موسِمُ «أصيلة»... العنقود الخامس قد بدأ!

الثقافة ليست ترفاً أبداً ولا يمكن لها أن تكون كذلك

جانب من جداريات «أصيلة»
جانب من جداريات «أصيلة»
TT

موسِمُ «أصيلة»... العنقود الخامس قد بدأ!

جانب من جداريات «أصيلة»
جانب من جداريات «أصيلة»

لا أحد اليوم في عالم الثقافة الفسيح، لا يعرف منتدى أصيلة الثقافي... هذا الذي بلغ في هذه السنة ربيعه الواحد والأربعين. إنها رحلة طويلة من العطاء الجزل والإيمان الراسخ جسّدت على أرض الواقع مُنجزاً ثقافياً قلّ أن تعرف له البلاد العربية نظيراً من النجاح... والعجيب في ذلك كله هو أنه انبعث كطائر وحي من رحم مدينة صغيرة هامسة في شمال المغرب تُسمّى أصيلة، وهي كذلك فعلاً... «أصيلة».
لقد شكّلت هذه المدينة بمشروعها المتّقد منذ أربعين سنة، جسراً من حدائق الضوء ونبعاً لم يجفّ من الإبداع الممطر والأدب الشفيف والثقافة الممتدة فوق أفق من التاريخ يجمع بين محيط الأطلس وخليج العرب، منفتحاً في الوقت ذاته على آفاق العالم ومساحات وعيهِ الشاسعة... ولم يكن هذا التجسيد البليغ للاحتفاء بالثقافة من محض الصدف التي تؤلّفها الأقدار عادة دون أن يكون للبشر نصيبهم من هوامش الفكرة، بل أثبتَت التفاصيل مرّة أخرى - وهي كثيرة - أن كل انتصار للثقافة، لا سيما في هذا الزمن العربي الصعب وراءَهُ بالضرورة قلبٌ آمن بالثقافة وانتصر لها فاعلاً وراعياً، أو مثقفاً بالأحرى.
لقد أسهم نجاح منتدى أصيلة ببعده العربي والعالمي في دعم ذلك الفعل الثقافي الذي ظلّ يبحث عن نفسه في المغرب منذ سنوات، وشكلت هذه التجربة عاملاً مساعداً على ترسيخ مفهوم جديد للتنمية اعتمد في الأساس على المجهود الثقافي كلبنة أولى لخلق التنمية الشاملة، والتي يكون محورها الرئيسي هو العنصر البشري الفاعل، وهو أيضاً أول المعنيين بقطف ثمارها الحضارية اليانعة.
إنّنا لا نتحدث عن أفق نظري تغلّفه المشاعر الحالمة والعواطف التي تُغلّب دوماً مصلحة الفكرة وتغضّ الطرف عن سياق تنفيذها، فالواقع هو الذي يرافع اليوم بمعطياته الكثيرة عن هذا الطّرح، وهو الذي يُعوَّل عليه في إعطاء صورة شاملة عن هذا المشروع الذي نجح في نفي تُهمة الترّف عن العنصر الثقافي باعتباره مكوناً تكميلياً لا طائل منه، بل منح له شهادة النجاعة العليا في ورش البناء والتحديث والإقلاع، وكلها بالطبع أبعاد يسعى المغرب كغيره من بلدان العالم إلى بلوغ اليسير أو الوفير منها في طريقه نحو التغيير، من هذا المنطلق شكلت «أصيلة» مثالاً حياً لمعنى الانتصار للثقافة والانتصار بها في نفس الوقت.
وإذا كانَ استعراضُ المنجز الثقافي في «أصيلة» ينطلق من معطيات الرّاهن الكثيرة وأرقامها التي تدعو إلى الفخر، فإن الانطلاقة نفسها يُفترَض أن تبدأ بنا من الواقع الأول، أعني به ما كانت عليه «أصيلة» قبل بداية هذا المشروع، وما كان متاحاً حينها من الخيارات أمام الفاعلين من أبناء حُلمِها البِكر... حلمَ التغيير أعني. من هذا الباب، فإن تاريخ المنطقة يحكي عن مدينة صغيرة في شمال الأطلسي لا إمكانيات فيها كي تصنع بها مستقبلها التنموي ولا أملَ يلوح في الأفق لخلق دينامية تغيير تقفز بالمنطقة من واقع معاش إلى آخر تنتظره ساكنة الشمال، لا سيما في تلك الفترة الخاصة من التاريخ المغربي الحديث. لقد انطلق الرعيل الأول لهاته المدينة إذن من هامشٍ صغير أسمَوهُ الفكرة، جعلواْ فيه الثقافة شمعة تضيء عتمة الدرب وكهف الأمنيات، ومنذ أول خطوة... منذ أول همسة في أذن المستقبل كان جليّاً بأن هذا الرعيل الصادق نجح بالفعل في الإمساك بخيط الإبرة الذي يصنع المعجزات الجميلة، تلك التي قد لا تدوم دائماً... لقد كان محض خيط رقيق بألوان زاهية من لوحة الشمس وحبر اليقين، خيطٌ انطلقت منه «أصيلة» بمشروعها الثقافي الواعد نحو ساحات العالم.
