هادي العامري زعيم منظمة بدر.. بين رضا أميركا وإيران

أجبرته «داعش» على ترك وزارته والتوجه لميادين القتال

هادي العامري زعيم منظمة بدر.. بين رضا أميركا وإيران
TT
20

هادي العامري زعيم منظمة بدر.. بين رضا أميركا وإيران

هادي العامري زعيم منظمة بدر.. بين رضا أميركا وإيران

عندما أصبح زعيم منظمة بدر، هادي العامري، وزيرا للنقل في حكومة نوري المالكي الثانية (2010 - 2014)، لم يجد من يعترض عليه؛ لا من الطبقة السياسية ولا من اللاعبين الدوليين الكبار. والأسباب التي تقف خلف ذلك معروفة؛ ومن أهمها أن تلك الحكومة التي تشكلت بموجب اتفاقية أربيل وبعد شلل في الحياة البرلمانية والسياسية بعد الانتخابات استمر نحو 8 أشهر - كانت اليد الطولى في تشكيلها آنذاك لإيران رغم ثقل الوجود الأميركي، حيث لم يكن الأميركيون انسحبوا بعد. لكنهم وفي سياق استعداداتهم للانسحاب وعدم حماس الرئيس الأميركي باراك أوباما لأن تتدخل إدارته في تفاصيل الطبخة السياسية - لم يكن تدخلهم على مستوى «الفيتو» ضد هذا أو مع ذاك، بل كان كل ما كانوا طلبوه هو رفع الاجتثاث عن هذا القيادي أو ذاك ومنح زعيم «العراقية» إياد علاوي، الذي وضعت عليه إيران فيتو بعد تولي رئاسة الوزارة رغم فوز قائمته الأولى بواقع 91 مقعدا مقابل 89 لـ«دولة القانون» بزعامة نوري المالكي، دورا مستقبليا من خلال مجلس السياسات العليا الذي لم ير النور.
هذه المرة بدت الأمور مختلفة. فالتحدي الذي مثله «داعش» أجبر هادي العامري على ترك وزارته (النقل) والتوجه إلى ميادين القتال كجزء من عملية الحشد الشعبي، حيث كان لقوات بدر التي يتزعمها دور بارز في فك حصار آمرلي - المدينة ذات الغالبية التركمانية الشيعية. وفي الوقت نفسه، فإن تحدي «داعش» أجبر في مقابل ذلك كلا من إيران والولايات المتحدة الأميركية على إعادة النظر في استراتيجيهما في العراق. أميركا عادت بقوة وعلى كل المستويات السياسية والعسكرية، وإيران وجدت نفسها كأنها جزء من المشكلة التي وصل إليها العراق عندما راهنت طوال السنوات الماضية على زعامة نوري المالكي. كل ما عملته إيران على صعيد التعامل مع قضية المالكي؛ هي أنها - طبقا لما يقوله الأكاديمي ورجل الدين الشيعي عبد الحسين الساعدي في حديث لـ«الشرق الأوسط» - «رمت الكرة في ملعب المرجعية الدينية العليا في النجف وبالذات المرجع الأعلى آية الله علي السيستاني، حيث إن المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي الذي يقلده عدد من رجال السياسة في العراق - ومنهم السيد هادي العامري نفسه - نأى بنفسه عن قضية ما عرف بالولاية الثالثة للمالكي عندما وجد أن هناك شبه إجماع على ضرورة التغيير وأن هذا التغيير بدت تتصدى له المرجعية». ويضيف الساعدي أن «إيران، وبالذات خامنئي - الذي يستطيع معارضة أميركا علنا وبقوة، لكنه لا يجد مصلحة في معارضة أكبر مرجع شيعي بالعراق، وحتى في إيران حيث إن مقلدي السيستاني هناك أكثر من مقلدي مرشد الثورة الإسلامية نفسه، لذلك فقد تم سحب البساط من المالكي، وهو ما ترك تأثيراته بالغة الأهمية على بعض كبار حلفائه من مقلدي خامنئي لا السيستاني وهو هادي العامري الذي حصلت كتلته النيابية (بدر) على 22 مقعدا في الانتخابات في إطار (دولة القانون)». ويضيف الساعدي أن «موقف العامري الذي بدا رجراجا من لحظة إزاحة المالكي عن طريق حزب الدعوة نفسه وبمؤازرة قوى أساسية داخل التحالف الشيعي مثل حسين الشهرستاني وإبراهيم الجعفري وحيدر العبادي، فضلا عن حزب الفضيلة والمجلس الأعلى والتيار الصدري، حيث لم يكن للعامري موقف مع هؤلاء أو ضدهم حين جرى تكليف العبادي تشكيل الحكومة».

