ما لقمة «السبعة الكبار»... وما عليها

استشراف مشاكل العالم على شاطئ الأطلسي

ما لقمة «السبعة الكبار»... وما عليها
TT

ما لقمة «السبعة الكبار»... وما عليها

ما لقمة «السبعة الكبار»... وما عليها

تشتهر مدينة بياريتز الساحلية الصغيرة في أقصى جنوب غربي فرنسا، بأنها قبلة أنظار هواة ركوب الأمواج في القارة الأوروبية. وهي تستضيف كل عام بطولة ركوب الأمواج العالمية التي يحضرها أبطال تلك الرياضة من مختلف بلدان العالم لركوب أعلى وأخطر موجات المحيط الأطلسي على سواحلها. وهؤلاء يمارسون تلك الرياضة بأسلوب «المحاكاة»، حيث يبدو وأنهم يلمسون قمم الموجات بألواح الركوب الملساء في وثبات رشيقة. في الأسبوع الماضي، استعان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالأسلوب لاستضافة الدورة الـ45 من «قمة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى» (السبعة الكبار) التي تضم قادة الدول الصناعية الكبرى: الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، وكندا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، خلال يومين من المباحثات والمناقشات وتبادل الآراء والأفكار حول عدد من القضايا ذات الاهتمام العالمي المشترك. وبالمقارنة، مع قمة العام الماضي، التي عقدت في كندا وانتهت بفوضى واضحة وجملة من الاتهامات المتبادلة، يبدو أن قمة بياريتز الفرنسية مرت في سلاسة وهدوء. حتى أن بعض المحللين رأوا أن نجاح القمة يمكن إضافته إلى قائمة الإنجازات الدبلوماسية للرئيس الفرنسي الشاب.
فإذا كان هذا هو الحال، فما هو السر الكامن وراء نجاح هذه القمة؟

لعل السبب الرئيس في قيادة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قمة «السبعة الكبار» إلى النجاح هو أنه رتب ونظم الفعالية بأكملها بأسلوب يسمح للزعماء المشاركين بتصفح واستعراض القضايا العالمية ذات الأهمية، لكن من دون الاستغراق فيها فعلياً. وفي القضايا التي استشعر فيها احتمال نشوب الصدام، كما هو الحال دوماً مع قضية التغييرات المناخية الشائكة، فإنه جعل حضور المداولات اختيارياً بين القادة؛ الأمر الذي أتاح للرئيس الأميركي دونالد ترمب، المعارض الكبير لقضية التغييرات المناخية منذ فترة ليست بالقصيرة، النأي بنفسه والبقاء بعيداً عن تلك السجالات.
مع هذا، وإقراراً بالحقيقة، فإن قمم «السبعة الكبار» تفتقر فعلاً لأي آلية معنية بتنفيذ القرارات والتوصيات ووضعها حيز التنفيذ. وهنا أيضاً، قرر الرئيس الفرنسي أيضاً ألا يصدر عن قمة العام الحالي أي بيانات ختامية تستعرض القرارات التي اتخذها القادة في بياريتز. وكان هذا على النقيض مما اعتادت عليه قمم المجموعة خلال السنوات السابقة التي تمخضت عنها بيانات ختامية رصينة و«سميكة»، لكنها لم تتجاوز مجال القول إلى محيط الفعل.
أيضاً قفز الرئيس ماكرون برشاقته المعهودة فوق تقليد المؤتمرات الصحافية الجماعية، المقصود منها التقاط الصور الجماعية لقادة دول القمة تأكيداً على التناغم والوئام السياسي العالمي. أما المؤتمر الصحافي الذي نظمه ماكرون في ختام أعمال القمة فكان يتألف من شخصيتين اثنتين فقط، هما إيمانويل ماكرون ودونالد ترمب ليس إلا. لكن الأهم من ذلك، ربما، أن الأسئلة التي طُرحت خلال المؤتمر الصحافي الختامي الثنائي كانت مصممة بأسلوب يسهل على الرئيسين الفرنسي والأميركي المراوغة وتفادي نقاط الحرج بكل سلاسة.