إن انطلاقة الموسم الثقافي لـ«أصيلة» قبل أكثر من أربعين سنة (عام 1978)، كانت في حد ذاتها قفزة سابقة لأوانها بقياس المنطق والمعقول، فقد جعلت بجرأة لا حدود لروعتها ذلك المكون الثقافي المهمش شيئاً مركزياً يمكن الاعتماد عليه من أجل خلق جملة من الامتيازات الجميلة والمختلفة في سياق صعب ووسط مجال جغرافي بسيط ومحدود. من هنا كان الإيمان بالثقافة وسط شحوب المعطيات أمراً ضرورياً كي يتسنى لمشروع «أصيلة» الثقافي أن يكون حقاً ورشاً كبيراً تنتقل به المدينة من واقع محلي معزول إلى أفق دولي بعيدِ الأفق وعميق الرؤية.
وهكذا بعد عقود وسنوات، وبفضل ذلك الرعيل الأول وبفضل من آمن بهذا الحلم من صفوة الخيّرين... أصبح للمغرب لا لـ«أصيلة» فقط نافذة حوار فكري يطل منها على سماء العالم الفسيح بكثير من الحرية والتحضر وبكثير من الحلم والأمل... إنه مشروع حمل اسم المغرب إلى ساحة الأمم كإحدى الوجهات المميزة للحوار والنقاش الحضاري والتبادل الثقافي والفكري الواسع بين النخب العربية، خصوصاً وبين عقول الدول المختلفة حول قضايا العالم والمنطقة... لذلك ربما كان الملك الراحل الحسن الثاني يرى فيه مشروعاً سيجعل من أصيلة «هايد بارك» جديدة بخصوصية مغربية متفردة.
لسنا اليوم بصدد التعريف بموسم أصيلة أو تقديم شكل جديد من أشكال الترويج والدعاية لمحتواه السابق واللاحق، بل ما يهمنا هو أن نقف على باب الأفكار المميزة محتفيين بها ومتسائلين في نفس الوقت - وبكل تجرّد - عن واقع الحال حاضراً ومستقبلاً في ظل هذا الانكماش الثقافي الحاد الذي بات يحدق بالمغرب وبالمنطقة من حوله، وفي ظل تصاعد الألوان الداكنة... تلك التي ترى الأشياء من زاوية واحدة وبمنظور نمطي.
أين مشروع أصيلة إذن مما يجري اليوم في المنطقة العربية؟ لماذا يظل صوت المدنية والتحضر خافتاً إلى هذا الحد رغم كل الجهود؟ ولماذا يا ترى لم تولد مواسم أخرى مشابهة لهذا الأفق الحر في المغرب، خصوصاً وفي محيطه العام؟ لقد حدّثنا التاريخ في صفحاته المعاصرة على الأقل عن أن المغرب ظل على اختلاف الظروف والمتغيرات سقفاً عالياً للاعتدال والتسامح بعيداً عن الانفعالية وبعيداً عن التشرذم... فلماذا يا ترى انحصرت مياه المظاهرات ذات الزخم الثقافي رغم تزايد الأنشطة المدرجة ضمن خانة الترفيه والإشعاع رسمياً ومدنياً... لماذا بقيت «أصيلة» دون أخواتها في الحلم...؟ لماذا لم تولد أخوات «أصيلة» إذن ولماذا غاب الحلم؟
في الواقع، يصعب علينا أن نسمي الكثير من الأشياء بأسمائها المباشرة، خشية خدش زجاج المجاز بما لا يستقيم قوله في هذا المقام، لكن تغليب البهرجة وألوان النشاز على حساب الثقافة الهادفة والحوار المتزن هو تكريسٌ فعلي للجمود والتراجع ووأدٌ خفي لحلم الإقلاع ولدينامية الفعل المتحضر في ظل معطيات أكدت وتؤكد باستمرار أنه لا تنمية من دون معرفة ولا مشروع معرفي بمعزل عن الثقافة وحوار الأفكار، لهذا كان الاقتصادي العالمي أمارتيا سن يقول دائماً: «إن التنمية حُرّية قبل أن تكون أي شيء آخر».
