ما لقمة «السبعة الكبار»... وما عليها

استشراف مشاكل العالم على شاطئ الأطلسي

ما لقمة «السبعة الكبار»... وما عليها
TT

ما لقمة «السبعة الكبار»... وما عليها

ما لقمة «السبعة الكبار»... وما عليها

تشتهر مدينة بياريتز الساحلية الصغيرة في أقصى جنوب غربي فرنسا، بأنها قبلة أنظار هواة ركوب الأمواج في القارة الأوروبية. وهي تستضيف كل عام بطولة ركوب الأمواج العالمية التي يحضرها أبطال تلك الرياضة من مختلف بلدان العالم لركوب أعلى وأخطر موجات المحيط الأطلسي على سواحلها. وهؤلاء يمارسون تلك الرياضة بأسلوب «المحاكاة»، حيث يبدو وأنهم يلمسون قمم الموجات بألواح الركوب الملساء في وثبات رشيقة. في الأسبوع الماضي، استعان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالأسلوب لاستضافة الدورة الـ45 من «قمة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى» (السبعة الكبار) التي تضم قادة الدول الصناعية الكبرى: الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، وكندا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، خلال يومين من المباحثات والمناقشات وتبادل الآراء والأفكار حول عدد من القضايا ذات الاهتمام العالمي المشترك. وبالمقارنة، مع قمة العام الماضي، التي عقدت في كندا وانتهت بفوضى واضحة وجملة من الاتهامات المتبادلة، يبدو أن قمة بياريتز الفرنسية مرت في سلاسة وهدوء. حتى أن بعض المحللين رأوا أن نجاح القمة يمكن إضافته إلى قائمة الإنجازات الدبلوماسية للرئيس الفرنسي الشاب.
فإذا كان هذا هو الحال، فما هو السر الكامن وراء نجاح هذه القمة؟

لعل السبب الرئيس في قيادة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قمة «السبعة الكبار» إلى النجاح هو أنه رتب ونظم الفعالية بأكملها بأسلوب يسمح للزعماء المشاركين بتصفح واستعراض القضايا العالمية ذات الأهمية، لكن من دون الاستغراق فيها فعلياً. وفي القضايا التي استشعر فيها احتمال نشوب الصدام، كما هو الحال دوماً مع قضية التغييرات المناخية الشائكة، فإنه جعل حضور المداولات اختيارياً بين القادة؛ الأمر الذي أتاح للرئيس الأميركي دونالد ترمب، المعارض الكبير لقضية التغييرات المناخية منذ فترة ليست بالقصيرة، النأي بنفسه والبقاء بعيداً عن تلك السجالات.
مع هذا، وإقراراً بالحقيقة، فإن قمم «السبعة الكبار» تفتقر فعلاً لأي آلية معنية بتنفيذ القرارات والتوصيات ووضعها حيز التنفيذ. وهنا أيضاً، قرر الرئيس الفرنسي أيضاً ألا يصدر عن قمة العام الحالي أي بيانات ختامية تستعرض القرارات التي اتخذها القادة في بياريتز. وكان هذا على النقيض مما اعتادت عليه قمم المجموعة خلال السنوات السابقة التي تمخضت عنها بيانات ختامية رصينة و«سميكة»، لكنها لم تتجاوز مجال القول إلى محيط الفعل.
أيضاً قفز الرئيس ماكرون برشاقته المعهودة فوق تقليد المؤتمرات الصحافية الجماعية، المقصود منها التقاط الصور الجماعية لقادة دول القمة تأكيداً على التناغم والوئام السياسي العالمي. أما المؤتمر الصحافي الذي نظمه ماكرون في ختام أعمال القمة فكان يتألف من شخصيتين اثنتين فقط، هما إيمانويل ماكرون ودونالد ترمب ليس إلا. لكن الأهم من ذلك، ربما، أن الأسئلة التي طُرحت خلال المؤتمر الصحافي الختامي الثنائي كانت مصممة بأسلوب يسهل على الرئيسين الفرنسي والأميركي المراوغة وتفادي نقاط الحرج بكل سلاسة.