ظريف... الحركات الشعبوية
كان ماكرون قد وجّه الدعوة إلى قادة عدد من الدول النامية لحضور فعاليات القمة الكبرى؛ في محاولة منه لإضفاء نوع من التجديد على مجريات القمة الرصينة. وفي لمحة جانبية واضحة، دعا الرئيس الفرنسي وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف إلى تناول كأس من عصير البرتقال وفنجان قهوة.
ويبدو أن قمة بياريتز الأخيرة قد أماطت اللثام عن بعض توقعات المحللين المعلن عنها منذ فترة طويلة، وفي مقدمها نهاية التقاليد التي بدأت عقب فترة وجيزة من نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي، وفقاً لها، لاحظت البلدان الديمقراطية الغربية، بالإضافة إلى اليابان، وجود قدر من التوافق في التعاطي مع القضايا العالمية الرئيسية. ولعل لهذا التوافق جذوره الآيديولوجية ضمن القيم الليبرالية العريضة في سياق الصراع العالمي المشترك ضد الشيوعية، كما في صيغها المتنوعة الأخرى على صعيد المنافسة... وليس الخصومة أو العداء.

اهتزاز التوافق... في ظل المعوقات
لقد بيّنت قمة بياريتز الفرنسية أن حالة التوافق الطويلة الأمد التي استمرت قرابة ستة عقود منذ نهاية الحرب الكبرى، وتمخّضت عن احترام القيم المشتركة واعتماد المقاربات المتماثلة إلى درجة ما حيال السياسات، ما عادت من قبيل المُسلّمات داخل المعسكر الغربي الكبير. وفي حين أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وربما الرئيس ماكرون نفسه بصورة من الصور، ما زالا يمثلان القيم والتقاليد الليبرالية القديمة مع أنماط العمل وتناول المشاكل المتشابهة، فهذا لا ينطبق بالضرورة على الآخرين. إذ كان دونالد ترمب، جنباً إلى جنب مع رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي - الذي يفضل وصفه بلقب «عدو النخبة» - فضلاً عن بوريس جونسون، يدافعون أيما دفاع عن صبغات الحركات الشعبوية الجديدة المتلونة التي وصلت إلى سدة الحكم في الهند والبرازيل والمجر وبولندا.
كذلك، بين «المعوّقات» التي ظهرت خلال القمة كان التراجع الملحوظ لدور الاتحاد الأوروبي بصفته لاعباً دولياً ذا ثقل معتبر، وخوض بريطانيا حرباً لا عنفية بشأن خروجها من أسرة الاتحاد الأوروبي. وبصرف النظر عن هوية الطرف المنتصر في نهاية هذه الحرب، من غير المرجح لبريطانيا أن تستعيد الوضعية نفسها التي كانت تحتلها داخل الاتحاد أو في جواره.
ثم هناك ألمانيا، التي تدخل سياسياً نفق المجهول مع إعلان أنجيلا ميركل تقاعدها الوشيك عن منصبها الرفيع، مقابل الصعود المقلق لجماعات اليمين المتطرف في البلاد... فضلاً عن التباطؤ الاقتصادي الواضح.
ولدينا، أيضاً، إيطاليا المستعصية على الحكم في أفضل فترات تاريخها المعاصر، لكنها اليوم غارقة في حالة من الفوضى السياسية العارمة بسبب طموحات زعيم اليمين المتشدد ماتيو سالفيني الجامحة.
وهكذا، أقله على السطح، يبدو إيمانويل ماكرون الزعيم الأوروبي الوحيد الذي ما زال يحظى بسلطات راسخة في إدارة بلاده، ومن ثم فهو يحمل واجب المطالبة بزعامة الاتحاد الأوروبي بأسره. لكن، مع ذلك، تعاني قاعدة ماكرون الانتخابية من اهتزازات شديدة في حين تتصاعد فيها شعبية الحركات الشعبوية من تياري اليمين واليسار على السواء في الداخل الفرنسي.

