هادي العامري زعيم منظمة بدر.. بين رضا أميركا وإيران

أجبرته «داعش» على ترك وزارته والتوجه لميادين القتال

هادي العامري زعيم منظمة بدر.. بين رضا أميركا وإيران
TT

هادي العامري زعيم منظمة بدر.. بين رضا أميركا وإيران

هادي العامري زعيم منظمة بدر.. بين رضا أميركا وإيران

عندما أصبح زعيم منظمة بدر، هادي العامري، وزيرا للنقل في حكومة نوري المالكي الثانية (2010 - 2014)، لم يجد من يعترض عليه؛ لا من الطبقة السياسية ولا من اللاعبين الدوليين الكبار. والأسباب التي تقف خلف ذلك معروفة؛ ومن أهمها أن تلك الحكومة التي تشكلت بموجب اتفاقية أربيل وبعد شلل في الحياة البرلمانية والسياسية بعد الانتخابات استمر نحو 8 أشهر - كانت اليد الطولى في تشكيلها آنذاك لإيران رغم ثقل الوجود الأميركي، حيث لم يكن الأميركيون انسحبوا بعد. لكنهم وفي سياق استعداداتهم للانسحاب وعدم حماس الرئيس الأميركي باراك أوباما لأن تتدخل إدارته في تفاصيل الطبخة السياسية - لم يكن تدخلهم على مستوى «الفيتو» ضد هذا أو مع ذاك، بل كان كل ما كانوا طلبوه هو رفع الاجتثاث عن هذا القيادي أو ذاك ومنح زعيم «العراقية» إياد علاوي، الذي وضعت عليه إيران فيتو بعد تولي رئاسة الوزارة رغم فوز قائمته الأولى بواقع 91 مقعدا مقابل 89 لـ«دولة القانون» بزعامة نوري المالكي، دورا مستقبليا من خلال مجلس السياسات العليا الذي لم ير النور.
هذه المرة بدت الأمور مختلفة. فالتحدي الذي مثله «داعش» أجبر هادي العامري على ترك وزارته (النقل) والتوجه إلى ميادين القتال كجزء من عملية الحشد الشعبي، حيث كان لقوات بدر التي يتزعمها دور بارز في فك حصار آمرلي - المدينة ذات الغالبية التركمانية الشيعية. وفي الوقت نفسه، فإن تحدي «داعش» أجبر في مقابل ذلك كلا من إيران والولايات المتحدة الأميركية على إعادة النظر في استراتيجيهما في العراق. أميركا عادت بقوة وعلى كل المستويات السياسية والعسكرية، وإيران وجدت نفسها كأنها جزء من المشكلة التي وصل إليها العراق عندما راهنت طوال السنوات الماضية على زعامة نوري المالكي. كل ما عملته إيران على صعيد التعامل مع قضية المالكي؛ هي أنها - طبقا لما يقوله الأكاديمي ورجل الدين الشيعي عبد الحسين الساعدي في حديث لـ«الشرق الأوسط» - «رمت الكرة في ملعب المرجعية الدينية العليا في النجف وبالذات المرجع الأعلى آية الله علي السيستاني، حيث إن المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي الذي يقلده عدد من رجال السياسة في العراق - ومنهم السيد هادي العامري نفسه - نأى بنفسه عن قضية ما عرف بالولاية الثالثة للمالكي عندما وجد أن هناك شبه إجماع على ضرورة التغيير وأن هذا التغيير بدت تتصدى له المرجعية». ويضيف الساعدي أن «إيران، وبالذات خامنئي - الذي يستطيع معارضة أميركا علنا وبقوة، لكنه لا يجد مصلحة في معارضة أكبر مرجع شيعي بالعراق، وحتى في إيران حيث إن مقلدي السيستاني هناك أكثر من مقلدي مرشد الثورة الإسلامية نفسه، لذلك فقد تم سحب البساط من المالكي، وهو ما ترك تأثيراته بالغة الأهمية على بعض كبار حلفائه من مقلدي خامنئي لا السيستاني وهو هادي العامري الذي حصلت كتلته النيابية (بدر) على 22 مقعدا في الانتخابات في إطار (دولة القانون)». ويضيف الساعدي أن «موقف العامري الذي بدا رجراجا من لحظة إزاحة المالكي عن طريق حزب الدعوة نفسه وبمؤازرة قوى أساسية داخل التحالف الشيعي مثل حسين الشهرستاني وإبراهيم الجعفري وحيدر العبادي، فضلا عن حزب الفضيلة والمجلس الأعلى والتيار الصدري، حيث لم يكن للعامري موقف مع هؤلاء أو ضدهم حين جرى تكليف العبادي تشكيل الحكومة».