* الاستحقاق الصعب
* خرج العامري من وزارة النقل وعينه على ثاني أهم حقيبة في الحكومة وهي الداخلية، بعد أن أصر «تحالف القوى العراقية» السنية على الاحتفاظ بحقيبة الدفاع. ومع أن كلتا الحقيبتين لا تزال شاغرة، فإن السبب الرئيس وراء ذلك هو الخلافات الشيعية - الشيعية بشأن من يتولى هذه الحقيبة. فالداخلية من حيث لوازم الاستحقاق الانتخابي هي من حصة «دولة القانون»، وبالذات منظمة بدر. وطبقا لقيادي شيعي بارز أوضح لـ«الشرق الأوسط»، شريطة عدم الإشارة إلى اسمه، أن «هناك أزمة داخل (التحالف الوطني)، بات عنوانها العريض وزارة الداخلية والسيد العامري، الذي تصر كتلته على منحها هذه الوزارة رغم أنها تعرف أن هناك فيتو أميركي واضح على العامري وعلى قادة الميليشيات». ويضيف القيادي الشيعي أن «هناك خلافات مركبة داخل (التحالف الوطني)، سواء داخل (دولة القانون) التي تميل بعض قياداتها، وفي المقدمة منهم زعيم الائتلاف نوري المالكي، إلى منح الداخلية للعامري، رغم درايتهم أن الفيتو الأميركي لا يمكن هذه المرة تخطيه، بينما ترى قيادات في (الدعوة) تسند العبادي أن من غير الممكن منح (الداخلية) للعامري ولـ(بدر)، وهو ما جعلهم يرشحون رياض غريب، الذي فشل في نيل الثقة داخل البرلمان». ويؤكد القيادي الشيعي أن «المجلس الأعلى الإسلامي والتيار الصدري بدأوا يميلون الآن إلى منح (الداخلية) للعامري و(بدر)، لا سيما بعد أن بدا أن أميركا تريد معاقبة القوى والميليشيات الشيعية المرتبطة بإيران أو المؤيدة من قبلها، لا سيما أن أميركا بدا أنها لا تريد لإيران دورا في استراتيجية مواجهة (داعش)، وهو ما يعني ضمنا نزع الغطاء عن كل القوى والحركات السياسية التابعة للإسلام السياسي الشيعي التي ترى في إيران امتدادا لها بشكل أو بآخر». وطبقا لهذه الرؤية التي يرسمها القيادي الشيعي، فإن «دولة القانون»، وبتأييد من هذه القوى، لا تزال تصر على منح العامري هذه الحقيبة رغم الفيتو الأميركي ورغم إعلان قيادات من «بدر» أن الأميركان لم يعودوا يعارضون العامري. وبما أن الأمر غير صحيح، فإنه بمثابة رسالة ضمنية للأميركان بأن العامري لن يتقاطع معكم في حال أصبح وزيرا للداخلية. لكنه واستنادا إلى التقاطع الحاد بين الرؤيتين الأميركية والإيرانية بشأن «داعش» والأزمة العراقية، فإن رضا الطرفين بات غاية لا تدرك.