ترمب وجونسون
على نهاية الطرف الآخر من الطيف السياسي، قد يبدو كل من دونالد ترمب وبوريس جونسون يعانيان من الضعف لأسباب مختلفة. فعلى الرغم من حقيقة أن الصراع داخل الحزب الديمقراطي الأميركي من الفوضى الشديدة بفعل الصراع السياسي القائم بين الليبراليين المعتدلين التقليديين ومنافسيهم الشعبويين الجدد من تيار اليسار، ليس محسوماً بعد أن يتمكن ترمب من تحقيق الفوز بولاية رئاسية ثانية. ذلك أنه من شأن أي تراجع اقتصادي كبير حرمان ترمب من بطاقة الفوز الذهبية.
أما بالنسبة لجونسون، فإنه قد يخسر تصويتاً بحجب الثقة في البرلمان البريطاني مطلع الشهر المقبل، وبالتالي يغدو رئيس الوزراء الأقصر حكماً في تاريخ الحكومات البريطانية.
ولكن ماذا عن جاستن ترودو، رئيس وزراء كندا، وسجله من الزلات السياسية المتعددة التي تجعله بنظر كثيرين مفتقراً إلى المقومات اللازمة ليصبح زعيماً عالمياً. وهذا ما يترك رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي «الزعيم» الأقوى بين القادة «السبعة الكبار»، والأرسخ أقداماً، والمرشح للاستمرار خلال السنوات القليلة المقبلة. لكن هنا، أيضاً، يجب القول إن اليابان تفتقر إلى خبرات اللعب السياسي على الصعيد العالمي، وربما إلى قدر معتبر من الطموح كذلك، يدفعها إلى السعي لبناء الزعامة العالمية استناداً إلى قوتها الاقتصادية الهائلة.

قضيتا الإنترنت والبيئة
كانت مجموعة «السبع الكبرى» في بدايتها مثل الجداول الصغيرة التي تصب لاحقاً في نهر كبير يعرفه الجميع باسم «النظام العالمي». غير أن قمة بياريتز الأخيرة عكست صورة تفيد بأن تلك الجداول – أو الروافد – باتت تتدفق بعيدة عن ذلك النهر القديم. ومع ذلك، خاض القادة في القمة الأخيرة بكثير من المقترحات الخاصة باستعراض الكثير من القضايا. ووافقوا على اتخاذ تدابير تتعلق بإمبراطوريات الإنترنت العالمية، ربما عن طريق إخضاعها للرقابة والتنظيم وفرض الضرائب عليها. والمجال مفتوح لتخمينات الجميع بشأن كيفية تنفيذ ذلك؛ إذ يتوجب على كل الأطراف المشاركة طرح مخططات العمل للحكومات المعنية والهيئات التشريعية المتفرعة عنها.
أيضاً، أكدت الجلسة الخاصة بقضايا البيئة، التي تغيّب عنها الرئيس الأميركي مختاراً، الرغبة الراسخة في تأييد «اتفاقيات باريس» المناخية، مع أنه يصادَق عليها من خلال برلمانات الدول المعنية. والآمال الراهنة في أن تغير الولايات المتحدة رأيها بشأن الاتفاقيات؛ ما قد يدفع ترمب أو أي إدارة أميركية مقبلة للموافقة عليها، ليست إلا آمالاً معقودة في الخيال.
في سياق متصل، يمكن وصف محاولة القمة الأخيرة فعل شيء بشأن الحرائق الرهيبة التي عصفت بغابات الآمازون في البرازيل، بأنها مجرد خطوة شكلية. وكان الرئيس البرازيلي جاير بولسونارو قد أعرب عن «سخط شعبه» رافضاً مبلغ 10 ملايين دولار قدمته قمة بياريتز ضمن حزمة المساعدات المقدرة بنحو 20 مليون دولار لصالح البلدان المتاخمة لغابات الآمازون.
وحسب البعض، يرى أكثر من 100 مليون شخص ممن يعيشون داخل غابات الآمازون المطيرة وحولها أن تطوير الموارد الطبيعية، المحفوف بالكثير من المخاطر البيئية، هو السبيل الوحيد للهرب من حياة الفقر المدقع التي يعيشونها. هؤلاء يتحدث الرئيس البرازيلي اليميني المتشدد بالنيابة عنهم، ولا سيما عندما يتهم البلدان الغنية بإطلاقها القسط الأكبر من الانبعاثات الكربونية في العالم... في حين يطالبون أميركا الجنوبية بالتزام الفقر والعوز من أجل حماية ما يطلق عليه الأوروبيون «رئة العالم» في غابات الآمازون.