إن الثقافة ليست ترفاً أبداً ولا يمكن لها أن تكون كذلك، ففي مراحل الثورة الصناعية الأولى في العالم كانت شواهد الأدب تخبرنا عن تلك النظرة الدونية التي كان يُنظر بها لأهل الفنون وللكتاب خصوصاً... كان ذلك في سياق عالم ميكانيكي انبهر بالآلة ممعناً في عبادة إنتاجها المادي حتى توهّم لبرهة من الزمن بأنه قد أحكم قبضته من خلالها على كل مفاتيح الحضارة، لكن مراحل أخرى متواترة من صفحات الزمن قد فنّدت هذا الطرح القاصر وفنّدت معه الثقافة والأدب وسائر فنون الإنسان أركانَ تلك النظرية الإطلاقية الداكنة، منتصرة لنسبية الإنسان التي تؤمن بأنّ حدود الحضارة هي نفسها حدود العقل البشري... من هنا كانت الآلة نتاجاً من أشياء كثيرة جاد بها العقل البشري ليظل المحرّك الأساسي لهذا العقل الخّلاق المبتكِر هو الإبداع... وإلى اليوم، ما يزال هذا الإبداع في تعبيره الحر هو جوهر الفعل التنموي والإنتاجي وما تزال الثقافة هي المرآة التي يرى فيها العقل رؤاه وأفكاره وتنظر من خلالها الأمم الحيّة إلى ملامح حضارتها وإقلاعها... استحضر هذه الأشياء كلها وأنا أستغرب من سطوة هذا الجزر الثقافي والفكري الذي تشهده بلداننا العربية ويشهده المغرب بالذات، وأقف مندهشاً أمام عبقرية من فكّر بموسم «أصيلة» كطوق نجاة للمدينة في تلك الفترة المبكّرة، إنها نبوءة لا حدود لشجاعتها.
من يزور «أصيلة»، قد لا يفهم كيف تحمل هذه المدينة بيدها الصغيرة مشعل الثقافة والفكر بتراكماته الكونية، وكيف أنها نجحت في ذلك وأورثت عمقها الجغرافي إشعاعَ الفن ونور الفكرة... بين أزقّتها النظيفة تبتسم أجيال من القراء والكتاب والفنانين، وفي ساحاتها التي حملت أسماء مبدعي أفريقيا والعالم العربي وفي حدائقها التي لم تهجرها طيور الأدب... يرقص الإبداع رقصة فالس أنيقة على إيقاعٍ من نور، فعند أول زهرة تصادفها في حديقة الطيب صالح التي صلى فيها الروائي السوداني الفذ صلاة عيد الأضحى عام 1981 مبتهلاً للجمال، ستقرأ لا محالة سطوراً من تلك المواسم التي رسمت فصول هجرته للشمال، وعند ذلك النُّصب المهيب في حديقة محمود درويش ستشم برفق رائحة الطفولة التي ظل الشاعر العظيم يكرسها في روح قصائده الخالدة خلُودَ الشعر وخلودَ فلسطين وخلود ذكراه في «أصيلة» منذ زيارته الأولى لها عام 1979. ويمرُّ بنا طيف الذكريات سريعاً ليأخذنا صوب نُصب الشاعر الكونغولي تشيكايا أوتامسي الذي خلّد في روحه وشعره حبّاً منقطع النظير لهذه المدينة الحُلُم «هي مدينة... الفنُّ سيدُ مصيرها، وسيّدُ شارعها»... قال تشيكايا أوتامسي ثم أدركه الرحيل فرثاه يومها شاعر العراق بلند الحيدري بقصيدة عارمة الروح لم تغب عنها «أصيلة»... وفي «أصيلة» نصبٌ خلّد ذكرى الشاعر العراقي الكبير بلند في قلب حديقة من الورد... وسط هذه الحدائق التي تعانق بعضها بعضاً كان لأبناء الدار نصيبهم من باقاتِ العرفان... حديقتان من نور واحدة لعرّاب الفكر محمد عابد الجابري والأخرى لشاعر من شعراء المدينة هو أحمد عبد السلام البقالي... فما أجمل «أصيلة» وهي تغدو حدائق من ربيع الرؤى التي لا تعِدُ سوى بالفجر ولا تلد سوى الشمس... وها هو عنقودها الذهبي الخامس قد بدأ، ستظل «أصيلة» إذن تعلّمنا حكمة الشمس في كل صيفٍ من عيدها السنوي البهيج، كي نؤمن مثلها بالنور والرؤى والشمس وكي لا نكفر بالثقافة مهما كانت الظروف.
-كاتب وشاعر مغربي



