البرازيل: «رئة العالم»... في خطر

مصالح سياسية واقتصادية تواجه آراء بيئية في كارثة حرائق الأمازون

البرازيل: «رئة العالم»... في خطر
TT

البرازيل: «رئة العالم»... في خطر

البرازيل: «رئة العالم»... في خطر

اعتاد سكان مدينة سان باولو، كبرى مدن البرازيل، الذين يقارب عددهم العشرين مليوناً، على التعايش مع الظروف المناخية السيئة، إلا أن المشهد الذي خيّم على المدينة ظهر يوم الاثنين الماضي لم يكن مألوفاً: سماء ملبّدة بغيوم سوداء تحجب الرؤيا... وليل يهبط ثقيلاً في الثالثة بعد الظهر. ثم تهطل أمطار متقطعة بين سحب من الدخان الكثيف الذي تحذّر السلطات من تأثيره على المرضى والأطفال والمسنّين.
إنه الدخان الآتي من غابات الآمازون... من الحرائق التي تلتهم غابات تمتدّ على خمس ولايات. ويقول الخبراء إنها جاءت نتيجة التعرية الحُرجية المُتسارعة منذ وصول الرئيس اليميني المتطرف جاير بولسونارو إلى الحكم، وتخفيفه إجراءات الحماية البيئية، ثم إطلاقه تراخيص أعمال التنقيب عن المعادن واستخراج النفط من المناطق التي تعيش فيها مجموعات السكان الأصليين.
وعلى بعد 3 آلاف كيلومتر في اتجاه الشمال من ساو باولو، تندلع حرائق كبيرة في المحميات الطبيعية التي يُفترَض أنها تخضع لمراقبة شديدة من أجهزة المكافحة، وتجتاز مئات الكيلومترات حتى تصل إلى مدينة بورتو فيّو (الميناء القديم)، حيث الضباب الكثيف يعيق التنفّس وتكتظّ مراكز العناية الصحية والمستشفيات بالمرضى.
البرازيليون يعرفون أن الحرائق تكثر عادة في فترات الجفاف، وأنها ليست كلها مفتعلة. لكن المعلومات الواردة منذ أيام تتحدّث عن عشرات آلاف الحرائق، وتفيد بأن الحكومة والسلطات الفيدرالية قد فقدت السيطرة عليها، وأن البلاد تعيش اليوم أخطر موجات الحرائق منذ أكثر من 15 سنة.

يفيد المعهد البرازيلي للبحوث الفضائية بأن عدد الحرائق التي اندلعت في البرازيل منذ بداية العام الحالي قد زاد على 76 ألفاً، أي بزيادة قدرها 85 في المائة عن الفترة نفسها من العام الماضي، وأن 80 في المائة من الأراضي التي التهمتها النيران توجد في منطقة حوض نهر الأمازون، أغزر أنهار العالم.
ويقول خبراء المعهد المذكور، إن التعرية الحُرجية قد ازدادت بنسبة 34 في المائة في مايو (أيار) الماضي وبـ88 في المائة في يونيو (حزيران) ثم بـ212 في المائة في يوليو (تموز) مقارنة بالأشهر نفسها من العام الماضي. لكن الرئيس جاير بولسونارو شكّك في جدّية المعهد ونتائج أبحاثه، بل سارع إلى إقالة مديره عندما رفض انتقادات الرئيس، وأكد على خطورة الوضع الناجم عن التدابير الأخيرة التي اتخذتها الحكومة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الحكومة اليمينية الحالية خفضّت أيضاً ميزانية أجهزة مكافحة الحرائق بنسبة 38 في المائة، كما خفضت إلى النصف مخصّصات المؤسسات التي تُعنى بتداعيات تغيـّر المناخ.