الصين... الحاضر الغائب!

> كانت الصين حقاً «الحاضر الغائب» في قمة بياريتز. ولعل الأمر كان يهدف لتهدئة المخاوف الأوروبية من حرب الرسوم الجمركية العالمية التي لمح الرئيس دونالد ترمب إلى تخفيف حدتها مع الصين بشأن العجز التجاري، وتخفيض قيمة العملة، وتكتيكات الإغراق التام. ولن ينطلق صوب التراجع والإذعان الآن، لكنه سيعيد تقييم الاستراتيجية بشأن القتال المتعدد الجوانب مع الصين بدلاً من محاولة خوض جولة واحدة من القتال بالضربة القاضية.
لا شك أن كلاً من الولايات المتحدة والصين في حاجة ماسة إلى بعضهما بعضاً. لكن السؤال هو: من يحتاج إلى الآخر أكثر؟
إن من شأن حالة الشك المستمرة منع الجانبين من الاندفاع في الصراع إلى ما وراء خطوط معينة. وجاء ذلك الموقف مطمئناً للزعماء المشاركين في القمة الأخيرة.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

TT

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

روبيو
روبيو

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل فريق سياسة خارجية وأمن قومي «متجانس»، لا يكرّر الأخطاء والصدامات التي خاضها في ولايته الأولى؛ إذ على مدى السنوات الثماني الماضية، جمع ترمب ما يكفي من الموالين، لتعيين مسؤولين من ذوي التفكير المماثل؛ لضمان ألا تواجهه أي مقاومة منهم. ومع سيطرة الحزب الجمهوري - الذي أعاد ترمب تشكيله «على صورته» - على مجلسي الشيوخ والنواب والسلطة القضائية العليا، ستكون الضوابط على سياساته أضعف بكثير، وأكثر ودية مع حركة «ماغا»، مما كانت عليه عام 2017. وهذا يشير إلى أن واشنطن ستتكلّم عن سياستها الخارجية بصوت واحد خلال السنوات الأربع المقبلة، هو صوت ترمب نفسه. لكن وعلى الرغم من أن قدرته على قيادة آلية السياسة الخارجية ستتعزّز، فإن قدرته على تحسين مكانة الولايات المتحدة في العالم مسألة أخرى.

اختار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، السيناتور ماركو روبيو، مرشحاً لمنصب وزير الخارجية، بعد قطع الأخير شوطاً كبيراً في تقديم الولاء له. للعلم، علاقة الرجلين التي بدأت منذ عام 2016، وانتهت بشكل تصادمي بعد هزيمة روبيو في الانتخابات الرئاسية التمهيدية للحزب الجمهوري، تحولت إلى علاقة تحالفية إثر دعم روبيو كل ما قاله وفعله ترمب تقريباً إبّان فترة رئاسته الأولى.