أوانٍ فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين

قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
TT

أوانٍ فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين

قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية

تحوي مملكة البحرين سلسلة من المقابر الأثرية، تُعرف باسم «تلال مدافن دلمون»، سُجلت ضمن قائمة التراث العالمي التابعة لـ«منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» (اليونيسكو) في صيف 2019. تضم هذه السلسلة في الواقع مجموعات عدة من المدافن، منها مجموعة تقع في أقصى جنوب مدينة حمد، وتجاور قرية دار كليب التي تبعد عن المنامة نحو 25 كيلومتراً. بدأ استكشاف «مدافن دار كليب» في عام 1965، حيث عمد باحثان يعملان لحساب «شركة نفط البحرين» (بابكو) إلى إجراء أول أعمال المسح فيه. وصل هذا الخبر إلى البعثة الدنماركية التي كانت تعمل في هذه الناحية من الخليج خلال تلك الفترة، فباشرت دراسة الموقع بشكل معمّق. توالت مواسم التنقيب خلال العقود التالية، وأدت إلى الكشف عن مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من الأواني الفخارية تعود إلى حقب متلاحقة من الزمن.

تحمل «تلال مدافن دلمون» اسم إقليم برز شرق الجزيرة العربية خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، كما تشهد المصادر السومرية، وكانت جزيرة البحرين حاضرة من حواضر هذا الإقليم الوسيط الذي شكل حلقة وصل بين بلدان الشرق القديم، الأوسط والأدنى. خرج من هذه المدافن عدد كبير من القطع الفخارية تعكس هذه التعددية، منها مجموعة من القطع مصدرها حقل «مدافن دار كليب» الذي يمثّل كما يبدو الطور الأخير من تلك الحقبة الغنية. تبرز في هذا الميدان بضع أوانٍ تتميز بحلل زخرفية تبدو غير مألوفة في محيطها، منها آنية على شكل زهريّة من الحجم الصغير، كشفت عنها بعثة محليّة في منتصف تسعينات القرن الماضي، وهي اليوم من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة. يبلغ طول هذه الزهرية المخروطية 12 سنتيمتراً، وعرضها 9 سنتيمترات، وهي من نتاج القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل الميلاد، كما يؤكّد أهل الاختصاص، وتكوينها بسيط، ويغلب عليه اللون العسلي المائل إلى الأخضر الزيتي.

تُزين القسم الأعلى من هذه الزهرية شبكة من الخطوط الأفقية الدائرية، تحوي في وسطها خطاً متعرّجاً. خُطت هذه الشبكة باللون الأسود، وتقابلها شبكة مشابهة مختزلة تزيّن القسم الأسفل منها. بين هاتين الشبكتين، تحضر شبكة عريضة تحتلّ القسم الأوسط، وقوامها زخرفة نباتية متناسقة تعتمد طرازاً مكرّساً، يُعرف في قاموس الفنون باسم «بيبال»، أي شجرة التين الهندسية المقدسة. خطّت هذه الزخرفة النباتية كذلك باللون الأسود، وتتشكّل من أربعة أغصان أفقية تحمل أطرافها سلسلة من الأوراق اللوزية المرصوصة بشكل تعادلي في بناء محكم، وفقاً لنسق فني اعتُمد بشكل واسع في المناطق الشمالية الغربية من جنوب آسيا، وبات من خصائص حضارة وادي السند التي توهّجت على مدى قرون من الزمن، وبلغت نواحي عديدة من الشرق الأدنى وجنوب آسيا.

