عندما أصبح زعيم منظمة بدر، هادي العامري، وزيرا للنقل في حكومة نوري المالكي الثانية (2010 - 2014)، لم يجد من يعترض عليه؛ لا من الطبقة السياسية ولا من اللاعبين الدوليين الكبار. والأسباب التي تقف خلف ذلك معروفة؛ ومن أهمها أن تلك الحكومة التي تشكلت بموجب اتفاقية أربيل وبعد شلل في الحياة البرلمانية والسياسية بعد الانتخابات استمر نحو 8 أشهر - كانت اليد الطولى في تشكيلها آنذاك لإيران رغم ثقل الوجود الأميركي، حيث لم يكن الأميركيون انسحبوا بعد. لكنهم وفي سياق استعداداتهم للانسحاب وعدم حماس الرئيس الأميركي باراك أوباما لأن تتدخل إدارته في تفاصيل الطبخة السياسية - لم يكن تدخلهم على مستوى «الفيتو» ضد هذا أو مع ذاك، بل كان كل ما كانوا طلبوه هو رفع الاجتثاث عن هذا القيادي أو ذاك ومنح زعيم «العراقية» إياد علاوي، الذي وضعت عليه إيران فيتو بعد تولي رئاسة الوزارة رغم فوز قائمته الأولى بواقع 91 مقعدا مقابل 89 لـ«دولة القانون» بزعامة نوري المالكي، دورا مستقبليا من خلال مجلس السياسات العليا الذي لم ير النور.
هذه المرة بدت الأمور مختلفة. فالتحدي الذي مثله «داعش» أجبر هادي العامري على ترك وزارته (النقل) والتوجه إلى ميادين القتال كجزء من عملية الحشد الشعبي، حيث كان لقوات بدر التي يتزعمها دور بارز في فك حصار آمرلي - المدينة ذات الغالبية التركمانية الشيعية. وفي الوقت نفسه، فإن تحدي «داعش» أجبر في مقابل ذلك كلا من إيران والولايات المتحدة الأميركية على إعادة النظر في استراتيجيهما في العراق. أميركا عادت بقوة وعلى كل المستويات السياسية والعسكرية، وإيران وجدت نفسها كأنها جزء من المشكلة التي وصل إليها العراق عندما راهنت طوال السنوات الماضية على زعامة نوري المالكي. كل ما عملته إيران على صعيد التعامل مع قضية المالكي؛ هي أنها - طبقا لما يقوله الأكاديمي ورجل الدين الشيعي عبد الحسين الساعدي في حديث لـ«الشرق الأوسط» - «رمت الكرة في ملعب المرجعية الدينية العليا في النجف وبالذات المرجع الأعلى آية الله علي السيستاني، حيث إن المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي الذي يقلده عدد من رجال السياسة في العراق - ومنهم السيد هادي العامري نفسه - نأى بنفسه عن قضية ما عرف بالولاية الثالثة للمالكي عندما وجد أن هناك شبه إجماع على ضرورة التغيير وأن هذا التغيير بدت تتصدى له المرجعية». ويضيف الساعدي أن «إيران، وبالذات خامنئي - الذي يستطيع معارضة أميركا علنا وبقوة، لكنه لا يجد مصلحة في معارضة أكبر مرجع شيعي بالعراق، وحتى في إيران حيث إن مقلدي السيستاني هناك أكثر من مقلدي مرشد الثورة الإسلامية نفسه، لذلك فقد تم سحب البساط من المالكي، وهو ما ترك تأثيراته بالغة الأهمية على بعض كبار حلفائه من مقلدي خامنئي لا السيستاني وهو هادي العامري الذي حصلت كتلته النيابية (بدر) على 22 مقعدا في الانتخابات في إطار (دولة القانون)». ويضيف الساعدي أن «موقف العامري الذي بدا رجراجا من لحظة إزاحة المالكي عن طريق حزب الدعوة نفسه وبمؤازرة قوى أساسية داخل التحالف الشيعي مثل حسين الشهرستاني وإبراهيم الجعفري وحيدر العبادي، فضلا عن حزب الفضيلة والمجلس الأعلى والتيار الصدري، حيث لم يكن للعامري موقف مع هؤلاء أو ضدهم حين جرى تكليف العبادي تشكيل الحكومة».