هذا الواقع قد يعزّز تثبيت روبيو في مجلس الشيوخ - الذي يمضي فيه الآن فترته الثالثة - من دون عقبات جدية، في ظل دوره وتاريخه في المجلس، منذ أن فاز بمقعد فيه عام 2010. وحقاً، لاقى اختيار روبيو استحساناً حتى من بعض الديمقراطيين، منهم السيناتور الديمقراطي جون فيترمان، الذي قال إنه سيصوّت للمصادقة على تعيينه. كذلك أشاد السيناتور الديمقراطي مارك وارنر، رئيس لجنة الاستخبارات الحالي، في بيان، بروبيو ووصفه بأنه ذكي وموهوب.

ملف الخارجية للرئيس

روبيو، من جهته، لم يترك شكاً حيال مَن يقرر السياسة الخارجية للولايات المتحدة، عندما قال إن من يحددها، ليس وزير الخارجية، بل الرئيس. وبالتالي فإن مهمة مَن سيشغل المنصب ستكون تنفيذ سياسات هذا الرئيس، وهي تهدف إلى تأمين «السلام من خلال القوة»، ووضع مصالح «أميركا في المقام الأول».

وحقاً، يلخص روبيو رؤيته لأميركا بالقول: «هي أعظم دولة عرفها العالم على الإطلاق، لكن لدينا مشاكل خطيرة في الداخل وتحدّيات خطيرة في الخارج». وأردف: «نحن بحاجة إلى إعادة التوازن لاقتصادنا المحلي، وإعادة الصناعات الحيوية إلى أميركا، وإعادة بناء قوتنا العاملة من خلال تعليم وتدريب أفضل». واستطرد: «لا شيء من هذا سهل، لكن لا يمكننا أن نتحمل الفشل. هذا هو السبب في أنني ملتزم ببناء تحالف متعدّد الأعراق من الطبقة العاملة على استعداد للقتال من أجل هذا البلد والدخول في قرن أميركي جديد».

ولكن من هو ماركو روبيو؟ وما أبرز مواقفه الداخلية والخارجية؟ وكيف أدت استداراته السياسية إلى تحوّله واحداً من أبرز المرشحين للعب دور في إدارة ترمب، بل كاد يكون نائبه بدلاً من جي دي فانس؟

سجل شخصي

ولد ماركو روبيو قبل 53 سنة في مدينة ميامي بولاية فلوريدا، التي يعدّها موطنه. كان والده يعمل نادلاً ووالدته عاملة في أحد الفنادق. وفي حملته الأولى لمجلس الشيوخ، حرص دائماً على تذكير الناخبين بخلفيته من الطبقة العاملة، التي كانت تشير إلى التحوّلات الطبقية التي طرأت على قاعدة الحزب الجمهوري، وتحوّلت إلى علامة انتخابية، مع شعار «فقط في أميركا»، بوصفه ابناً لمهاجرَين كوبيّين... أصبح عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي.

عندما كان في الثامنة من عمره، انتقلت الأسرة إلى مدينة لاس فيغاس بولاية نيفادا، حيث أمضى نحو 6 سنوات من طفولته، بعدما وجد والداه وظائف في صناعة الفنادق المتنامية فيها. وفي سن الرابعة عشرة من عمره، عاد مع عائلته إلى ميامي. ومع أنه كاثوليكي، فإنه تعمّد في إحدى كنائس لطائفة المورمون في لاس فيغاس، غير أنه في فلوريدا كان يحضر القداديس في إحدى الكنائس الكاثوليكية بضاحية كورال غايبلز، وإن كان قد شارك الصلوات سابقاً في كنيسة «كرايست فيلوشيب»، وهي كنيسة إنجيلية جنوبية في ويست كيندال بولاية فلوريدا.

يعرف عن روبيو أنه من مشجعي كرة القدم الأميركية، وكان يحلم بالوصول إلى دوري كرة القدم الأميركي عندما لعب في المدرسة الثانوية، إلا أنه لم يتلق سوى عرضين من كليتين جامعيتين. وبدايةً اختار كلية تاركيو غير المعروفة، التي تقع في بلدة يقل عدد سكانها عن 2000 شخص في المنطقة الشمالية الغربية الريفية من ولاية ميسوري. ولكن عندما واجهت الكلية الإفلاس وتعرّض للإصابة، تخلى روبيو عن كرة القدم وانتقل إلى فلوريدا، ليتخرّج ببكالوريوس في العلوم السياسية في جامعة فلوريدا، ثم في كلية الحقوق بجامعة ميامي.

