ما لقمة «السبعة الكبار»... وما عليها

استشراف مشاكل العالم على شاطئ الأطلسي

ما لقمة «السبعة الكبار»... وما عليها
TT

ما لقمة «السبعة الكبار»... وما عليها

ما لقمة «السبعة الكبار»... وما عليها

تشتهر مدينة بياريتز الساحلية الصغيرة في أقصى جنوب غربي فرنسا، بأنها قبلة أنظار هواة ركوب الأمواج في القارة الأوروبية. وهي تستضيف كل عام بطولة ركوب الأمواج العالمية التي يحضرها أبطال تلك الرياضة من مختلف بلدان العالم لركوب أعلى وأخطر موجات المحيط الأطلسي على سواحلها. وهؤلاء يمارسون تلك الرياضة بأسلوب «المحاكاة»، حيث يبدو وأنهم يلمسون قمم الموجات بألواح الركوب الملساء في وثبات رشيقة. في الأسبوع الماضي، استعان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالأسلوب لاستضافة الدورة الـ45 من «قمة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى» (السبعة الكبار) التي تضم قادة الدول الصناعية الكبرى: الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، وكندا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، خلال يومين من المباحثات والمناقشات وتبادل الآراء والأفكار حول عدد من القضايا ذات الاهتمام العالمي المشترك. وبالمقارنة، مع قمة العام الماضي، التي عقدت في كندا وانتهت بفوضى واضحة وجملة من الاتهامات المتبادلة، يبدو أن قمة بياريتز الفرنسية مرت في سلاسة وهدوء. حتى أن بعض المحللين رأوا أن نجاح القمة يمكن إضافته إلى قائمة الإنجازات الدبلوماسية للرئيس الفرنسي الشاب.
فإذا كان هذا هو الحال، فما هو السر الكامن وراء نجاح هذه القمة؟

لعل السبب الرئيس في قيادة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قمة «السبعة الكبار» إلى النجاح هو أنه رتب ونظم الفعالية بأكملها بأسلوب يسمح للزعماء المشاركين بتصفح واستعراض القضايا العالمية ذات الأهمية، لكن من دون الاستغراق فيها فعلياً. وفي القضايا التي استشعر فيها احتمال نشوب الصدام، كما هو الحال دوماً مع قضية التغييرات المناخية الشائكة، فإنه جعل حضور المداولات اختيارياً بين القادة؛ الأمر الذي أتاح للرئيس الأميركي دونالد ترمب، المعارض الكبير لقضية التغييرات المناخية منذ فترة ليست بالقصيرة، النأي بنفسه والبقاء بعيداً عن تلك السجالات.
مع هذا، وإقراراً بالحقيقة، فإن قمم «السبعة الكبار» تفتقر فعلاً لأي آلية معنية بتنفيذ القرارات والتوصيات ووضعها حيز التنفيذ. وهنا أيضاً، قرر الرئيس الفرنسي أيضاً ألا يصدر عن قمة العام الحالي أي بيانات ختامية تستعرض القرارات التي اتخذها القادة في بياريتز. وكان هذا على النقيض مما اعتادت عليه قمم المجموعة خلال السنوات السابقة التي تمخضت عنها بيانات ختامية رصينة و«سميكة»، لكنها لم تتجاوز مجال القول إلى محيط الفعل.
أيضاً قفز الرئيس ماكرون برشاقته المعهودة فوق تقليد المؤتمرات الصحافية الجماعية، المقصود منها التقاط الصور الجماعية لقادة دول القمة تأكيداً على التناغم والوئام السياسي العالمي. أما المؤتمر الصحافي الذي نظمه ماكرون في ختام أعمال القمة فكان يتألف من شخصيتين اثنتين فقط، هما إيمانويل ماكرون ودونالد ترمب ليس إلا. لكن الأهم من ذلك، ربما، أن الأسئلة التي طُرحت خلال المؤتمر الصحافي الختامي الثنائي كانت مصممة بأسلوب يسهل على الرئيسين الفرنسي والأميركي المراوغة وتفادي نقاط الحرج بكل سلاسة.