سياسات بولسونارو

لقد اعتمد بولسونارو في حملته الانتخابية على دعم الشركات الزراعية الكبرى الواسعة النفوذ، ووعد بتخفيف القيود التي كانت مفروضة على التراخيص لاستغلال المناطق المَحمية التي تطمع هذه الشركات في الاستفادة من مواردها وثرواتها. غير أن ما لم يكن في حسابات الرئيس البرازيلي هي هذه التعبئة الدولية السريعة في مواجهة الكوارث البيئية التي لم يعد الاهتمام بها محصوراً داخل الحدود الوطنية؛ لأن تداعياتها الأليمة والخطيرة ما عادت تقتصر على منطقة بعينها كما يتبدّى من مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما أدرج حرائق الأمازون بين البنود الرئيسية على جدول أعمال «قمة مجموعة الدول الصناعية السبع» (السبعة الكبار) التي انعقدت نهاية الأسبوع الماضي في منتجع بياريتز على ساحل فرنسا الأطلسي. وكان ماكرون قد غرّد على حسابه قائلاً: «بيتنا تلتهمه النيران»، بينما كانت الأسرة الدولية تتحرّك انطلاقاً من مبدأ أن غابات الأمازون ليست مُلك البرازيل وحدها، أو مُلك الدول التي تمتد في أراضيها من بوليفيا إلى الإكوادور ومن البيرو إلى كولومبيا، بل هي «رئة العالم» كله.
ويؤكد التقرير الأخير الذي صدر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، ومقرّه في العاصمة الكينية نيروبي، أن حماية غابات الأمازون باتت مسؤولية عالمية لما تختزنه من تنوّع حيوي وما تشكّله من مصدر أساسي للأوكسيجين، ناهيك عن دورها الحاسم في ضبط التقلّبات المناخية وانحباس ثاني أوكسيد الكربون، وتأثيرها على دورة التيّارات المائية في المحيطات. كذلك يفيد التقرير – في سياق أرقامه المقلقة – بأن حوض الأمازون قد خسر 20 في المائة من مساحته الحرجية منذ أواسط القرن الماضي.

المتحفّظون... ومخالفوهم

بعض الجهات العلمية تدعو من جهتها إلى توخّى الحذر وتحاشي الإفراط في المبالغة، منها «البرنامج الأوروبي لمراقبة الأرض» التابع للمفوضية الأوروبية. خبراء «البرنامج» يرون «أن الكثافة اليومية للحرائق في بعض مناطق الأمازون تجاوزت المعدّل العادي خلال الأسابيع الأولى من الشهر الحالي، غير أن انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون التي تولّدت عن الحرائق خلال هذا الشهر لم تتجاوز المعدلات العادية. وهي حتى إذا تجاوزت معدلات السنوات الست أو السبع الماضية، فإنها ما زالت دون معدلات بداية العقد الماضي».
وفي سياق موازٍ، تنحو «وكالة الطيران والفضاء الأميركية» (ناسا) جانب الحذر أيضاً في تقديراتها؛ فتقول: «الحرائق ليست أمراً غير مألوف في البرازيل خلال هذه الفترة من العام، عندما ترتفع درجات الحرارة وتخفّ نسبة الرطوبة. وحده الوقت يمكن أن يؤكد لنا ما إذا كانت حرائق هذه السنة قد سجّلت رقماً قياسياً أم أنها ما زالت ضمن المعدلات العادية». ويذكّر تقرير صدر مطلع هذا الأسبوع عن «ناسا» أن الحرائق في منطقة الأمازون «نادرة جداً خارج هذه الفترة من السنة، لكن عددها يزداد اعتباراً من يوليو إبّان فصل الجفاف عندما يلجأ كثيرون إلى استخدام النيران لتعرية الأراضي من أجل استخدامها للرعي أو لأغراض أخرى، وأن الحرائق تبلغ ذروتها في سبتمبر (أيلول) وتختفي اعتباراً من نوفمبر (تشرين الثاني)».
في المقابل، مانويلا ماتشادو، الاختصاصية في علم الأحياء، لها رأي آخر؛ فهي تجادل قائلة: «صحيح أن غابات الأمازون تتعرّض لحرائق بشكل شبه منتظم، إلا أن هذا لا يعني أبداً أن الأمر طبيعي اليوم. الحرائق ليست من السمات الطبيعية في ديناميكية الغابات المَدارية، كما هو الحال في مناطق أخرى. الأمازون تحترق إبّان فترات الجفاف... لكن ليس بسبب الجفاف. إنه يحترق لأن ثمة طلباً متزايداً على المراعي والأراضي الزراعية، والحكومة الحالية أهملت كليّاً برامج التنمية المُستدامة وشرعت في تنفيذ خطط تشجّع على التعرية الحُرجية». وتضيف ماتشادو - التي تعمل باحثة في جامعة شيفيلد البريطانية – شارحة: «ليس بإمكاننا أن نعرف في الوقت الحاضر نسبة تأثير هذه الحرائق قياساً بالسنوات السابقة، لكن لا يجوز أن نرى فيها ظاهرة عادية أو طبيعية على الإطلاق».