تبدو زهرية دار كليب على الأرجح من نتاج وادي السند، وتشهد للروابط الثقافية المتواصلة التي جمعت بين هذا الوادي وإقليم دلمون. لا نجد ما يماثل هذه الآنية في هذا الميراث، غير أننا نقع على قطعة تشابهها بشكل كبير، مصدرها المناطق الشرقية من المملكة العربية السعودية، وهي قطعة شبه مجهولة، قدّمت عالمة الآثار غرايس بوركهولدر تعريفاً بها ضمن كتاب لها صدر عام 1984، تناول مجموعة من اللقى الأثرية تمّ اكتشافها في هذه المناطق الشرقية.

خرجت من مدافن دار كليب كذلك مجموعة من القطع الفخارية تعود إلى الحقبة التي أطلق فيها المستكشفون الإغريقيون على جزيرة البحرين اسم تايلوس، وهي الحقبة التي تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى فترة دخول الإسلام. تُشكّل هذه القطع مجموعة من مجموعات مشابهة خرجت من المدافن المجاورة، وتحوي قطعاً تتفرّد في بعض الأحيان في تكوينها، منها قطعة من الفخار المزجّج، عُثر عليها خلال حملة محليّة تمّت بين عام 1993 وعام 1994، وهي من محفوظات المتحف الوطني بالمنامة.

صُنعت هذه الآنية بين القرن الأول والقرن الثاني للميلاد على الأرجح، وفقاً لتقنية نشأت قديماً في جنوب بلاد ما بين النهرين، وهي على شكل جرة لها عنق طويل، طولها 32.5 سنتيمتراً، وعرضها 22 سنتيمتراً. تشابه هذه الجرة في تكوينها العام جرة معاصرة لها خرجت من الموقع نفسه، وتتميّز بعروة على شكل مجسّم حيواني، تحل مكان العروة التقليدية المجرّدة من أي شكل تصويري. يصعب تحديد نوعية هذه البهيمة، والأرجح أنها تمثل كبشاً ذا قرنين مستديرين، وتشكّل امتداداً لتقليد قديم، تبدو شواهده محدودة في هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر هذا الكبش في قالب جامد تغيب عنه أي حركة ظاهرة، وتبدو قوائمه الأربع ثابتة في وضعية واحدة ثابتة، يغلب عليها طابع التحوير والتجريد. يتبع تكوين رأس هذه البهيمة هذا النسق، ويتميّز بقرنين عريضين صيغا على شكل هلالين متوازيين.


آخر ما قاله سعد الله ونوس عن «الخفقة السوداء في الرأس»

سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
TT

آخر ما قاله سعد الله ونوس عن «الخفقة السوداء في الرأس»

سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم

مصعد المستشفى لا يكفّ عن الرنين، بينما المرضى وزوارهم يخرجون ويدخلون إليه. الممرات أشبه بنفق معتم. أطباء يعاينون صورة شعاعية، قبل أن تظهر لنا الكاميرا سعد الله ونوس على سرير المرض شاحباً، متعباً، هزيلاً، وقد فقد شعره، يتناول الدواء من يد شخص إلى جانبه، وتثبّت الممرضة إبرة المصل في ذراعه.

هكذا يبدأ «الوثائقي» المعنون: «هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء»، الذي صوره المخرج عمر أميرالاي، مع صديقه الكاتب المسرحي سعد الله ونوس، قبل فترة قصيرة من وفاته يوم 15 مايو (أيار) 1997، وعرض يوم 28/11، في سينما متروبوليس ببيروت.الكلمة الأخيرةالفيلم بمثابة وصية، أو لنقل الكلمة الأخيرة التي تركها لنا هذا الكاتب الكبير بنصوصه كما بانخراطه الكامل في القضايا التي أحاطت به. منذ البدء يصارح أميرالاي سعد الله ونوس، الواقف «على حافة تخوم رجراجة بين الحياة والموت»، أنه جاءه ليستنطقه كشاهد على مرحلة «لتكون لسان حال جيلنا في هذا الصراع».

