تكليف جوزيبي كونتي تشكيل حكومة جديدة في إيطاليا

تنتظرها ملفات معقّدة أبرزها إعداد قانون الموازنة العامة وترميم العلاقات المتدهورة مع الاتحاد الأوروبي

TT

تكليف جوزيبي كونتي تشكيل حكومة جديدة في إيطاليا

في وقت متأخر من ليلة الأربعاء، وصلت إلى مكتب رئيس الجمهورية الإيطالية سرجيو ماتّريلّا، مسودّة الاتفاق النهائي بين حركة النجوم الخمس والحزب الديمقراطي لتشكيل حكومة ائتلافية، يقودها رئيس الوزراء المستقيل جيوزيبي كونتي. وفي الساعات الأولى من صباح أمس تبلغ كونتي من ماتّاريلّا تكليفه تشكيل الحكومة الجديدة، التي يفترض أن تغيّر مسار السياسة الإيطالية لتعيده نحو الاتجاه الأوروبي، الذي ابتعدت عنه منذ تشكيل الحكومة السابقة مطلع الصيف الماضي.
ويبدو أن الخاسر الأكبر في هذه الأزمة، التي اندلعت مطلع هذا الشهر هو زعيم حزب «الرابطة» ووزير الداخلية ماتّيو سالفيني، الذي تقدّم بطلب لحجب الثقة عن رئيس الوزراء، مطالباً بإجراء انتخابات فورية، والذي حاول حتى اللحظة الأخيرة إقناع «النجوم الخمس» بالعودة إلى الصيغة الائتلافية السابقة لكن دون جدوى.
وتجلّت في الأسبوعين الماضيين روعة التقلّبات التاريخية، التي اشتهرت بها السياسة الإيطالية منذ تأسيس الجمهورية الأولى نهاية الحرب العالمية الثانية. فماتّيو سالفيني، الرجل الذي كان سيّد المشهد السياسي الإيطالي، وعبقري منصّات التواصل الاجتماعي، أهدر كامل رصيده عندما فجّر الأزمة الحكومية وهو يتنزّه على الشواطئ خلال عطلته الصيفية. في حين أن ماتّيو رنزي رئيس الوزراء الديمقراطي الأسبق، وبيبي غريلّو الفكاهي الذي أسّس حركة النجوم الخمس، قرّرا إعلان الهدنة في خصومتهما العميقة، واتفقا على تمهيد الطريق لتشكيل حكومة جديدة، لم تكن واردة في حسابات أحد منذ أسابيع قليلة، وسوف تؤرخ لبداية انحدار سريع لزعيم «الرابطة»، الذي كان قاب قوسين من النجومية المطلقة. أما جيوزيبي كونتي، المحامي المغمور الذي وصل إلى رئاسة مجلس الوزراء منتصف العام الماضي بفعل مقايضات لا يعرف سرّها سوى المتمرسين في شعاب السياسة الإيطالية، فسيعود ليرأس الحكومة الجديدة.
وبموجب الاتفاق الذي قُدّم إلى رئيس الجمهورية سيكون أمام الرئيس المكلّف بضعة أيام للتفاوض مع طرفي الائتلاف حول توزيع الحقائب الوزارية في الحكومة الجديدة، التي تنتظرها استحقاقات معقّدة، مثل إعداد قانون الموازنة العامة، وتصويب العلاقات المتدهورة مع الاتحاد الأوروبي.
ومما لا شك فيه أن كونتي هو الرابح الأكبر في هذا الصيف الإيطالي المضطرب، وسوف ينضمّ إلى القافلة الصغيرة لرؤساء الحكومات الذين تولّوا المنصب أكثر من مرة، مثل جيوليو آندريوتي الذي رأس الحكومة سبع مرات، وسيلفيو برلوسكوني الذي رأسها أربع مرات. لكن البارز في مسار كونتي أنه وصل إلى رئاسة الحكومة في العام الماضي من دون أي تجربة سياسية سابقة، وأمضى ولايته التي انتهت منذ أيام ينفّذ أوامر طرفي الائتلاف الحاكم.
وتقول أوساط مقرّبة من كونتي إنه عازم في ولايته الجديدة على أن يكون دوره مختلفاً عن الولاية السابقة، وأنه يريد دوراً أكبر في عملية اتخاذ القرار ورسم سياسة الحكومة، خصوصاً فيما يتعلّق باختيار فريق الدائرة الضيّقة حوله، بعد أن اضطر في الماضي إلى قبول ما فُرض عليه من حركة «النجوم الخمس» وحزب «الرابطة».
ويرى مراقبون أن الدور الجديد الذي يتطلع إليه كونتي من شأنه أن يثير قلق زعيم «النجوم الخمس» لويجي دي مايو أكثر من غيره، بعد أن تراجعت أسهمه القيادية داخل الحركة في الفترة الأخيرة. كما يرجّح المراقبون أن يصرّ الحزب الديمقراطي على الاكتفاء بنيابة واحدة لرئيس الوزراء، بدل الاثنتين في الحكومة السابقة، وأن تكون هذه من نصيبهم على اعتبار أن كونتي محسوب على الحركة، رغم عدم انتسابه إليها.
ويطمح الحزب الديمقراطي إلى تغيير جذري في مجلس الوزراء عن طريق الحصول على حقائب أساسية، مثل الاقتصاد والداخلية. وقد كان الأمين العام للحزب نيكولا زينغاريتّي، قد أعلن بعد لقائه الأخير مع رئيس الجمهورية أنهم قبلوا بتولّي كونتي رئاسة الحكومة الجديدة. لكن شريطة «أن تضع حدّاً لمرحلة الحقد التي أطلقها سالفيني». وكان دي مايّو قد فتح النار مجدداً على شريكه السابق في الحكم ماتّيو سالفيني، واتهمه بالسعي وراء مصالحه الخاصة على حساب المصلحة الوطنية، وكشف أن زعيم «الرابطة» عرض عليه مؤخراً أن يتولّى هو رئاسة الحكومة، مقابل العودة إلى الائتلاف الحكومي السابق. وقال دي مايّو: «60 مليون إيطالي عاشوا هذا الصيف في حال من القلق العميق حول مصيرهم، عندما هبطت عليهم أزمة افتعلها حزب سياسي حاول أن يغدر برئيس الحكومة. ثمّة فئتان بين أهل السياسة: مَن يرسمها، ومن يحاول الاستفادة منها».
وحاول زعيم «النجوم الخمس» في تصريحاته الأخيرة استباق الانتقادات المتوقعة في صفوف الحركة للاتفاق مع الحزب الديمقراطي قائلاً: «لسنا من اليسار ولا من اليمين... ولا توجد حلول يمينية أو يسارية. إنها البرامج والمواضيع والقرارات التي ترسم السياسات وتطرح الحلول».
أما سالفيني، صاحب المناورة الانتحارية التي أدّت إلى سقوط الحكومة التي كان يمسك بزمامها، فقد ذهب في تصريحاته الأخيرة حدّ القول إن الأزمة هي وليدة مؤامرة حيكت خيوطها في باريس وبرلين وبروكسل، مضيفاً إثر لقائه الأخير مع رئيس الجمهورية: «ثمّة مخطط يأتي من بعيد... من خارج إيطاليا لبيع مستقبل البلاد لسلطات غير إيطالية».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