تقديرات وأرقام

وفي الحقيقة، تتفاوت تقديرات الجهات العلمية حول خطورة هذه الحرائق وفداحة تداعياتها على البيئة والتقلبات المناخية، لكن ثمّة إجماعاً حيال أهميتها الكبيرة بالنسبة للتنوّع البيولوجي المُهدّد في معظم مناطق العالم. فالغابة الأمازونية العملاقة تختزن وحدها 10 في المائة من الأجناس الحيوانية والنباتية المعروفة، وتحبس 100 ألف مليون طن من الكربون سنويّاً... أي عشرة أضعاف الانبعاثات الصادرة عن الوقود الأحفوري، كما تفيد دراسة حديثة وضعها خبراء في جامعة أوريغون الأميركية. الدراسة تذكر «أن المشكلة تكمن في كميات الكربون التي تفقدها الأشجار عند احتراقها؛ ما يؤدي إلى حدوث تقلبّات مناخية كبيرة وخسارة في التنوّع البيولوجي. وليس مستبعداً في حال تكرّرت هذه الحرائق الضخمة أن تتحوّل الغابات المدارية المطيرة إلى مساحات جَرداء شبه صحراوية في المستقبل غير البعيد».
من جهة ثانية، نشير إلى أن مجموعة من العلماء البرازيليين، بقيادة الاختصاصي في علم المناخ كارلوس بوبري من «أكاديمية العلوم الوطنية» في الولايات المتحدة، كانت قد حذّرت في عام 2016 من أن حرارة منطقة الأمازون قد ارتفعت درجة مئوية في العقود الخمسة الماضية، وفقدت 20 في المائة من مساحتها الحُرجية، وأنه في حال بلوغ هذه النسبة 40 في المائة ستدخل المنطقة مرحلة من التصحّر لا رجعة فيها. ومن ثم، تشدّد معظم الدراسات على الأهمية القصوى لتعزيز منظومات الوقاية من الحرائق وأجهزة إخمادها في كل أنحاء العالم، نظراً للترابط الوثيق بين تداعياتها خارج الحدود الوطنية. ويذكّر خبراء «برنامج الأمم المتحدة للبيئة» أن الحرائق الكبرى تحصل عادة في المناطق التي تشهد تغييرات في النظم الإيكولوجية (البيئية)، وأن غابات كتلك الواقعة في شمال كندا وجبال البرانس (البيرينيه) الأوروبية، وحتى في جزيرة غرينلاند، ما عادت في منأى عن خطر الدمار الشامل بسبب الحرائق. ويبقى أن التغيير الكبير في المعادلة الراهنة هو الوعي الدولي المتزايد حول خطورة هذه الأحداث، وما يتولّد عنه من ضغوط سياسية وشعبية، كتلك المظاهرات الاحتجاجية أمام السفارات البرازيلية في عدد من العواصم، واشتعال وسائل التواصل الاجتماعي.