في عام 1998، تزوّج روبيو من جانيت دوسديبيس، وهي أمينة صندوق سابقة في أحد المصارف، ومشجعة لنادي ميامي دولفينز لكرة القدم الأميركية، وأنجبا أربعة أطفال، وهو يعيش الآن وعائلته في ويست ميامي بولاية فلوريدا. ووفق موقع «أوبن سيكريت. أورغ»، بدءاً من عام 2018، كان صافي ثروة روبيو سلبياً؛ إذ تجاوزت ديونه 1.8 مليون دولار أميركي.

مسيرته السياسية الطموحة

يوم 13 سبتمبر (أيلول) 2005، في سن 34 سنة انتخب روبيو عضواً في مجلس النواب في فلوريدا، وأصبح رئيساً له عام 2006، بعد انسحاب منافسيه دينيس باكسلي وجيف كوتكامب ودينيس روس، ليغدو أول أميركي من أصل كوبي يتولى هذا المنصب، حتى عام 2008.

عام 2010، كان روبيو يُعد مرشحاً ضعيفاً ضد الحاكم (آنذاك) تشارلي كريست لترشيح الحزب الجمهوري لمجلس الشيوخ. وبالفعل، تعرّض لضغوط من قادة الحزب للانسحاب من السباق والترشح بدلاً من ذلك لمنصب المدعي العام، مع وعود من الحزب بإخلاء الميدان له. ويومذاك كتب في مذكراته «ابن أميركي»، قائلاً: «لقد أقنعت نفسي تقريباً بالانسحاب». غير أنه عاد وتمسك بموقفه، وكتب في تلك المرحلة أنه شعر بأنه لا يستطيع التراجع عن كلمته. وبقي في السباق، وفاز بأول فترة له في مجلس الشيوخ، حيث أعيد انتخابه في عام 2016، ثم مرة أخرى في عام 2022.

وعام 2016، دخل روبيو السباق الرئاسي منافساً مجموعة كبيرة من الجمهوريين، منهم دونالد ترمب، وفاز في لاية مينيسوتا، بينما حل السيناتور تيد كروز (من تكساس) ثانياً، وترمب ثالثاً. بعدها كانت انتصاراته الأخرى الوحيدة في واشنطن العاصمة وبورتوريكو. ومن ثم، انسحب بعدما هزمه ترمب في ولايته فلوريدا جامعاً 46 في المائة من الأصوات بينما جاء روبيو ثانياً بنسبة 27 في المائة. وخلال ذلك السباق، تبادل الرجلان الإهانات؛ إذ لقّبه ترمب بـ«ماركو الصغير»، وردّ روبيو بإهانة ترمب ووصفه بأنه «محتال» و«مبتذل». ولكن عندما أعادت قناة «آيه بي سي نيوز» في وقت سابق من هذا العام بث بعض تعليقاته عن ترمب عام 2016، قلل روبيو من أهميتها، بالقول: «كانت حملة». وفعلاً، بعد تولّي ترمب الرئاسة عام 2017، تحسنت علاقاتهما وظل على مقربة منه، حتى بعدما اختار ترمب السيناتور الشاب جي دي فانس (من أوهايو) لمنصب نائب الرئيس. بل سافر روبيو مع ترمب خلال المرحلة الأخيرة من سباق 2024، وألقى خطابات باللغتين الإنجليزية والإسبانية في العديد من التجمعات في اليوم الأخير من الحملة.