ظريف... الحركات الشعبوية
كان ماكرون قد وجّه الدعوة إلى قادة عدد من الدول النامية لحضور فعاليات القمة الكبرى؛ في محاولة منه لإضفاء نوع من التجديد على مجريات القمة الرصينة. وفي لمحة جانبية واضحة، دعا الرئيس الفرنسي وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف إلى تناول كأس من عصير البرتقال وفنجان قهوة.
ويبدو أن قمة بياريتز الأخيرة قد أماطت اللثام عن بعض توقعات المحللين المعلن عنها منذ فترة طويلة، وفي مقدمها نهاية التقاليد التي بدأت عقب فترة وجيزة من نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي، وفقاً لها، لاحظت البلدان الديمقراطية الغربية، بالإضافة إلى اليابان، وجود قدر من التوافق في التعاطي مع القضايا العالمية الرئيسية. ولعل لهذا التوافق جذوره الآيديولوجية ضمن القيم الليبرالية العريضة في سياق الصراع العالمي المشترك ضد الشيوعية، كما في صيغها المتنوعة الأخرى على صعيد المنافسة... وليس الخصومة أو العداء.

اهتزاز التوافق... في ظل المعوقات
لقد بيّنت قمة بياريتز الفرنسية أن حالة التوافق الطويلة الأمد التي استمرت قرابة ستة عقود منذ نهاية الحرب الكبرى، وتمخّضت عن احترام القيم المشتركة واعتماد المقاربات المتماثلة إلى درجة ما حيال السياسات، ما عادت من قبيل المُسلّمات داخل المعسكر الغربي الكبير. وفي حين أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وربما الرئيس ماكرون نفسه بصورة من الصور، ما زالا يمثلان القيم والتقاليد الليبرالية القديمة مع أنماط العمل وتناول المشاكل المتشابهة، فهذا لا ينطبق بالضرورة على الآخرين. إذ كان دونالد ترمب، جنباً إلى جنب مع رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي - الذي يفضل وصفه بلقب «عدو النخبة» - فضلاً عن بوريس جونسون، يدافعون أيما دفاع عن صبغات الحركات الشعبوية الجديدة المتلونة التي وصلت إلى سدة الحكم في الهند والبرازيل والمجر وبولندا.
كذلك، بين «المعوّقات» التي ظهرت خلال القمة كان التراجع الملحوظ لدور الاتحاد الأوروبي بصفته لاعباً دولياً ذا ثقل معتبر، وخوض بريطانيا حرباً لا عنفية بشأن خروجها من أسرة الاتحاد الأوروبي. وبصرف النظر عن هوية الطرف المنتصر في نهاية هذه الحرب، من غير المرجح لبريطانيا أن تستعيد الوضعية نفسها التي كانت تحتلها داخل الاتحاد أو في جواره.
ثم هناك ألمانيا، التي تدخل سياسياً نفق المجهول مع إعلان أنجيلا ميركل تقاعدها الوشيك عن منصبها الرفيع، مقابل الصعود المقلق لجماعات اليمين المتطرف في البلاد... فضلاً عن التباطؤ الاقتصادي الواضح.
ولدينا، أيضاً، إيطاليا المستعصية على الحكم في أفضل فترات تاريخها المعاصر، لكنها اليوم غارقة في حالة من الفوضى السياسية العارمة بسبب طموحات زعيم اليمين المتشدد ماتيو سالفيني الجامحة.
وهكذا، أقله على السطح، يبدو إيمانويل ماكرون الزعيم الأوروبي الوحيد الذي ما زال يحظى بسلطات راسخة في إدارة بلاده، ومن ثم فهو يحمل واجب المطالبة بزعامة الاتحاد الأوروبي بأسره. لكن، مع ذلك، تعاني قاعدة ماكرون الانتخابية من اهتزازات شديدة في حين تتصاعد فيها شعبية الحركات الشعبوية من تياري اليمين واليسار على السواء في الداخل الفرنسي.

ترمب وجونسون
على نهاية الطرف الآخر من الطيف السياسي، قد يبدو كل من دونالد ترمب وبوريس جونسون يعانيان من الضعف لأسباب مختلفة. فعلى الرغم من حقيقة أن الصراع داخل الحزب الديمقراطي الأميركي من الفوضى الشديدة بفعل الصراع السياسي القائم بين الليبراليين المعتدلين التقليديين ومنافسيهم الشعبويين الجدد من تيار اليسار، ليس محسوماً بعد أن يتمكن ترمب من تحقيق الفوز بولاية رئاسية ثانية. ذلك أنه من شأن أي تراجع اقتصادي كبير حرمان ترمب من بطاقة الفوز الذهبية.
أما بالنسبة لجونسون، فإنه قد يخسر تصويتاً بحجب الثقة في البرلمان البريطاني مطلع الشهر المقبل، وبالتالي يغدو رئيس الوزراء الأقصر حكماً في تاريخ الحكومات البريطانية.
ولكن ماذا عن جاستن ترودو، رئيس وزراء كندا، وسجله من الزلات السياسية المتعددة التي تجعله بنظر كثيرين مفتقراً إلى المقومات اللازمة ليصبح زعيماً عالمياً. وهذا ما يترك رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي «الزعيم» الأقوى بين القادة «السبعة الكبار»، والأرسخ أقداماً، والمرشح للاستمرار خلال السنوات القليلة المقبلة. لكن هنا، أيضاً، يجب القول إن اليابان تفتقر إلى خبرات اللعب السياسي على الصعيد العالمي، وربما إلى قدر معتبر من الطموح كذلك، يدفعها إلى السعي لبناء الزعامة العالمية استناداً إلى قوتها الاقتصادية الهائلة.