* بلا ربطة عنق
* لا يفضل هادي العامري ارتداء رابطة العنق. ورغم أنه شوهد أكثر من مرة وخاصة زياراته الخارجية حين أصبح وزيرا للنقل وهو يرتدي رابطة العنق، فإن خصومه غالبا ما يربطون بين عدم ارتدائه رابطة العنق وميوله الإيرانية. مع ذلك، فإن العامري الذي يفضل مناداته بالحاج أبو حسن على أي تسمية أخرى يعتد بتاريخه بمقارعة النظام السابق بوصفه قائد الجناح العسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي تأسس في إيران أوائل ثمانينات القرن الماضي بزعامة محمد باقر الحكيم والذي يسمى «بدر». وخلال الحرب العراقية - الإيرانية، قاتل «فيلق بدر»، مثلما هي تسميته خلال الحرب، إلى جانب القوات الإيرانية بهدف إسقاط نظام صدام حسين؛ فإنه وبعد احتلال العراق عام 2003 من قبل الولايات المتحدة الأميركية جرى تغيير تسمية «فيلق» بدر إلى «منظمة بدر»، وشملت بقانون دمج الميليشيات الذي أصدره الحاكم المدني الأميركي بول بريمر. ومن ثم، جرى الإعلان عن تحويل «بدر» إلى منظمة سياسية في إطار «المجلس الأعلى» الذي تغيرت تسميته من «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» إلى «المجلس الأعلى الإسلامي» بزعامة عمار الحكيم. غير أن العامري، وعلى أثر تعليمات قيل إنها صدرت من قبل مرشد الثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي إلى هادي العامري بالانفصال عن «المجلس الأعلى الإسلامي» والانضواء في إطار «دولة القانون» التي يتزعمها نوري المالكي. خلال السنوات الأخيرة، تحولت منظمة بدر التي يتزعمها العامري إلى رقم صعب في العملية السياسية، وقد حصلت على 22 مقعدا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، مطالبة بوزارة الداخلية ولزعيمها العامري حصرا.

* التهمة الدائمة
* عندما أصبح وزيرا للنقل، لم ينسلخ العامري من جلده الذي يبدو «ميليشياويا» بالنسبة لخصومه، الذين يرفعون حتى اليوم فيتو على توليه منصب وزارة الداخلية. هذا الفيتو وصل إلى واشنطن، التي يبدو إنها ضغطت بما فيه الكفاية على رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي لا يزال صامدا أمام كل الضغوط الداخلية (ضغوط «التحالف الوطني» ومنها «دولة القانون») والضغوط الخارجية (الضغوط الإيرانية) بتولية العامري الداخلية، وهو ما يعني أن الضغوط الأميركية وضغوط الأطراف الأخرى، لا سيما قوى التحالف السني هي الأشد بعدم تولية العامري هذه الوزارة. وفي هذا السياق، تقول عضو البرلمان العراقي عن ائتلاف «الوطنية» ميسون الدملوجي، إن ائتلافها يرفض «تسلم العامري حقيبة الدفاع، لأنه يرأس ميليشيا مسلحة، وأنه شخص غير مناسب لشغل حقيبة مهمة مثل الدفاع، مطالبة بتسليم الوزارة إلى شخصية مستقلة ومن ذوي الاختصاص». الأمر نفسه عندما جرى تغيير العامري من «الدفاع» إلى «الداخلية»، حيث يرى «تحالف القوى السنية»، وعلى لسان القيادي فيه محمد الخالدي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «الحاجة باتت ماسة لأن يجري وضع حد للميليشيات التي هي الوجه الآخر للإرهاب، ومن ثم فإن منح حقيبة مهمة مثل (الداخلية) إلى زعماء الميليشيات يعني أن نقرأ السلام على ما تبقى من العراق». العامري نفسه أدرك على ما يبدو أن القضية باتت أكبر من العبادي. ومع أنه لم يستسلم إلا أنه وجه رسالة عتاب قاسية إلى العبادي، فضح فيها ما عده تهالكا مخزيا لقوى «التحالف الوطني» على المناصب. وبدت رسالة العامري العتابية متناقضة؛ فهو في الوقت الذي يعتذر عن قبول منصب نائب رئيس الوزراء بدلا من «الداخلية»، فإنه يقول في نص الرسالة إنه لو كان يبحث عن منصب «لبقيت في وزارتي، وزارة النقل التي هي وزارة محترمة ولدي تجربة وخبرة فيها» على حد قوله، كأنه يريد القول إن منصب نائب رئيس الوزراء هو من مناصب الترضية مثله في ذلك مثل منصب نائب رئيس الجمهورية، لا أهمية لها ولا صلاحيات.



حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
TT
20

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

ثمة فوارق جوهرية بين استراتيجيات الولايات المتحدة والصين في الرسائل السياسية-الاقتصادية المتبادلة بين البلدين العملاقين. فواشنطن، من خلال تصعيد الرسوم بسرعة وبشدة، تظهر قوتها الاقتصادية وتستخدم التصعيد أداة ضغط سياسي واقتصادي، معتمدة على واقع الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عالمية. بالمقابل، اختارت بكين نهجاً تدريجياً وأكثر تحفظاً، في البداية، ربما لتفادي التصعيد المباشر مع واشنطن ولتجنب الدخول في حرب تجارية شاملة قد تؤثر على الاقتصاد العالمي.

ولكن، مع مرور الوقت، رفع الجانب الصيني ردوده تدريجياً لتصل إلى مستوى قريب من حجم إجراءات الجانب الأميركي، ما يشير إلى رد بالمثل لكن محسوب، مع إظهار حرص على التوازن وتحاشي الانجرار نحو تصعيد كامل.

التفاوت الزمني

أيضاً، يكشف الفارق بين تواريخ التصعيد بين الطرفين عن مدى تفاعل كل طرف مع الآخر وردّه على تحركاته. فالتفاوت الزمني بين التصعيدات يعكس استراتيجية قائمة على مراقبة مستمرة وحسابات دقيقة من الجانبين، حيث يعكس كل تصعيد رد فعل مدروسا، وليس ردة فعل عشوائية. وبالتالي، كل طرف يراقب الآخر ويأخذ في اعتباره تحرّكاته قبل اتخاذ قراراته، ما يعكس تنسيقاً ضمنياً بين القرارات المتخذة.

«التحكم» و«الهيبة»

من خلال هذا التصعيد المتبادل، يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكأنه يبعث برسالة واضحة مضمونها «نحن نتحكّم بالسوق العالمي، وسنضغط بقوة».

إنه موقف يعكس صورة قوة الولايات المتحدة كداعم رئيس في الاقتصاد العالمي، ويؤكد أنها مستعدة للمضي بالضغط على الصين إلى أن تمتثل الأخيرة لمطالبها. وفي الجهة المقابلة، تسعى بكين من خلال الردّ المتدرّج إلى إرسال رسالة معاكسة مضمونها «نحن نرد بالمثل لكن بحكمة وتدرّج، ولسنا منفعلين». وهذا الموقف يعكس «توازناً» حذراً في الردود الصينية، ويعزّز من صورتها كدولة قوية اقتصادياً تستطيع اتخاذ قرارات مدروسة... بعيداً عن الانفعال وردود الفعل العاطفية.

أسلوب الرئيس الصيني ... و«الكتاب الأبيض»

في هذا السياق، يعود موقف الرئيس الصيني شي جينبينغ ليشكّل الإطار العام لفهم هذا السلوك؛ فالرئيس شدد مراراً على أن التعاون هو الخيار الصحيح الوحيد بين البلدين، وأن الصين لا تسعى إلى الهيمنة أو المواجهة، بل إلى حوار قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. غير أن هذا الانفتاح الصيني لا يعني قبولاً بالضغط أو الإملاءات، كما يوضح «الكتاب الأبيض» الصيني، الذي أكد أن بكين «لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات الترهيب الاقتصادي»، وإن كانت في الوقت ذاته تفضل استخدام أدوات محسوبة ومدروسة.

في التاسع من أبريل (نيسان) 2025، أصدر مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني «الكتاب الأبيض» الذي حمل عنوان «موقف الصين بشأن بعض القضايا المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة».

لم يكن الكتاب مجرّد وثيقة حكومية عابرة، بل جاء مرافعةً استراتيجيةً شاملة، مدعومة بالأرقام والحقائق، وتكشف عن موقف بكين من العلاقة الاقتصادية الأكثر حساسية في عالم اليوم: علاقتها مع واشنطن.