الفيلم سجل بعد اتفاق أوسلو، ونوس متوجس مما سيأتي، مزاجه جنائزي، ليس فقط بسبب المرض، بل بسبب الحالة العامة أيضاً. ثمة شرطان للسلام لم يتحققا بالنسبة لسعد الله ونوس. أن يحصل تغيير جوهري وجذري في البنى الاجتماعية والسياسية في إسرائيل. وأن يحصل الشيء نفسه في البلاد العربية من جهة أخرى. عندها التاريخ قد يجبرنا وتحت وطأة اليأس على التغيير والتجدد. نكبة 1948 «أقولها حرفياً إن إسرائيل سرقت السنوات الجميلة من عمري، وأفسدت على إنسان عاش خمسين عاماً، مثلاً، الكثير من الفرح، والكثير من الإمكانات»، يقول ونوس في مطلع الفيلم الذي عرض في سينما «متروبوليس» في بيروت قبل أيام، إلى جانب فيلم آخر «إلِيبسِس» للمخرجة ساندرا إيشيه تتحاور فيه مع عمر أميرالاي ضمن فعالية «حواران على أهبة الموت» لـ«سينماتك بيروت».

مات «رائد المسرح السياسي»، سعد الله ونوس بعد صراع طويل مع سرطان في البلعوم كان يفترض ألا يمهله أكثر من ستة أشهر بحسب الأطباء، لكنه بقوة الكتابة تمكن من المقاومة خمس سنوات. ومن حسن حظنا أنها كانت من أغزر فترات حياته إبداعاً، كتب خلالها أروع مسرحياته، وشارك في هذا «الوثائقي» البديع الذي تحدث خلاله عن العلاقة العضوية التي ربطته بالقضية الفلسطينية، وأحداث المنطقة كيف عاشها بروحه وضميره ووجدانه، حتى لتشعر وهو يتحدث أن المآسي التي مرّت نهشت جسده، حتى أودت به، وهذا ما يعتقده هو نفسه.

عمر أميرالاي

أميرالاي الساخر حد البكاء بقدر ما يبدو سعد الله ونوس حزيناً ومكفهراً، نرى صديقه عمر أميرالاي حين تحاوره المخرجة الفرنسية، في الفيلم الثاني، ساخراً هزلياً بمرارة، حتى تختلط الدموع بالقهقهات. ويجيب على الأسئلة باعتباره يعيش في عام 2030 خاصة وأن كل التوقعات في الخمسين سنة الماضية، حصلت، ولم يعد من مكان للخيال. لقد أصبح كل شيء واقعاً، وما سيحدث غداً نعرفه اليوم. فهو كسوري - كما يقول - يعيش خارج الزمان والمكان. والسوريون واللبنانيون يتقاسمون الشيء نفسه. فهما توأمان سياميان لا يوجد جرّاح يمكنه أن يفصل مصير أحدهما عن الآخر، المقرون بـ«اليأس».

«أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء» (1997) يكتسب أهميته من حيث أنه اختصار لوجع جيل كامل في ساعة سينمائية مكثفة. تبدأ من نكبة 48 حيث فتح ونوس عينيه على قصة شابين من قريته «حسين البحر» تطوعاً في جيش الإنقاذ، ليحررا فلسطين من الذين جاءوا ليحتلوها. كان ترقّب مغمّس بالرهبة والخوف على مصيرهما. لكن الشعور تطور بمرور السنوات: «كنا نكبر وتكبر القضية معنا».

يسير الفيلم على وقع نقاط المصل وصوتها وهي تتدحرج ببطء إلى عروق ونوس. «كنا بلاداً فقيرة» لكن مع كل الهموم اليومية الكثيرة «كنا نحمل هموم القضية وتحولاتها على كواهلنا النحيلة، المتعبة».هزيمة 1967 لحظة حاسمة بعد أن استقر في الأذهان عبر سنوات الكذب والتدجيل أن نكبة 1948 كانت نتيجة الخيانة والأسلحة الفاسدة، وأنها لم تكن أبداً بسبب ضعف القدرة القتالية عند الجندي العربي. «زرعوا في أذهاننا أن مسألة هزيمة إسرائيل هي مسألة ممكنة، في أي لحظة».لذلك جاءت هزيمة 67 مدويّة. «لم أتصور أن القوات العربية في مصر بالذات، وكذلك في سوريا هي من الضعف والتفكك إلى الحد الذي بدت فيه خلال الأيام الستة». وعدت الأنظمة العربية بأنها ستحمي الوطن وأنها المؤهلة للقتال، ولم تفعل شيئاً إلا مراكمة الهزائم.

