دخل عبد الفتاح مورو المحامي والقاضي المعزول في عهد الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة عالم السياسة منذ أكثر من 45 سنة، بعدما تعرّض إلى مضايقات بسبب محاضراته وخطبه العلمية والدينية في الجامعات والمساجد.
تلك المحاضرات والخطب جذبت بسرعة آلاف المتابعين من الشباب وموظفي الدولة والتجار نتيجة لفصاحته واستخدامه أسلوب الهزل والمزاح وانتقاد النظام التونسي بعمق عبر التلميح غالباً. ولكن، لم يتوقّع أحد وقتها أن تساهم تلك المضايقات في صنع زعيم سياسي معارض، وأحد أبرز الشخصيات العمومية في تونس وفي المنطقة، وأن يُنتخب عام 2014 نائباً أول لرئيس البرلمان، بدعم من ثلثي النواب، ثم أحد أبرز المرشحين في الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها المقررة ليوم 15 سبتمبر (أيلول) المقبل.
يُعتبر عبد الفتاح مورو، الزعيم التاريخي الثاني في حركة «الاتجاه الإسلامي» التونسية، بعد رئيسها راشد الغنوشي، وذلك منذ نشأتها في شكل «جماعة إسلامية».
لقد كانت أولويات الحركة ثقافية اجتماعية عام 1973. قبل أن تطغى عليها الصبغة السياسية أواخر السبعينات. ثم بعد تقدّمها في يونيو (حزيران) 1981 بمطلب رسمي للاعتراف بها في شكل حزب سياسي قانوني على غرار بقية الأحزاب اليسارية والليبيرالية.
مورو يعتبر أن تلك الخطوة كانت الأولى من نوعها في تاريخ الحركات الإسلامية العربية ضمن عدة مبادرات للقطع مع منهج «العمل السرّي»، والانخراط في العمل السياسي والحزبي القانوني.
إلا أن الصراعات داخل مؤسسات الحكم أواخر عهد الرئيس بورقيبة (1955 – 1987) والأعوام الأولى من عهد الرئيس بن علي (1987 – 2011) أجهضت تلك المبادرات، فأقحمت مورو ورفاقه منذ صيف 1981 في سلسلة من المحاكمات السياسية والمواجهات مع السلطات حتى اندلاع الانتفاضات الشبابية والثورات العربية مطلع 2011.
الانحياز للاحتجاجات الشبابية
كان مورو والقادة التاريخيون في حركة «الاتجاه الإسلامي» قد حوكموا لأول مرة في خريف 1981 بالسجن لمدد تراوحت بين سنتين و10 سنوات بتهم سياسية، أهمها الانتماء إلى حركة سياسية غير قانونية، وبالوقوف وراء التحركات الطلابية والاحتجاجات الشبابية في المعاهد والجامعات خلال شهري يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) 1981.
يومذاك، تطوّرت التحركات لأول مرة إلى مظاهرات ضخمة في العاصمة تونس وغالبية مدن البلاد، وشارك فيها في الوقت نفسه طلاب الجامعات والثانويات وشباب من أبناء الجهات المهمشة والأحياء العمالية والشعبية. ويعتبر مورو أن تلك المحاكمات السياسية الأولى التي استهدفته وثلة من رفاقه أكدت «هيمنة جناح (الصقور) المعارضين للانفتاح السياسي في مؤسسات الدولة والحزب الحاكم على الجناح التحرّري».
بين بورقيبة وأصدقائه العرب
إلا أن بورقيبة أفرج عن عبد الفتاح مورو بعد نحو سنتين من محاكمته تفاعلاً مع مساعٍ ووساطات قامت بها لفائدته شخصيات تونسية وعربية وعالمية. وكان من بين الوسطاء أصدقاء بورقيبة عندما كان لاجئاً سياسياً في القاهرة لمدة 5 سنوات، وعندما زار المملكة العربية السعودية والتقى قادتها وعلى رأسهم الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود مرتين ولقي دعماً سياسياً ومالياً منهم لنضال الوطنيين التونسيين وبلدان شمال أفريقيا من أجل الاستقلال عن فرنسا.
لكن بورقيبة فرض، في المقابل، على مورو الإقامة الجبرية في بيته حتى الإفراج عن كل أعضاء القيادة التاريخية للحركة في صيف 1984، مع أنه سمح بوساطات معه عبر رئيس الوزراء (يومذاك) محمد مزالي وعدد من الحقوقيين والمحاميين، بينهم محمد النوري وفتحي عبيد ومصطفى المنيف والأمين العام للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان حمودة بن سلامة.
ومن ثم، أسفرت الوساطات التي قام بها مورو، عن الإفراج عن كل مساجين القيادة التاريخية وعودة اللاجئين السياسيين من منافيهم، وهو ما أبرزه في مظهر الزعيم البراغماتي المعتدل التي يسعى لمعالجة الأزمات عبر الحوار مع السلطات والأطراف السياسية التي سبق أن اضطهدته، وليس عبر المواجهة والصدام.