بولسونارو... والعالم

كل هذا ما دفع بالرئيس بولسونارو إلى الاعتراف بمسؤوليته عن احتراق 20 ألف هكتار من «رئة العالم» الكبرى، وأمر بتكليف الجيش مكافحة الحرائق في المناطق المنكوبة. غير أن الرئيس البرازيلي اليميني المتطرف أصرّ، مع ذلك، على «أن حرائق الغابات تحصل في شتى أنحاء العالم، ولا يمكن أن تكون ذريعة لفرض عقوبات دولية». وكان بولسونارو يتوجّه في تصريحاته بالذات إلى الرئيس الفرنسي ماكرون الذي كان قد هدّد بتجميد الاتفاقية التجارية الكبرى التي سبق أن وقّعها الاتحاد الأوروبي أخيراً مع دول أميركا الجنوبية بسبب «أكاذيب» بولسونارو.
وتجدر الإشارة، إلى أن قمة «مجموعة الدول الصناعية السبع» خصّصت 20 مليون دولار أميركي مساعدةً فورية لدعم البلدان المتضرّرة من حرائق الأمازون. ومن المنتظر أن تناقش الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها المقبلة مطلع سبتمبر المقبل خطة طويلة الأمد وضعتها «مجموعة بلدان أميركا اللاتينية» بالتعاون مع عدد من المنظمات الدولية، لإعادة تحريج المناطق المنكوبة ومساعدة المجموعات المحلية المتضررة. وكان الرئيس الفرنسي ماكرون، الذي قرّر إدراج موضوع حرائق الأمازون بين أولويات قمة «مجموعة السبع»، قد اعتبر «أن خسارة رئة الأرض الكبرى هي مشكلة عالمية، ولا يمكن لأي بلد أن يدّعي التفرّد بها بغضّ النظر عن وجوب احترام السيادات الوطنية». غير أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، المعجب ببولسونارو والمعروف بموقفه الرافض للالتزامات الدولية في مجال تغيّر المناخ، قد تغيّب عن جلسة القمة في بياريتز، التي خُصصت لمناقشة حرائق الأمازون وتقررت فيها المساعدة الطارئة للبلدان المنكوبة.
عودة إلى الحرائق ذاتها، شهدت الأيام الأخيرة امتداداً لحرائق الأمازون إلى بوليفيا والباراغواي، حيث قضت على عشرات آلاف الهكتارات من الغابات التي تعيش فيها مجموعات من السكان الأصليين. ويفيد بيان صدر عن نقابة المهندسين الزراعيين في بوليفيا «بأن الطبيعة تحتاج إلى 200 سنة لتعويض الأضرار التي سببتها الحرائق، وبخاصة في غابة تشيكيتانو الفريدة من نوعها في العالم، حيث تعيش مئات الأجناس الحيوانية والنباتية المتوطّنة». كما أنه، بينما تتجه أنظار العالم إلى الحرائق التي تلتهم مساحات شاسعة في مناطق متعددة من الغابة الأمازونية، وزّعت وكالة «ناسا» صوراً فضائية تبيّن أن الحرائق المشتعلة حاليّاً في غابات أنغولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، في أفريقيا، تضاعف عبر المحيط الأطلسي بنسبة خمس مرات تلك المشتعلة في مناطق الأمازون البرازيلية.