البكاء مع بلوغ النهاية مشاهد استسلام الجنود كانت مؤلمة. «الصدمة حادة وعنيفة، إذ أحس الجميع أنهم مطعونون بكبريائهم، أنهم مهانون حتى العظم». مشاهد تتخلل المقابلة، منها الأطفال المشردون في الخيام، يأكلون الخبز اليابس مع الشاي، عبد الناصر يعترف بمسؤوليته بعد الهزيمة ويتنحى، جنود إسرائيليون يقصفون بالطائرات، جنود عرب يستسلمون. تتالى المشاهد التي تدعو كلها لمزيد من الانكسار.يكاشفنا ونوس وكأنما يستعيد اللحظة حية. عندما تأكدت الهزيمة «شعرت أنني سأموت في تلك اللحظة، شعرت أنني أختنق.» بكى وبكى، وشعر أنها النهاية. وأن عمراً قد انتهى، وأن التاريخ قد توقف، وأن وجوده قد انطوى.

أهمية حرب 73 أنها كشفت بعد هزيمة ساحقة، أن إسرائيل ليست حصناً منيعاً لا يمكن مسّه، وليست تلك الدولة غير القابلة لأن تجرح وتخسر معارك. «لذلك صفقنا كثيراً. عندما قامت حرب 1973. مجرد شعورنا بأن جنودنا يستطيعون أن يقاتلوا، أعاد لنا شيئاً من الثقة المضعضعة والمعدومة بالذات».

لكن هذه الحرب، من ناحية أخرى، في رأي ونوس، أجهضت الفوران المبشّر بعد 67، وربما أنها كانت في ذهن بعض من شاركوا فيها مقدمة لما أتى بعدها.لم يبقَ سوى الانتحارحين زار أنور السادات إسرائيل أصاب ونوس الذهول. جلس وكتب «أنا الجنازة والمشيعون معاً». كان ذلك آخر نص، ومن بعده التزم سعد الله ونوس الصمت. كان متوتراً ولا يستطيع السيطرة على نفسه بعد أن أنهى كتابة ذلك النص. «تناولت حبة النوم، وحاولت أن أخرج من حالتي. بعد ساعتين أو أقل استيقظت أشد توتراً وضيقاً وكانت الظلمة شاملة أمامي. في تلك الليلة أقدمت على محاولة الانتحار الجدية».

في فترة الصمت الطويلة المغمسة بالاكتئاب، أمضى معظم وقته في القراءة والتأمّل، وفي مواجهة أسئلة التاريخ الموجعة، إلى أن أنعشت مشاعره انتفاضة 1989 وحفزته على كسر الصمت. في تلك السنة بدأ يخطط لكتابة مسرحيته «الاغتصاب». لم يكن غريباً أن يكسر صمته بمسرحية تتناول الصراع العربي الإسرائيلي، وتحاول تحليل بنية النخبة الحاكمة في إسرائيل.

عندما راودته فكرة المصالحةنهاية المسرحية، أثارت الجدل، لأنها تضمنت حواراً بينه وبين طبيب نفسي إسرائيلي، يردد طوال المسرحية مقتطفات من سفر إرمية مستنزلاً اللعنات على السياسة العدوانية للنخبة الحاكمة في إسرائيل، والتي لا تؤدي فقط إلى الإجهاز على الفلسطيني، وإنما على تدمير الإنسان اليهودي أيضاً.

يعترف أنه في تلك اللحظة، كان يفتح باباً على الصلح، وأن إسرائيل في مسرحيته لم تعد حُرُم. «مجرد أن أقدم في المسرحية شخصية يهودية إيجابية تحتج على ما يحدث، وعلى ممارسات (الشين بيت) إزاء الفلسطينيين وعمليات التعذيب التي يقومون بها، مجرد أن أقدم شخصية من هذا النوع إنما يحمل في طياته تعاطفاً مع الإسرائيليين».