لم يترك روبيو شكاً حيال مَن يقرر سياسة واشنطن الخارجية

عندما قال إن من يحددها هو الرئيس... لا وزير الخارجية

سياسات روبيو المحافظة

بدءاً من أوائل عام 2015، حصل روبيو على تصنيف بنسبة 98.67 في المائة من قبل «اتحاد المحافظين الأميركيين»، بناء على سجلّه التصويتي مدى الحياة في مجلس الشيوخ. وعام 2013 كان روبيو السيناتور السابع عشر الأكثر محافظة. ويصنّف مركز سن القوانين الفعالة روبيو باستمرار بين أعضاء مجلس الشيوخ الثلاثة الأكثر فاعلية في الكونغرس.

يُذكر أن روبيو دخل مجلس الشيوخ بدعم قوي من جماعة «حفلة الشاي» التي كانت تمثل اليمين الأكثر محافظة في الحزب الجمهوري. لكن دعمه في عام 2013 لتشريع الإصلاح الشامل للهجرة بهدف توفير مسار للحصول على الجنسية لـ11 مليون مهاجر غير موثق في أثناء تنفيذ تدابير مختلفة لتعزيز الحدود الأميركية، أدى إلى انخفاض دعمهم له. وللعلم، رغم تمرير ذلك المشروع في مجلس الشيوخ، أسقطه المتشددون في مجلس النواب.

ثم، بمرور الوقت، نأى روبيو بنفسه عن جهوده السابقة للتوصل إلى «حل وسط» بشأن الهجرة؛ كالعديد من مواقفه الداخلية والخارجية التي عُدّت سبباً رئيساً لتغير علاقة ترمب به؛ إذ اعتمد مواقف أكثر تشدداً بشأن الهجرة، ورفض مساعي الحزب الديمقراطي إزاء ملف الهجرة منذ عام 2018 وحتى 2024.

في مارس (آذار) 2016، عارض روبيو ترشيح الرئيس باراك أوباما للقاضي ميريك غارلاند للمحكمة العليا، متذرعاً «لا أعتقد أنه يجوز لنا المضي قدماً بمرشح في العام الأخير من ولاية هذا الرئيس. أقول هذا، حتى لو كان الرئيس جمهورياً». لكنه في سبتمبر (أيلول) 2020، إثر وفاة القاضية الليبرالية روث بايدر غينزبيرغ، أشاد روبيو بترشيح ترمب للقاضية المحافظة إيمي باريت للمحكمة، وصوّت لتثبيتها في 26 أكتوبر (تشرين الأول)، قبل 86 يوماً من انتهاء ولاية ترمب الرئاسية.

أيضاً في مارس 2018، دافع روبيو عن قرار إدارة ترمب بإضافة سؤال الجنسية إلى تعداد عام 2020. ورجح الخبراء يومها أن يؤدي إدراج هذا السؤال إلى نقص حاد في تعداد السكان وبيانات خاطئة؛ إذ سيكون المهاجرون غير المسجلين أقل استعداداً للاستجابة للتعداد.

وحول الميزانية الفيدرالية، يدعم روبيو مع إعطاء الأولوية للإنفاق الدفاعي، ويرفض الإجماع العلمي بشأن تغير المناخ، الذي ينص على أن تغير المناخ حقيقي ومتقدم وضار وينجم في المقام الأول عن البشر. كذلك يعارض روبيو قانون الرعاية الميسرة (أوباما كير) وقد صوّت لإلغائه رغم فشل المحاولة. وهو معارض صريح للإجهاض، وقال إنه سيحظره حتى في حالات الاغتصاب وزنا المحارم، مع استثناءات إذا كانت حياة الأم في خطر.وأخيراً، يدعم روبيو تحديد ضرائب الشركات بنسبة 25 في المائة، وتعديل قانون الضرائب، ووضع حد أقصى للتنظيمات الاقتصادية، ويقترح زيادة سن التقاعد للضمان الاجتماعي بناءً على متوسط العمر المتوقع الأطول. ويعارض المعايير الفيدرالية الأساسية المشتركة للتعليم، كما يدعو إلى إغلاق وزارة التعليم الفيدرالية.