* الاستحقاق الصعب
* خرج العامري من وزارة النقل وعينه على ثاني أهم حقيبة في الحكومة وهي الداخلية، بعد أن أصر «تحالف القوى العراقية» السنية على الاحتفاظ بحقيبة الدفاع. ومع أن كلتا الحقيبتين لا تزال شاغرة، فإن السبب الرئيس وراء ذلك هو الخلافات الشيعية - الشيعية بشأن من يتولى هذه الحقيبة. فالداخلية من حيث لوازم الاستحقاق الانتخابي هي من حصة «دولة القانون»، وبالذات منظمة بدر. وطبقا لقيادي شيعي بارز أوضح لـ«الشرق الأوسط»، شريطة عدم الإشارة إلى اسمه، أن «هناك أزمة داخل (التحالف الوطني)، بات عنوانها العريض وزارة الداخلية والسيد العامري، الذي تصر كتلته على منحها هذه الوزارة رغم أنها تعرف أن هناك فيتو أميركي واضح على العامري وعلى قادة الميليشيات». ويضيف القيادي الشيعي أن «هناك خلافات مركبة داخل (التحالف الوطني)، سواء داخل (دولة القانون) التي تميل بعض قياداتها، وفي المقدمة منهم زعيم الائتلاف نوري المالكي، إلى منح الداخلية للعامري، رغم درايتهم أن الفيتو الأميركي لا يمكن هذه المرة تخطيه، بينما ترى قيادات في (الدعوة) تسند العبادي أن من غير الممكن منح (الداخلية) للعامري ولـ(بدر)، وهو ما جعلهم يرشحون رياض غريب، الذي فشل في نيل الثقة داخل البرلمان». ويؤكد القيادي الشيعي أن «المجلس الأعلى الإسلامي والتيار الصدري بدأوا يميلون الآن إلى منح (الداخلية) للعامري و(بدر)، لا سيما بعد أن بدا أن أميركا تريد معاقبة القوى والميليشيات الشيعية المرتبطة بإيران أو المؤيدة من قبلها، لا سيما أن أميركا بدا أنها لا تريد لإيران دورا في استراتيجية مواجهة (داعش)، وهو ما يعني ضمنا نزع الغطاء عن كل القوى والحركات السياسية التابعة للإسلام السياسي الشيعي التي ترى في إيران امتدادا لها بشكل أو بآخر». وطبقا لهذه الرؤية التي يرسمها القيادي الشيعي، فإن «دولة القانون»، وبتأييد من هذه القوى، لا تزال تصر على منح العامري هذه الحقيبة رغم الفيتو الأميركي ورغم إعلان قيادات من «بدر» أن الأميركان لم يعودوا يعارضون العامري. وبما أن الأمر غير صحيح، فإنه بمثابة رسالة ضمنية للأميركان بأن العامري لن يتقاطع معكم في حال أصبح وزيرا للداخلية. لكنه واستنادا إلى التقاطع الحاد بين الرؤيتين الأميركية والإيرانية بشأن «داعش» والأزمة العراقية، فإن رضا الطرفين بات غاية لا تدرك.