المشكلة في البلاد العربية أيضاً، بهذه البنى المتخلفة التي لم تحدّث و«تجعل من شعوبها كماً بشرياً مهملاً» حيث لا يجد المواطن أمامه سوى أن «يطأطئ رأسه».

العلاقة بين القصف والسرطانيعتقد سعد الله ونوس أن ثمة علاقة مباشرة بين حرب الخليج التي أجهزت على بقية الآمال الموجودة لدى العرب، وبدء شعوره بالإصابة بالورم أثناء الحرب، وخلال القصف الجوي الوحشي الذي كانت تقوم به الولايات المتحدة الأميركية ضد العراق. ثم جاءت مفاوضات مدريد بعد هزيمة العراق التي يصفها بـ«الاستسلام» لأنها «لا يمكن أن تكون بداية لسلام حقيقي». الاتفاقات التي تمخضت عنها «ما هي إلا فصل من فصول هذه الحرب الدائرة التي يمكن أن تطول بيننا وبين إسرائيل».

إسرائيل غدت حقيقة تاريخية، غير أنه بقراءة متأنية يستنتج أنها لا تملك مقومات الاستمرار، هي مشروع خاسر. «لا حياة لها إلا إذا اندمجت كجزء في الكل، لا كمخفر مهمته أن يدمّر المنطقة، ويجعلها ممرغة باستمرار في الهزيمة والتخلف والتفتت».يسأله أميرالاي: «هل سنموت، وفينا العلة التي اسمها إسرائيل؟»يجيب: «على الأقل بالنسبة لي شخصياً، من المؤكد أن هذا سيحدث».

أميرالاي رحل هو الآخر عام 2011. ولم يشكّ ونوس بأن جيله كله سيمضي و«في رأسه تلوح هذه الخفقة السوداء الشبيهة بعلامة، هي علامة الخيبة التي تذوق مرارتها على مدّ عمره. لأن إسرائيل ستكون باقية حين يذهب جيلنا إلى نهاية حياته».


علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
TT

علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)

أعلن علماء الآثار البحرية، الاثنين، اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية.

ووفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية، عثر غواصون على هيكل السفينة الذي يزيد طوله على 35 متراً وعرضه نحو 7 أمتار، تحت المياه في ميناء جزيرة أنتيرودوس، حسبما أعلن المعهد الأوروبي للآثار البحرية في بيان.

ووجدت على السفينة كتابات يونانية «قد تعود إلى النصف الأول من القرن الأول للميلاد» و«تدعم فرضية أن السفينة بُنيت في الإسكندرية».

وأضاف المعهد ومقره في الإسكندرية أن السفينة «كانت على ما يبدو تضم مقصورة مزينة بشكل فاخر، وكانت تُشغّل بالمجاذيف فقط».

أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية عام 331 قبل الميلاد. وضربت سلسلة من الزلازل وأمواج المد ساحلها ما أدى إلى غرق جزيرة أنتيرودوس التي اكتُشفت عام 1996.

على مر السنين، عثر الغواصون على تماثيل وعملات معدنية وكنوزاً أخرى في الجزيرة الغارقة، بعضها معروض في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية.

ونشر مدير المعهد الأوروبي للآثار البحرية فرانك غوديو، مؤخراً، تقريراً عن أنتيرودوس ومعبد إيزيس فيها، استناداً إلى عمليات استكشاف تحت الماء أُجريت منذ تسعينات القرن الماضي.

وأكد المعهد أن الأبحاث المستقبلية حول الحطام المكتشف حديثاً «تبشر برحلة شيقة في حياة مصر الرومانية القديمة وديانتها وثرواتها ومجاريها المائية».

والإسكندرية موطن لآثار قديمة وكنوز تاريخية، لكن ثاني أكبر مدينة في مصر عرضة بشكل خاص لتداعيات تغير المناخ وارتفاع منسوب مياه البحر، إذ تغمرها المياه بأكثر من 3 مليمترات كل عام.

وتقول الأمم المتحدة إنه في أفضل السيناريوهات سيكون ثلث الإسكندرية مغموراً بالمياه أو غير صالح للسكن بحلول 2050.