يتيم من الأحياء الشعبية
وُلِد عبد الفتاح مورو في يناير 1948، ونشأ في حي شعبي بمنطقة باب سويقة في قلب مدينة تونس القديمة، غير بعيد عن جامع الزيتونة. ولكن، سرعان ما تُوفي والده، فربّته والدته مع إخوته وكانت تعمل في مهنة الخياطة في بيتها، مثلما أورد في شهادته إلى «الشرق الأوسط».
هنا شاءت الأقدار أن يكون أحد جيران العائلة الزعيم الوطني والنقابي والعلامة الكبير الشيخ محمد الفاضل بن عاشور، نجل العلاّمة والمفكّر محمد الطاهر بن عاشور. ولقد أعجب بن عاشور بالطفل عبد الفتاح مورو لما لاحظه فيه من حفظ للشعر والنصوص الأدبية وللقرآن وولع بالمطالعة، وكان يصطحبه معه أحياناً مشياً على الأقدام إلى جامع الزيتونة، وهو ما أثّر في شخصية الطفل وميوله.
وبعدما حصل مورو على شهادة الثانوية من معهد الصادقية، الذي تخرج فيه عدد من مشاهير مثقفي تونس وساستها، مثل الحبيب بورقيبة، والباجي قائد السبسي، تابع دراساته العليا في كلية الحقوق والعلوم القانونية بتونس باللغتين العربية والفرنسية وتخرّج فيها قاضياً عام 1970.
كذلك، حصل بصفة موازية على شهادة في اللغة الألمانية من المركز الثقافي الألماني وعلى شهادة أخرى في الموسيقى. وأُسنِدَت إليه شهادة في الدراسات الإسلامية من كلية الشريعة وأصول الدين التي كان الشيخ محمد الفاضل بن عاشور عميداً لها. ولعل هذه الثقافة المخضرمة أسهمت في نحت شخصية مورو وخطاباته الداعية إلى التوفيق بين الحداثة الغربية مع التأكيد على خصوصيات التيار الوطني التونسي والمغاربي.
القضاء والمحاماة والسياسة
بدأ عبد الفتاح مورو مسيرته المهنية في موفّى عام 1972 قاضياً. وكانت له طوال 5 سنوات أنشطة سياسية ونقابية في الجمعية التونسية للقضاة الشبان مع نخبة من الحقوقيين الوطنيين، بينهم عميد المحامين لاحقاً البشير الصيد. بيد أن توتر المناخ السياسي العام في تونس، وتوالي انتقادات مورو للحكومة في خطبه في الجوامع دفعا السلطات إلى الضغط عليه، فاستقال من القضاء عام 1978، وانتقل إلى ممارسة المحاماة على غرار كثير من النشطاء والمعارضين السياسيين.
شهدت تونس، خلال عقد السبعينات، إضرابات وتحرّكات احتجاجية شبابية ونقابية في الجامعة وخارجها، تطورت إلى مواجهات بين الحكومة وقيادات نقابات العمال وحركات اليسار، وإلى إضراب عام ومواجهات دامية يوم 26 يناير 1978.
وتسببت المحاكمات السياسية لقيادات النقابات العمالية وحملات القمع لقيادات الحركة الطلابية اليسارية في مراجعة مورو ورفاقه لمنهجهم السياسي وأولوياتهم. وتأكدت المراجعة بعدما انخرط شباب «الاتجاه الإسلامي في الجامعة» في الحراك الشبابي الاجتماعي السياسي، فصار مورو ورفاقه ينظّمون تجمّعات ضخمة في الجوامع والجامعات عن حقوق العمال والعدالة الاجتماعية في الإسلام وعن الاستجابة إلى مطالب السياسية للطبقات الشعبية.
كذلك، في هذه الأثناء انخرط شباب «الاتجاه الإسلامي في الحركة الطلابية» في الحراك الاجتماعي الشبابي المعارض للسلطات، وتبنى بعض شعارات اليسار الطلابي والنقابي والحركات الثورية في العالم، وأصبح الطرف الرئيسي في قيادة الحركة الطلابية والشبابية في أغلب الجامعات وجهات البلاد. ولكن رغم ذلك، حافظ مورو على دعواته للبراغماتية والخصوصية التونسية، وإلى رفض منهج العنف في التغيير واحتكار أي طرف سياسي الحديث باسم الإسلام.
التحكم في شباب الجامعة والمعاهد
أعطى تزايد شعبية الطلاب الإسلاميين في الجامعة والمعاهد الثانوية، وتحكّمهم في المظاهرات الاحتجاجية خارجها، أبعاداً وطنية جديدة لزعماء حركة «الاتجاه الإسلامي» بزعامة المحامي عبد الفتاح مورو ورفيقه أستاذ الفلسفة راشد الغنوشي وأنصارهم، إلا أن هذه الشعبية كلفت مورو ورفاقه مضايقات أدَّت إلى إيقافهم مراراً من قبل قوات الأمن، ثم إلى محاكماتهم خلال صيف 1981.
