كيف يبدو «النصر»؟... رحلة عبر سوريا الممزقة

صحافيات زرن البلاد لمعاينة {انتصار الأسد}

كيف يبدو «النصر»؟... رحلة عبر سوريا الممزقة
TT

كيف يبدو «النصر»؟... رحلة عبر سوريا الممزقة

كيف يبدو «النصر»؟... رحلة عبر سوريا الممزقة

عندما انطلقنا في رحلتنا حول حطام ضاحية دوما في دمشق، استغرق الأمر منا وقتاً قليلاً كي ندرك ما ينقص المكان. رأينا نساء يحملن أكياس البقالة، ورجالاً كباراً في السن على ظهر دراجات بخارية وأطفالاً بأجساد نحيفة في طريق العودة إلى ديارهم حاملين أواني من المياه. ومع هذا، كان هناك القليل من الرجال الشباب.
لقد سقطوا قتلى في الحرب أو زج بهم إلى السجون أو تشتتوا فيما وراء حدود سوريا. والآن، أصبح لزاماً على الناجين أمثال أم خليل، الجدة ذات الوجه المستدير البالغة 59 عاماً، التأقلم مع غيابهم. لقي ثلاثة من أبناء أم خليل مصرعهم، بينما تعرض ابن رابع للتعذيب في سجن يتبع الجماعات المسلحة، واختفى خامس في مراكز الاحتجاز التابعة للنظام. واضطرت زوجات أبنائها إلى العمل، بينما تتولى هي رعاية أحفادها الخمسة في ظل غياب زوجها الذي قتل في غارة جوية.

قالت أم خليل أثناء جلوسها في شقة أحد معارفها، حيث يتكدس الباقون من أفراد أسرتها: «أحياناً، أجلس وأفكر كيف حدث كل هذا؟ كان لدي أبناء يعملون، وكان كل شيء طبيعياً، وفجأة فقدتهم. كان لدي زوج، وفقدته أيضاً. ليس لدي إجابات. فليسامح الله من كان مسؤولاً عن كل ذلك». وبعد ذلك، انفجرت صائحة: «يغفر لهم أو لا يغفر لهم، ما الفارق الذي سيحدثه ذلك؟ أتمنى لو كان بإمكاني العثور على من دمر هذه المدينة لأقتله بنفسي».
على مدار فترة من الوقت، أحاطت الشكوك بمسألة ما إذا كان الرئيس بشار الأسد سيخرج منتصراً في هذه الحرب. ونحن ثلاثة صحافيات لدى «نيويورك تايمز» قدمنا إلى سوريا لمعاينة كيف يبدو هذا النصر الذي حققه.
على مدار ثمانية أيام في يونيو (حزيران)، زرنا خمس مدن وقرى خاضعة لسيطرة قوات النظام، وعايننا فيها حطاماً وكرماً وأشخاصاً يعتصرهم الحزن وآخرين يعيشون يوماً بيوم. الواضح أن المعاناة توزعت على نحو متفاوت، وكان الجزء الأكبر منها من نصيب الفقراء وسكان المناطق التي كان يسيطر عليها المسلحون سابقاً. كما جرى التشارك في جهود التعافي على نحو متفاوت، أيضاً.
في دمشق، يقف مركز للتسوق التجاري جرى بناؤه أثناء الحرب بتكلفة 310 ملايين دولار في بقعة ليست بعيدة عن جبل كانت قوات الأسد تدك أماكن خاضعة لسيطرة مسلحين فيه بالمدفعية. في المقابل نجد أنه في بلدة دوما المجاورة التي خضعت لسيطرة المسلحين على مدار الجزء الأكبر من الحرب، ما تزال المياه الجارية أملاً أكثر منه حقيقية. وفي اللاذقية، المطلة على ساحل البحر المتوسط، وأحد المعاقل القوية للأسد، كانت النسوة يبكين خلف صور الأبناء القتلى. وفي مدينة حلب الشمالية التي نجح الأسد في استعادة السيطرة عليها، عادت الحياة مجدداً إلى المصانع والأسواق، لكن إمدادات الكهرباء ما تزال متقطعة.
ولم تكن البنية التحتية الشيء الوحيد الذي يحتاج إلى إعادة بناء، وإنما تؤكد مشاهداتنا أن سوريا تنقصها طبقة وسطى، بعد أن فر أفراد هذه الطبقة إلى الخارج أو هبطوا على درجات السلم الاقتصادي.
من ناحيتها، تقدر الأمم المتحدة أن أكثر من ثمانية من بين كل 10 أشخاص في سوريا، الآن، يعيشون في الفقر، ويتقاضون أقل من 3.1 دولار يومياً بالنسبة للفرد. وحتى مع بدء عودة بعض النازحين إلى ديارهم، ما يزال الشباب يجبرون على الانضمام إلى الجيش، بينما يختفي المنشقون أو من هم على صلة بهم داخل سجون مظلمة. وما يزال الناس يفرون من البلاد حتى اليوم، وإن كانت أعدادهم أقل كثيراً عما كانت عليه في فترات الذروة من قبل.
وفي ظل عدم تدفق مساعدات من الجهات الدولية المانحة، وجد السوريون الذين التقيناهم أنفسهم مضطرين لفعل كل ما بوسعهم لرأب الصدوع التي أحدثتها الذخائر في جدران منازلهم وإطعام أطفالهم وإيجاد سبيل لكسب القوت.
وفي ظل غياب عدد كبير للغاية من الشباب، وقعت هذه المهمة على عاتق الكبار في السن وشديدي الصغر، خاصة النساء، بما في ذلك نساء من أسر محافظة يعملن اليوم للمرة الأولى في حياتهن. على سبيل المثال، قالت أم عقيل (40 عاماً)، في شرق حلب: «لم يخطر ببالي قط أن يأتي يوم وأعمل فيه، لكن هذا أفضل بكثير من أن أضطر للتسول». وقالت أم عقيل إن الحكومة تحتجز زوجها، «دون ذنب اقترفه» حسب قولها. وقالت إنها ترغب في أن تعمل بناتها عندما ينجزن تعليمهن بالمدارس، كي «لا يكابدن ما كابدته أنا».