ظريف... الحركات الشعبوية
كان ماكرون قد وجّه الدعوة إلى قادة عدد من الدول النامية لحضور فعاليات القمة الكبرى؛ في محاولة منه لإضفاء نوع من التجديد على مجريات القمة الرصينة. وفي لمحة جانبية واضحة، دعا الرئيس الفرنسي وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف إلى تناول كأس من عصير البرتقال وفنجان قهوة.
ويبدو أن قمة بياريتز الأخيرة قد أماطت اللثام عن بعض توقعات المحللين المعلن عنها منذ فترة طويلة، وفي مقدمها نهاية التقاليد التي بدأت عقب فترة وجيزة من نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي، وفقاً لها، لاحظت البلدان الديمقراطية الغربية، بالإضافة إلى اليابان، وجود قدر من التوافق في التعاطي مع القضايا العالمية الرئيسية. ولعل لهذا التوافق جذوره الآيديولوجية ضمن القيم الليبرالية العريضة في سياق الصراع العالمي المشترك ضد الشيوعية، كما في صيغها المتنوعة الأخرى على صعيد المنافسة... وليس الخصومة أو العداء.

اهتزاز التوافق... في ظل المعوقات
لقد بيّنت قمة بياريتز الفرنسية أن حالة التوافق الطويلة الأمد التي استمرت قرابة ستة عقود منذ نهاية الحرب الكبرى، وتمخّضت عن احترام القيم المشتركة واعتماد المقاربات المتماثلة إلى درجة ما حيال السياسات، ما عادت من قبيل المُسلّمات داخل المعسكر الغربي الكبير. وفي حين أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وربما الرئيس ماكرون نفسه بصورة من الصور، ما زالا يمثلان القيم والتقاليد الليبرالية القديمة مع أنماط العمل وتناول المشاكل المتشابهة، فهذا لا ينطبق بالضرورة على الآخرين. إذ كان دونالد ترمب، جنباً إلى جنب مع رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي - الذي يفضل وصفه بلقب «عدو النخبة» - فضلاً عن بوريس جونسون، يدافعون أيما دفاع عن صبغات الحركات الشعبوية الجديدة المتلونة التي وصلت إلى سدة الحكم في الهند والبرازيل والمجر وبولندا.
كذلك، بين «المعوّقات» التي ظهرت خلال القمة كان التراجع الملحوظ لدور الاتحاد الأوروبي بصفته لاعباً دولياً ذا ثقل معتبر، وخوض بريطانيا حرباً لا عنفية بشأن خروجها من أسرة الاتحاد الأوروبي. وبصرف النظر عن هوية الطرف المنتصر في نهاية هذه الحرب، من غير المرجح لبريطانيا أن تستعيد الوضعية نفسها التي كانت تحتلها داخل الاتحاد أو في جواره.
ثم هناك ألمانيا، التي تدخل سياسياً نفق المجهول مع إعلان أنجيلا ميركل تقاعدها الوشيك عن منصبها الرفيع، مقابل الصعود المقلق لجماعات اليمين المتطرف في البلاد... فضلاً عن التباطؤ الاقتصادي الواضح.
ولدينا، أيضاً، إيطاليا المستعصية على الحكم في أفضل فترات تاريخها المعاصر، لكنها اليوم غارقة في حالة من الفوضى السياسية العارمة بسبب طموحات زعيم اليمين المتشدد ماتيو سالفيني الجامحة.
وهكذا، أقله على السطح، يبدو إيمانويل ماكرون الزعيم الأوروبي الوحيد الذي ما زال يحظى بسلطات راسخة في إدارة بلاده، ومن ثم فهو يحمل واجب المطالبة بزعامة الاتحاد الأوروبي بأسره. لكن، مع ذلك، تعاني قاعدة ماكرون الانتخابية من اهتزازات شديدة في حين تتصاعد فيها شعبية الحركات الشعبوية من تياري اليمين واليسار على السواء في الداخل الفرنسي.

ترمب وجونسون
على نهاية الطرف الآخر من الطيف السياسي، قد يبدو كل من دونالد ترمب وبوريس جونسون يعانيان من الضعف لأسباب مختلفة. فعلى الرغم من حقيقة أن الصراع داخل الحزب الديمقراطي الأميركي من الفوضى الشديدة بفعل الصراع السياسي القائم بين الليبراليين المعتدلين التقليديين ومنافسيهم الشعبويين الجدد من تيار اليسار، ليس محسوماً بعد أن يتمكن ترمب من تحقيق الفوز بولاية رئاسية ثانية. ذلك أنه من شأن أي تراجع اقتصادي كبير حرمان ترمب من بطاقة الفوز الذهبية.
أما بالنسبة لجونسون، فإنه قد يخسر تصويتاً بحجب الثقة في البرلمان البريطاني مطلع الشهر المقبل، وبالتالي يغدو رئيس الوزراء الأقصر حكماً في تاريخ الحكومات البريطانية.
ولكن ماذا عن جاستن ترودو، رئيس وزراء كندا، وسجله من الزلات السياسية المتعددة التي تجعله بنظر كثيرين مفتقراً إلى المقومات اللازمة ليصبح زعيماً عالمياً. وهذا ما يترك رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي «الزعيم» الأقوى بين القادة «السبعة الكبار»، والأرسخ أقداماً، والمرشح للاستمرار خلال السنوات القليلة المقبلة. لكن هنا، أيضاً، يجب القول إن اليابان تفتقر إلى خبرات اللعب السياسي على الصعيد العالمي، وربما إلى قدر معتبر من الطموح كذلك، يدفعها إلى السعي لبناء الزعامة العالمية استناداً إلى قوتها الاقتصادية الهائلة.