* بلا ربطة عنق
* لا يفضل هادي العامري ارتداء رابطة العنق. ورغم أنه شوهد أكثر من مرة وخاصة زياراته الخارجية حين أصبح وزيرا للنقل وهو يرتدي رابطة العنق، فإن خصومه غالبا ما يربطون بين عدم ارتدائه رابطة العنق وميوله الإيرانية. مع ذلك، فإن العامري الذي يفضل مناداته بالحاج أبو حسن على أي تسمية أخرى يعتد بتاريخه بمقارعة النظام السابق بوصفه قائد الجناح العسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي تأسس في إيران أوائل ثمانينات القرن الماضي بزعامة محمد باقر الحكيم والذي يسمى «بدر». وخلال الحرب العراقية - الإيرانية، قاتل «فيلق بدر»، مثلما هي تسميته خلال الحرب، إلى جانب القوات الإيرانية بهدف إسقاط نظام صدام حسين؛ فإنه وبعد احتلال العراق عام 2003 من قبل الولايات المتحدة الأميركية جرى تغيير تسمية «فيلق» بدر إلى «منظمة بدر»، وشملت بقانون دمج الميليشيات الذي أصدره الحاكم المدني الأميركي بول بريمر. ومن ثم، جرى الإعلان عن تحويل «بدر» إلى منظمة سياسية في إطار «المجلس الأعلى» الذي تغيرت تسميته من «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» إلى «المجلس الأعلى الإسلامي» بزعامة عمار الحكيم. غير أن العامري، وعلى أثر تعليمات قيل إنها صدرت من قبل مرشد الثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي إلى هادي العامري بالانفصال عن «المجلس الأعلى الإسلامي» والانضواء في إطار «دولة القانون» التي يتزعمها نوري المالكي. خلال السنوات الأخيرة، تحولت منظمة بدر التي يتزعمها العامري إلى رقم صعب في العملية السياسية، وقد حصلت على 22 مقعدا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، مطالبة بوزارة الداخلية ولزعيمها العامري حصرا.

* التهمة الدائمة
* عندما أصبح وزيرا للنقل، لم ينسلخ العامري من جلده الذي يبدو «ميليشياويا» بالنسبة لخصومه، الذين يرفعون حتى اليوم فيتو على توليه منصب وزارة الداخلية. هذا الفيتو وصل إلى واشنطن، التي يبدو إنها ضغطت بما فيه الكفاية على رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي لا يزال صامدا أمام كل الضغوط الداخلية (ضغوط «التحالف الوطني» ومنها «دولة القانون») والضغوط الخارجية (الضغوط الإيرانية) بتولية العامري الداخلية، وهو ما يعني أن الضغوط الأميركية وضغوط الأطراف الأخرى، لا سيما قوى التحالف السني هي الأشد بعدم تولية العامري هذه الوزارة. وفي هذا السياق، تقول عضو البرلمان العراقي عن ائتلاف «الوطنية» ميسون الدملوجي، إن ائتلافها يرفض «تسلم العامري حقيبة الدفاع، لأنه يرأس ميليشيا مسلحة، وأنه شخص غير مناسب لشغل حقيبة مهمة مثل الدفاع، مطالبة بتسليم الوزارة إلى شخصية مستقلة ومن ذوي الاختصاص». الأمر نفسه عندما جرى تغيير العامري من «الدفاع» إلى «الداخلية»، حيث يرى «تحالف القوى السنية»، وعلى لسان القيادي فيه محمد الخالدي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «الحاجة باتت ماسة لأن يجري وضع حد للميليشيات التي هي الوجه الآخر للإرهاب، ومن ثم فإن منح حقيبة مهمة مثل (الداخلية) إلى زعماء الميليشيات يعني أن نقرأ السلام على ما تبقى من العراق». العامري نفسه أدرك على ما يبدو أن القضية باتت أكبر من العبادي. ومع أنه لم يستسلم إلا أنه وجه رسالة عتاب قاسية إلى العبادي، فضح فيها ما عده تهالكا مخزيا لقوى «التحالف الوطني» على المناصب. وبدت رسالة العامري العتابية متناقضة؛ فهو في الوقت الذي يعتذر عن قبول منصب نائب رئيس الوزراء بدلا من «الداخلية»، فإنه يقول في نص الرسالة إنه لو كان يبحث عن منصب «لبقيت في وزارتي، وزارة النقل التي هي وزارة محترمة ولدي تجربة وخبرة فيها» على حد قوله، كأنه يريد القول إن منصب نائب رئيس الوزراء هو من مناصب الترضية مثله في ذلك مثل منصب نائب رئيس الجمهورية، لا أهمية لها ولا صلاحيات.



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.