ما قدّمته الصين في هذا الكتاب ليس دفاعاً بقدر ما هو دعوة إلى «الفهم الواقعي». ذلك أن العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة - وفق بكين - ليست «لعبة صفرية»، بل منظومة تكامل معقّدة، قائمة على المنفعة المتبادلة والنتائج المُربحة للطرفين. وترى جهات قريبة من بكين أن هذا المنطلق يغيب عن بعض دوائر صنع القرار في العاصمة الأميركية، التي ما زالت تعاني من تبعات «ذهول ما بعد الهيمنة»، وتُصرّ على قراءة الحاضر بعدسات الماضي الإمبراطوري.

من التعاون إلى التوتر... أرقام لا تكذب

تبدأ القيادة الصينية في «كتابها الأبيض» بتشخيص للعلاقات الاقتصادية الثنائية، فتشير إلى أن هذه العلاقة «لم تُبْنَ في فراغ، بل هي نتاج تطور طبيعي استجابت فيه قوانين السوق والمنطق الاقتصادي لحاجات كل من البلدين».

فمنذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1979، ارتفع حجم التجارة الثنائية من أقل من 2.5 مليار دولار أميركي إلى نحو 688.3 مليار دولار في عام 2024.

هذا النمو المذهل ما كان ليتحقّق لولا التكامل العميق في الموارد، ورأس المال، والتكنولوجيا، واليد العاملة، والأسواق بين البلدين. إذ أصبحت الصين سوقاً رئيسة للمنتجات الزراعية الأميركية مثل فول الصويا إلى القطن ووصولاً للغاز والأجهزة الطبية. وفي المقابل، استفاد المستهلك الأميركي من المنتجات الصينية ذات الجودة العالية والتكلفة المعقولة، ما خفّض تكاليف المعيشة ورفع مستوى القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والدنيا.

من الزاوية الصينية، لم يكن الفائض التجاري هدفاً مقصوداً، بل نتيجة طبيعية لتركيبة الاقتصاد العالمي، وللخيار الأميركي بالتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية والاعتماد على الاستيراد من الصين في قطاعات التصنيع. ثم إن تقييم هذا الفائض باستخدام منهجية «القيمة المضافة» يغيّر الصورة جذرياً، إذ إن القيمة التي تحصل عليها الصين من العديد من صادراتها لا تمثل سوى جزء بسيط من القيمة النهائية للسلع.

واشنطن والتناقض البنيوي: عن العجز والتضليل

على الرغم من هذه الحقائق، تصرّ بعض الجهات السياسية والاقتصادية - اليمينية، بالذات - في واشنطن على تصوير العلاقات الاقتصادية مع الصين على أنها سبب رئيس للعجز التجاري الأميركي، مُتناسية العوامل البنيوية التي تعاني منها منظومتها الصناعية، بما في ذلك ارتفاع التكاليف الداخلية، ونقل الصناعات إلى الخارج، والتركيز على قطاع الخدمات على حساب الصناعة التحويلية.

الإحصاءات التي أوردها «الكتاب الأبيض» تشير إلى أن الولايات المتحدة تحقق فوائض كبيرة في تجارة الخدمات مع الصين بلغت 26.57 مليار دولار في عام 2023، كما أن الشركات الأميركية في الصين تحقق أرباحاً ضخمة، إذ بلغ حجم مبيعاتها في السوق الصينية عام 2022 نحو 490.52 مليار دولار أميركي، بفارق يزيد على 400 مليار دولار عن مبيعات الشركات الصينية في الولايات المتحدة.

بلغة الأرقام، يتّضح أن المكاسب المتبادلة أكثر توازناً مما يحاول بعض الساسة الأميركيين تصويره. وإذا ما جرى احتساب المبيعات والخدمات وتدفقات الاستثمار بشكل مشترك، فإن العلاقات الصينية ـ الأميركية تبدو بعيدة كل البعد عن «الرواية الأحادية» التي تتكلّم عن «استغلال» أو «سرقة» اقتصادية.

الحرب التجارية ... سلاح ذو حدّين

في الحقيقة، لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي، وفرضت منذ عام 2018 رسوماً جمركية أحادية الجانب على مئات المليارات من الدولارات من السلع الصينية. ومع أن هذه الإجراءات فُرضت تحت شعار «حماية الصناعة الوطنية»، فإن الواقع أثبت عكس ذلك.

