبمجرد ابتلاعها تتقيأ».


«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد
TT

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

جاء الديوان في 176 صفحة، مقسّمة إلى ثمانية فصول: «ما قبلَ»، ثم: «الصَّوت»، «الصُّورة»، «الرَّائحة»، «اللَّمس»، «الطَّعْم»، و«الألم»، «ما بعدَ».

جاء في كلمة الناشر أن «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة» يبدأ من لحظة التّأسيس الأسطوريّة الأولى؛ «المُصادفة» التي جعلتْ «الغابة» تلتهم «جَبلاً». كأنّه بالأحرى «سِفر تكوين» مكثَّف لـ«العلائق» بين الذَّكر والأنثى، التي تتجاوز الثنائيّات التقليديّة للقوّة والضعف، منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا.

بهذا المعنى، فإن «المُعْجَم» الذي يبنيه عماد فؤاد هنا مشدودٌ بين قُطبي الكمال والنُّقصان، المرأة والرّجل، الإيروتيكيّة والصوفيّة، ما قبلَ.. وما بعدَ. لكنّه ليس بسيطاً كما يبدو من الوهلة الأولى، إنّه كون شاسع ومركّب. عالم معقّد تتعدّد أبعاده وتتراكم طبقاته الفلسفيّة والدّينية صفحة بعد صفحة، وقصيدة بعد أخرى... لذلك: تأبى لغة عماد فؤاد الاكتفاء بأداء مهمّتها الرئيسية، فتكون مجرَّد لغة هدفها «الإيصال» فحسب. لا... اللّغة هنا مثل شاعِرها؛ طامعة في أكثر من الممكن، في أكثر حتّى ممّا يستطيع الشِّعر أن يستخرجه من اللّغة نفسها، هذه ليست قصائد عن «الحواسِّ النَّاقصة» كما يدَّعي العنوان، بل قصائد كُتبتْ بـ«الحواسِّ النَّاقصة»، ستجد حروفاً لا تُرى.. بل تُلمَسْ. وكلماتٍ لا تُقال.. بل تُشَمّ. وجُمَلاً لا تُنْطَق.. بل «تُسْتطْعم». وقصائد لا تُقرأ.. بل تخترق اللحم كأسنّة الخناجر.

يعتبر عماد فؤاد أحد شعراء جيل التسعينات المصري، ومن أعماله الشِّعرية: «تقاعد زير نساء عجوز»، و«بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم»، و«حرير»، و«عشر طُرق للتّنكيل بجثَّة» و«أشباحٌ جرّحتها الإضاءة».

ومن كتبه الأخرى، «ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ: الإصدار الثاني لأنطولوجيا النّص الشِّعري المصري الجديد»، وكان الإصدار الأول تحت عنوان «رعاة ظلال.. حارسو عزلات أيضاً»، و«على عينك يا تاجر، سوق الأدب العربي في الخارج... هوامش وملاحظات»، كما صدرت له مختارات شعرية بالفرنسية تحت عنوان «حفيف» (Bruissement) عام 2018.

من قصائد «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة»:

في البدْءِ كانت المُصادفةُ

كأنْ تُمْسِكَ طفلةٌ لاهيةٌ بالجبلِ في يدِهَا اليُمنى، وبالغابةِ في يدِهَا اليُسرى، وتمدَّ ذِراعيْها عن آخرهِمَا ناظرةً إلى أُمِّها في اعتدادٍ. فتنْهَرُها الأمُّ:

لماذا تُباعدين بينهُما؟

وتستغربُ الطِّفلةُ: «هذه صَحْراءُ.. وهذه غابةْ»!

المُصادفةُ وحْدها جعلتْ عينَ الأمِّ تنظرُ إلى الجَبَلِ، فتراهُ وحيداً، لا يُحِدُّهُ شَمالٌ أو جَنوبٌ، تُشرقُ الشَّمسُ فيعرفُ شرْقَهُ مِنْ غَرْبِهِ، لكن لا أحد علَّمَهُ ماذا يفعلُ كي لا يكونَ وحيداً.

علىٰ بُعْدِ نَظَرِه الكلِيْلِ، كان يرى نُقطةً خضراءَ فوقَها سُحُبٌ وأَبْخِرَةٌ وضَبابٌ، حينَ تُمْطرُ يعلوها قوسُ قُزَحٍ لامعٌ، لا تدْخلُ ألوانُهُ في عيْنيْهِ، إلَّا ويَرى دموعَهُ تَسيلُ على صُخُورِه، حتَّى أنَّها سمعتْهُ يتمتمُ مَرَّةً في نومِهِ:

«لو أنَّ جَبلاً.. ائْتَنَسَ بغابةْ»!

في البَدْءِ كانت المُصادفةُ

التي جعلتْ الطِّفلةَ تنظرُ بعيْنَيْها إلى الغابَةِ، فتجدُها مُكْتفيةً بذاتِها، مُدَوَّرةً ومَلْفُوفَةً وعندها ما يكفي مِن المَشاكِلِ والصِّراعاتِ الدَّاخليةِ، تنْهَبُها الحوافرُ والفُكُوكُ

قانونُها القوَّةُ وخَتْمُها الدَّمُ:

«فكيفَ يا ماما تَقْوى الغابةُ على حَمْلِ ظِلِّ جَبَلٍ مثل هذا؟».

لم تُجِبْ الأمُّ

وحدَها الغابةُ كانت تُفكِّرُ:

«نعم؛ ماذا لو أنَّ غابةً..

التهمتْ جَبَلاً؟».