قضيتا الإنترنت والبيئة
كانت مجموعة «السبع الكبرى» في بدايتها مثل الجداول الصغيرة التي تصب لاحقاً في نهر كبير يعرفه الجميع باسم «النظام العالمي». غير أن قمة بياريتز الأخيرة عكست صورة تفيد بأن تلك الجداول – أو الروافد – باتت تتدفق بعيدة عن ذلك النهر القديم. ومع ذلك، خاض القادة في القمة الأخيرة بكثير من المقترحات الخاصة باستعراض الكثير من القضايا. ووافقوا على اتخاذ تدابير تتعلق بإمبراطوريات الإنترنت العالمية، ربما عن طريق إخضاعها للرقابة والتنظيم وفرض الضرائب عليها. والمجال مفتوح لتخمينات الجميع بشأن كيفية تنفيذ ذلك؛ إذ يتوجب على كل الأطراف المشاركة طرح مخططات العمل للحكومات المعنية والهيئات التشريعية المتفرعة عنها.
أيضاً، أكدت الجلسة الخاصة بقضايا البيئة، التي تغيّب عنها الرئيس الأميركي مختاراً، الرغبة الراسخة في تأييد «اتفاقيات باريس» المناخية، مع أنه يصادَق عليها من خلال برلمانات الدول المعنية. والآمال الراهنة في أن تغير الولايات المتحدة رأيها بشأن الاتفاقيات؛ ما قد يدفع ترمب أو أي إدارة أميركية مقبلة للموافقة عليها، ليست إلا آمالاً معقودة في الخيال.
في سياق متصل، يمكن وصف محاولة القمة الأخيرة فعل شيء بشأن الحرائق الرهيبة التي عصفت بغابات الآمازون في البرازيل، بأنها مجرد خطوة شكلية. وكان الرئيس البرازيلي جاير بولسونارو قد أعرب عن «سخط شعبه» رافضاً مبلغ 10 ملايين دولار قدمته قمة بياريتز ضمن حزمة المساعدات المقدرة بنحو 20 مليون دولار لصالح البلدان المتاخمة لغابات الآمازون.
وحسب البعض، يرى أكثر من 100 مليون شخص ممن يعيشون داخل غابات الآمازون المطيرة وحولها أن تطوير الموارد الطبيعية، المحفوف بالكثير من المخاطر البيئية، هو السبيل الوحيد للهرب من حياة الفقر المدقع التي يعيشونها. هؤلاء يتحدث الرئيس البرازيلي اليميني المتشدد بالنيابة عنهم، ولا سيما عندما يتهم البلدان الغنية بإطلاقها القسط الأكبر من الانبعاثات الكربونية في العالم... في حين يطالبون أميركا الجنوبية بالتزام الفقر والعوز من أجل حماية ما يطلق عليه الأوروبيون «رئة العالم» في غابات الآمازون.

الصين... الحاضر الغائب!

> كانت الصين حقاً «الحاضر الغائب» في قمة بياريتز. ولعل الأمر كان يهدف لتهدئة المخاوف الأوروبية من حرب الرسوم الجمركية العالمية التي لمح الرئيس دونالد ترمب إلى تخفيف حدتها مع الصين بشأن العجز التجاري، وتخفيض قيمة العملة، وتكتيكات الإغراق التام. ولن ينطلق صوب التراجع والإذعان الآن، لكنه سيعيد تقييم الاستراتيجية بشأن القتال المتعدد الجوانب مع الصين بدلاً من محاولة خوض جولة واحدة من القتال بالضربة القاضية.
لا شك أن كلاً من الولايات المتحدة والصين في حاجة ماسة إلى بعضهما بعضاً. لكن السؤال هو: من يحتاج إلى الآخر أكثر؟
إن من شأن حالة الشك المستمرة منع الجانبين من الاندفاع في الصراع إلى ما وراء خطوط معينة. وجاء ذلك الموقف مطمئناً للزعماء المشاركين في القمة الأخيرة.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.