حوض الأمازون يحتضر تحت وطأة السدود

> منطقة حوض نهر الآمازون ليست مجرّد غابات بلا نهاية تمدّ الكرة الأرضية بنحو 20 في المائة من الاوكسيجين، بل هي أيضاً أكبر خزّان في العالم للمياه العذبة تتدفّق من أعظم أنهار كوكبنا غزارة. وللعلم، يزيد طول مجرى الآمازون الرئيس على ألفي كيلومتر ويصبّ في المحيط الأطلسي على مساحة يزيد عرضها على 300 كيلومتر. لكن النهر ينساب أساساً قبل ذلك من منابعه في جبال البيرو مسافة خمسة آلاف كيلومتر مع روافده الثلاثة: ماديرا ونيغرو وخابورا، المصنّفة بين أكبر عشرة أنهار في العالم. وتمتدّ مساحة حوض الآمازون على 6.1 مليون كيلومتر مربع، أي ما يعادل عشرة أضعاف مساحة بريطانيا.
إلا أنه رغم هذه الضخامة التي يصعب تخيّلها، فإن حوض الآمازون مهدد من السدود المائية المبنيّة على مجاري أنهاره والتي يبلغ عددها 140 سدّاً، ومن تلك التي يخطَّط لبنائها في السنوات المقبلة ويبلغ عددها 428 في الوقت الحاضر. ويقدّر العلماء أنه حتى لو بُني جزء فقط من هذه السدود، ستكون تداعياتها وتحبس الجزء الأكبر من الترسّبات النهرية التي تغذّي السهول الآمازونية، وتقضي على مقوّمات الحياة في النهر ومصبّه في المحيط الأطلسي.
وتبيّن دراسة شاركت في وضعها مجموعة من علماء البيئة والمهندسين وخبراء الاقتصاد والجيولوجيا في عشر جامعات أميركية وألمانية وبريطانية وبرازيلية، ونشرت في مجلة «نايتشر» Nature العلمية الرصينة، أن من شأن هذه السدود القضاء نهائياً على الفيضانات الموسمية التي تمدّ غابات الآمازون وسهولها بالحياة وتحرمها من الترسبّات التي تشكّل عماد خصوبتها.
كذلك، تفيد الدراسة بأن 60 في المائة من هذه الترسّبات ستقضي عليها السدود التي سبق وقضت على 75 في المائة منها في بعض المناطق مثل بارانا، في جنوب البرازيل. ويقول الخبراء، إن هذه التحوّلات الجذرية في ديناميكية الأنهر ستكون لها تداعيات خطيرة جداً على الحياة النباتية والحيوانية في حوض الآمازون والمناطق المحيطة به، ويرجّح أن يكون لها تأثير كبير على التقلبات المناخية في المنطقة والعالم. أما على صعيد تداعيات السدود على مصبّ الآمازون في المحيط الأطلسي، والذي يمتدّ على مساحة تبلغ 1.3 مليون كيلومتر مربّع - أي نصف مساحة البحر المتوسط - فستكون كارثّية أيضاً على الشعاب المرجانية في كل السواحل الأميركية، كما أنها ستؤثر على التقلبات المناخية المولّدة للأعاصير والعواصف المدارية في منطقة البحر الكاريبي، إضافة إلى ارتفاع نسبة الملوحة في المخزونات الجوفية من المياه العذبة.
وهنا نذكر أنه في حين تقول الجهات التي تقف وراء سياسة بناء السدود، إن هذه السدود السبيل الوحيد لتوليد الطاقة التي تحتاج إليها البرازيل والإكوادور والبيرو وبوليفيا لتنفيذ خططها الإنمائية، لخبراء الاقتصاد رأي آخر. إذ يؤكد كثرة من هؤلاء، بينهم البروفسور عاطف أنصار الباحث في جامعة أكسفورد البريطانية العريقة، أن الحل ليس في هذه السدود الكهرمائية، ويؤكد «أن الدراسات التي أجريناها بيّنت أنه، بسبب مشكلة الزيادة الدائمة في التكاليف واطالة فترات التنفيذ، أصبحت الكلفة الإجمالية للسدود الضخمة غير قابلة للاسترداد في أكثر من 95 في المائة من الحالات، إضافة إلى التداعيات البيئية السلبية التي تنجم عنها».


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.