من ناحية ثانية، كان مورو الشخصية الإسلامية البارزة الوحيدة التي وقّعت مع 100 مثقف وسياسي علماني وثيقة سياسية تاريخية عام 1977 طالبت الرئيس بورقيبة باحترام المجتمع المدني والحريات والتعددية السياسية والمنظومة الدولية لحقوق الإنسان. كذلك بنى مورو علاقات مع عدد من وزراء بورقيبة السابقين ورفاقهم القدامى المطرودين من الحزب الحاكم في 1974، الذين أسّسوا عام 1978 أول حزب ليبرالي معارض سموه «حزب الديمقراطيين الاشتراكيين» وأصدروا صحفاً معارضة ناطقة باسمهم، بينها «الرأي» و«المستقبل».
بين خيارين
وتقلب مورو ورفاقه منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي بين خيارين متناقضين: الأول يناصر الحوار السياسي مع السلطات والمعارضة الليبرالية. والثاني يدعو إلى المواجهة ويتبنّى «المنهج الثوري للتغيير»، بعدما تأثر باليسار التونسي الراديكالي والنقابات.
دعم مورو دوماً الخيار الأول، وعارض بقوة «سيناريو» المظاهرات والتصعيد ضد السلطات الذي كلّف الآلاف من أنصار حركته أحكاماً قاسية في محاكمات بالجملة استهدفتهم، أبرزها في أعوام 1981 و1987 و1992. كذلك عارض مورو تصعيد حزب «حركة النهضة» ضد السلطات عام 1991. وبذل وساطات مع بعض وزراء بن علي ومستشاريه لاحتواء الأزمة. ولكن عندما فشلت تلك المساعي جمّد عضويته في «النهضة» عام 1992... ولم يتراجع عن قراره إلا أواخر عام 2012.
علاقات عربية ودولية
أكثر من هذا، استبق مورو الصراعات العنيفة التي شهدتها تونس تمهيداً لإخراج بورقيبة من قصر قرطاج عام 1987. فهاجر وأمضى في المنفى 3 سنوات، ومن هناك ربط علاقات متطوّرة بعدد من كبار الرسميين العرب والأوروبيين ومن زعماء العالم، ولم يعُد إلى تونس إلا بعدما دعاه بن علي.
تفرغ عبد الفتاح مورو طوال عهد بن علي لمهنة المحاماة وللنشاط الحقوقي السياسي العادي، وبقي محاصَراً سياسياً وإعلامياً وممنوعاً من السفر، رغم المساعي التي بذلها لفائدته عدد من السياسيين العرب والأجانب الذين أعلنوا تقديرهم لاعتداله ولبعض مواقفه الدولية، من بينها معارضته الاجتياح العراقي للكويت خلال أغسطس (آب) 1990، في حين انحازت فيه غالبية النخب التونسية والمغاربية إلى النظام العراقي.
ثم بعد «انتفاضة يناير» 2011 وسقوط بن علي، أحجم مورو عن العودة إلى «النهضة» وتزعّم قوائم مستقلة منافسة لها في انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2011، تحت شعار «طريق السلامة». غير أن هذه القوائم لم تفز بأي مقعد لأن رفاقه السابقين حاربوها واعتبروها محاولة لتقسيم حركتهم وأنصارها وناخبيها.
أيضاً، انتقد مورو قيادات «النهضة» بعنف، وحاول تأسيس أحزاب منافسة لها مع شخصيات ليبرالية وعلمانية وإسلامية مختلفة، لكنه عاد إلى حركته الأم بعد مؤتمرها الذي عقدته عام 2012 ودخل البرلمان مرشحاً عنها في انتخابات عام 2014، وهو ما أهّله، بعد فوزه، ليُنتخَب في رئاسة البرلمان، ثم يغدو طوال 5 سنوات من أبرز الشخصيات السياسية الرسمية الوطنية التي تستقبل كبار المسؤولين العرب والأجانب. لقد سهّل موقع مورو في رئاسة البرلمان زيارة عدد من دول العالم. وبعدما عُين عام 2016 نائباً أول لرئيس «حركة النهضة» ومسؤولاً عن العلاقات الدولية فيها، توسّعت أكثر شبكة علاقاته داخل تونس، وفي العالم أجمع، بالأحزاب والحكومات والبرلمانات والمجتمع المدني. فهل تسهم هذه الشبكة في أن يكون مورو أحد أبرز المرشحين للدور الثاني في الانتخابات الرئاسية المبكّرة... أم يكون مجرّد «ورقة» لتحسين شروط تفاوض «النهضة» مع منافسيها حول دورها في مؤسسات الدولة بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة؟