قضيتا الإنترنت والبيئة
كانت مجموعة «السبع الكبرى» في بدايتها مثل الجداول الصغيرة التي تصب لاحقاً في نهر كبير يعرفه الجميع باسم «النظام العالمي». غير أن قمة بياريتز الأخيرة عكست صورة تفيد بأن تلك الجداول – أو الروافد – باتت تتدفق بعيدة عن ذلك النهر القديم. ومع ذلك، خاض القادة في القمة الأخيرة بكثير من المقترحات الخاصة باستعراض الكثير من القضايا. ووافقوا على اتخاذ تدابير تتعلق بإمبراطوريات الإنترنت العالمية، ربما عن طريق إخضاعها للرقابة والتنظيم وفرض الضرائب عليها. والمجال مفتوح لتخمينات الجميع بشأن كيفية تنفيذ ذلك؛ إذ يتوجب على كل الأطراف المشاركة طرح مخططات العمل للحكومات المعنية والهيئات التشريعية المتفرعة عنها.
أيضاً، أكدت الجلسة الخاصة بقضايا البيئة، التي تغيّب عنها الرئيس الأميركي مختاراً، الرغبة الراسخة في تأييد «اتفاقيات باريس» المناخية، مع أنه يصادَق عليها من خلال برلمانات الدول المعنية. والآمال الراهنة في أن تغير الولايات المتحدة رأيها بشأن الاتفاقيات؛ ما قد يدفع ترمب أو أي إدارة أميركية مقبلة للموافقة عليها، ليست إلا آمالاً معقودة في الخيال.
في سياق متصل، يمكن وصف محاولة القمة الأخيرة فعل شيء بشأن الحرائق الرهيبة التي عصفت بغابات الآمازون في البرازيل، بأنها مجرد خطوة شكلية. وكان الرئيس البرازيلي جاير بولسونارو قد أعرب عن «سخط شعبه» رافضاً مبلغ 10 ملايين دولار قدمته قمة بياريتز ضمن حزمة المساعدات المقدرة بنحو 20 مليون دولار لصالح البلدان المتاخمة لغابات الآمازون.
وحسب البعض، يرى أكثر من 100 مليون شخص ممن يعيشون داخل غابات الآمازون المطيرة وحولها أن تطوير الموارد الطبيعية، المحفوف بالكثير من المخاطر البيئية، هو السبيل الوحيد للهرب من حياة الفقر المدقع التي يعيشونها. هؤلاء يتحدث الرئيس البرازيلي اليميني المتشدد بالنيابة عنهم، ولا سيما عندما يتهم البلدان الغنية بإطلاقها القسط الأكبر من الانبعاثات الكربونية في العالم... في حين يطالبون أميركا الجنوبية بالتزام الفقر والعوز من أجل حماية ما يطلق عليه الأوروبيون «رئة العالم» في غابات الآمازون.

الصين... الحاضر الغائب!

> كانت الصين حقاً «الحاضر الغائب» في قمة بياريتز. ولعل الأمر كان يهدف لتهدئة المخاوف الأوروبية من حرب الرسوم الجمركية العالمية التي لمح الرئيس دونالد ترمب إلى تخفيف حدتها مع الصين بشأن العجز التجاري، وتخفيض قيمة العملة، وتكتيكات الإغراق التام. ولن ينطلق صوب التراجع والإذعان الآن، لكنه سيعيد تقييم الاستراتيجية بشأن القتال المتعدد الجوانب مع الصين بدلاً من محاولة خوض جولة واحدة من القتال بالضربة القاضية.
لا شك أن كلاً من الولايات المتحدة والصين في حاجة ماسة إلى بعضهما بعضاً. لكن السؤال هو: من يحتاج إلى الآخر أكثر؟
إن من شأن حالة الشك المستمرة منع الجانبين من الاندفاع في الصراع إلى ما وراء خطوط معينة. وجاء ذلك الموقف مطمئناً للزعماء المشاركين في القمة الأخيرة.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.