وحقاً، تفيد دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي إلى أن أكثر من 90 % من تكاليف هذه الرسوم انتقلت فعلياً إلى المستهلكين الأميركيين. كذلك فإن هذه الإجراءات لم تساهم في تقليص العجز التجاري الإجمالي، ولم تُعِد الحيوية للصناعة الأميركية. بل على العكس، أدّت إلى ارتفاع أسعار السلع، وتباطؤ النمو، وإضعاف القدرة الشرائية للمواطن الأميركي.

بل، من المفارقات أن هذه الحرب التجارية تزامنت مع احتجاجات في الداخل الأميركي، لا سيما من القطاعات الزراعية والصناعية المتضرّرة، التي خسرت أسواقها في الصين بسبب سياسات التصعيد. ولقد أظهرت بيانات السوق تراجع التوقعات بشأن النمو الاقتصادي الأميركي على خلفية هذه السياسات.

الصين: لا صدام ... ولا تهديد

من جهة ثانية، جاء في «الكتاب الأبيض» أيضاً أن «الصين لا تسعى إلى حرب تجارية، لكنها في ذات الوقت لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما تعتبره ترهيباً اقتصادياً». وبالنسبة لبكين، فإن التعاون هو الخيار الأول، لكن الرد بالمثل خيار دائم إذا اقتضت الحاجة.

وهنا تؤكد بكين أن الحل الأمثل هو «الحوار المتكافئ، واحترام المصالح الأساسية لكل طرف»، لا سيما أن العالم لم يعُد ساحة للابتزاز، بل غدا شبكة معقدة من المصالح. وعليه فالانفصال القسري لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر للطرفين، وربما للنظام الاقتصادي الدولي بأسره.

ووفق جهات مقرّبة من بكين، فبين أكثر ما يلفت النظر في الموقف الصيني، ليس فقط إصرار بكين على «الحقائق الاقتصادية»، بل أيضاً محاولتها معالجة جذور الخلل في نظرة واشنطن للصين.

وحسب هذه الجهات، فإن نسبة عالية من الساسة الأميركيين ووسائل الإعلام التابعة لهم، لا تزال تنظر إلى الصين من خلال «عدسة الحرب الباردة»، فإما أن تكون الصين «شريكاً طيعاً» أو «عدواً مطلوباً تحجيمه». لكن الحقيقة التي تتجاهلها هذه الرؤية هي أن الصين المعاصرة ليست دولة تُدار وفق نص مكتوب في واشنطن، بل أمة عمرها خمسة آلاف سنة، سلكت طريقاً تنموياً خاصاً بها، قائماً على الواقعية، والإصلاح التدريجي، والتفاعل العميق مع العولمة. وهذا بالضبط ما عبّر عنه بوضوح كبير الدبلوماسيين الصينيين يانغ جيه تشي خلال قمة ألاسكا الشهيرة حين قال: «واشنطن لا تملك المؤهلات اللازمة للتكلّم إلى الصين من موقع قوة».

الهيمنة تُفقد البوصلة

أخيراً، يقول مقربّون من بكين إنه من خلال تتبع سياسات واشنطن، يظهر أن الأزمة الأعمق ليست في التجارة أو التوازن الاقتصادي، بل في نمط التفكير السائد في واشنطن. وحسب هؤلاء «هناك تيار سياسي أميركي لا يستطيع تقبّل فكرة عالم متعدّد الأقطاب، قارئاً في صعود الصين تهديداً لامتيازات استمرت لعقود، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية».

بالتالي - والكلام لا يزال للمقربين من بكين - «هذا النمط من التفكير جعل بعض السياسيين في واشنطن كمن يحاول قيادة قطار فائق السرعة بمحرك عربة تجرها الخيول. فهم يصرّون على استخدام معايير القرن التاسع عشر لفهم تفاعلات القرن الحادي والعشرين، ويحاولون لعب أدوار متناقضة في الوقت نفسه: الحكم واللاعب والمُشرّع». لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي على الصين