* الاستحقاق الصعب
* خرج العامري من وزارة النقل وعينه على ثاني أهم حقيبة في الحكومة وهي الداخلية، بعد أن أصر «تحالف القوى العراقية» السنية على الاحتفاظ بحقيبة الدفاع. ومع أن كلتا الحقيبتين لا تزال شاغرة، فإن السبب الرئيس وراء ذلك هو الخلافات الشيعية - الشيعية بشأن من يتولى هذه الحقيبة. فالداخلية من حيث لوازم الاستحقاق الانتخابي هي من حصة «دولة القانون»، وبالذات منظمة بدر. وطبقا لقيادي شيعي بارز أوضح لـ«الشرق الأوسط»، شريطة عدم الإشارة إلى اسمه، أن «هناك أزمة داخل (التحالف الوطني)، بات عنوانها العريض وزارة الداخلية والسيد العامري، الذي تصر كتلته على منحها هذه الوزارة رغم أنها تعرف أن هناك فيتو أميركي واضح على العامري وعلى قادة الميليشيات». ويضيف القيادي الشيعي أن «هناك خلافات مركبة داخل (التحالف الوطني)، سواء داخل (دولة القانون) التي تميل بعض قياداتها، وفي المقدمة منهم زعيم الائتلاف نوري المالكي، إلى منح الداخلية للعامري، رغم درايتهم أن الفيتو الأميركي لا يمكن هذه المرة تخطيه، بينما ترى قيادات في (الدعوة) تسند العبادي أن من غير الممكن منح (الداخلية) للعامري ولـ(بدر)، وهو ما جعلهم يرشحون رياض غريب، الذي فشل في نيل الثقة داخل البرلمان». ويؤكد القيادي الشيعي أن «المجلس الأعلى الإسلامي والتيار الصدري بدأوا يميلون الآن إلى منح (الداخلية) للعامري و(بدر)، لا سيما بعد أن بدا أن أميركا تريد معاقبة القوى والميليشيات الشيعية المرتبطة بإيران أو المؤيدة من قبلها، لا سيما أن أميركا بدا أنها لا تريد لإيران دورا في استراتيجية مواجهة (داعش)، وهو ما يعني ضمنا نزع الغطاء عن كل القوى والحركات السياسية التابعة للإسلام السياسي الشيعي التي ترى في إيران امتدادا لها بشكل أو بآخر». وطبقا لهذه الرؤية التي يرسمها القيادي الشيعي، فإن «دولة القانون»، وبتأييد من هذه القوى، لا تزال تصر على منح العامري هذه الحقيبة رغم الفيتو الأميركي ورغم إعلان قيادات من «بدر» أن الأميركان لم يعودوا يعارضون العامري. وبما أن الأمر غير صحيح، فإنه بمثابة رسالة ضمنية للأميركان بأن العامري لن يتقاطع معكم في حال أصبح وزيرا للداخلية. لكنه واستنادا إلى التقاطع الحاد بين الرؤيتين الأميركية والإيرانية بشأن «داعش» والأزمة العراقية، فإن رضا الطرفين بات غاية لا تدرك.
* بلا ربطة عنق
* لا يفضل هادي العامري ارتداء رابطة العنق. ورغم أنه شوهد أكثر من مرة وخاصة زياراته الخارجية حين أصبح وزيرا للنقل وهو يرتدي رابطة العنق، فإن خصومه غالبا ما يربطون بين عدم ارتدائه رابطة العنق وميوله الإيرانية. مع ذلك، فإن العامري الذي يفضل مناداته بالحاج أبو حسن على أي تسمية أخرى يعتد بتاريخه بمقارعة النظام السابق بوصفه قائد الجناح العسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي تأسس في إيران أوائل ثمانينات القرن الماضي بزعامة محمد باقر الحكيم والذي يسمى «بدر». وخلال الحرب العراقية - الإيرانية، قاتل «فيلق بدر»، مثلما هي تسميته خلال الحرب، إلى جانب القوات الإيرانية بهدف إسقاط نظام صدام حسين؛ فإنه وبعد احتلال العراق عام 2003 من قبل الولايات المتحدة الأميركية جرى تغيير تسمية «فيلق» بدر إلى «منظمة بدر»، وشملت بقانون دمج الميليشيات الذي أصدره الحاكم المدني الأميركي بول بريمر. ومن ثم، جرى الإعلان عن تحويل «بدر» إلى منظمة سياسية في إطار «المجلس الأعلى» الذي تغيرت تسميته من «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» إلى «المجلس الأعلى الإسلامي» بزعامة عمار الحكيم. غير أن العامري، وعلى أثر تعليمات قيل إنها صدرت من قبل مرشد الثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي إلى هادي العامري بالانفصال عن «المجلس الأعلى الإسلامي» والانضواء في إطار «دولة القانون» التي يتزعمها نوري المالكي. خلال السنوات الأخيرة، تحولت منظمة بدر التي يتزعمها العامري إلى رقم صعب في العملية السياسية، وقد حصلت على 22 مقعدا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، مطالبة بوزارة الداخلية ولزعيمها العامري حصرا.
* التهمة الدائمة
* عندما أصبح وزيرا للنقل، لم ينسلخ العامري من جلده الذي يبدو «ميليشياويا» بالنسبة لخصومه، الذين يرفعون حتى اليوم فيتو على توليه منصب وزارة الداخلية. هذا الفيتو وصل إلى واشنطن، التي يبدو إنها ضغطت بما فيه الكفاية على رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي لا يزال صامدا أمام كل الضغوط الداخلية (ضغوط «التحالف الوطني» ومنها «دولة القانون») والضغوط الخارجية (الضغوط الإيرانية) بتولية العامري الداخلية، وهو ما يعني أن الضغوط الأميركية وضغوط الأطراف الأخرى، لا سيما قوى التحالف السني هي الأشد بعدم تولية العامري هذه الوزارة. وفي هذا السياق، تقول عضو البرلمان العراقي عن ائتلاف «الوطنية» ميسون الدملوجي، إن ائتلافها يرفض «تسلم العامري حقيبة الدفاع، لأنه يرأس ميليشيا مسلحة، وأنه شخص غير مناسب لشغل حقيبة مهمة مثل الدفاع، مطالبة بتسليم الوزارة إلى شخصية مستقلة ومن ذوي الاختصاص». الأمر نفسه عندما جرى تغيير العامري من «الدفاع» إلى «الداخلية»، حيث يرى «تحالف القوى السنية»، وعلى لسان القيادي فيه محمد الخالدي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «الحاجة باتت ماسة لأن يجري وضع حد للميليشيات التي هي الوجه الآخر للإرهاب، ومن ثم فإن منح حقيبة مهمة مثل (الداخلية) إلى زعماء الميليشيات يعني أن نقرأ السلام على ما تبقى من العراق». العامري نفسه أدرك على ما يبدو أن القضية باتت أكبر من العبادي. ومع أنه لم يستسلم إلا أنه وجه رسالة عتاب قاسية إلى العبادي، فضح فيها ما عده تهالكا مخزيا لقوى «التحالف الوطني» على المناصب. وبدت رسالة العامري العتابية متناقضة؛ فهو في الوقت الذي يعتذر عن قبول منصب نائب رئيس الوزراء بدلا من «الداخلية»، فإنه يقول في نص الرسالة إنه لو كان يبحث عن منصب «لبقيت في وزارتي، وزارة النقل التي هي وزارة محترمة ولدي تجربة وخبرة فيها» على حد قوله، كأنه يريد القول إن منصب نائب رئيس الوزراء هو من مناصب الترضية مثله في ذلك مثل منصب نائب رئيس الجمهورية، لا أهمية لها ولا صلاحيات.