صور الأسد في كل مكان

في كل مكان زرناه، كان من المستحيل أن تنسى من يترأس هذا الدمار، ومن سيترأس ما سيليه. حملت واحدة من اللافتات الكثيرة المعلقة فوق الطرق السورية عبارة «الأسد إلى الأبد» وحملت صورة الأسد.
وانتشرت صور الأسد عند مداخل المدن التي أعادت قواته السيطرة عليها. وفي بعض الصور، أطل وجهه من بين وجهي داعميه، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من جهة وزعيم جماعة «حزب الله» اللبنانية، حسن نصر الله، من جهة أخرى. وعند إحدى نقاط التفتيش التابعة للجيش التي مررنا بها، كان هناك ما لا يقل عن 13 صورة للأسد، تحدق عيناه داخلها في اتجاهات مختلفة وكأنها مجموعة كاميرات أمنية. أما عملاؤه، فكانوا حاضرين دوماً في رحلتنا. كانت الحكومة قد حظرت عمل الكثير من زملائنا وعدداً من وسائل الإعلام الأخرى بسبب تغطية اعتبرتها شديدة النقد. وتطلب الأمر منا نحن الثلاثة ـ أنا، المراسلة المقيمة في بيروت، ومترجمة لبنانية، ومصورة أميركية تدعى ميريديث كوت، قرابة نصف عام كي نتمكن من دخول البلاد.
ومع هذ، فإن مجرد الحصول على «فيزا» لا يعني السماح بالتجول بحرية في الأرجاء، ففي كل مكان تقريباً ذهبنا إليه، كنا مرافقين برقباء، والعديد من الجنود، ورقباء في ملابس مدنية يتبعون جهاز الاستخبارات السوري القوي. ومن حين لآخر، كان هؤلاء يقدمون أنفسهم باعتبارهم «صحافيين»، وكانوا يقفون إلى جوارنا تقريباً في جميع المحادثات التي كانت تدور بيننا وبين أحد من السوريين. وكان من الصعب الحديث إلى الناس، فقد كانت تجربة مخيفة لهم.
على أفضل تقدير، تمكننا في نهاية الأمر من الحصول على رؤية ضيقة من منظور المعسكر الموالي للنظام لما آلت إليه الأوضاع في سوريا. ولم يلق أي شخص ممن تحدثنا إليهم اللوم على حكومة الأسد في الكارثة التي أنهكت سوريا. ودائماً ما رأى من تحدثنا إليهم، أن الانهيار الاقتصادي نتاج العقوبات الأميركية، وليس الحرب أو الفساد.

نفس القصص الحزينة

كان الرقباء الحكوميون حريصين على أن يظهروا لنا أن الحياة عادت إلى طبيعتها في البلاد. وكانت هذه مهمة بسيطة في دمشق التي نجحت في الجزء الأكبر منها في تجنب الضرر المادي. ومع ذلك، فإنه في غضون دقيقتين من انطلاقنا في رحلة بالسيارة من دمشق إلى دوما، تبدل فجأة المشهد خارج نافذة السيارة من مدينة تعج بالحركة إلى ميدان يعج بركام رمادي اللون. وبدا كما لو أن هذا الركام ممتد لأميال، ورأينا مباني سكنية أشبه بساحات انتظار سيارات في الهواء الطلق، ومآذن تطل برأسها من قلب الحطام مثل شموع ذابت إلى منتصفها في قلب كعكة.
اتسم الدمار والركام المحيط بتجانس مخيف ناتج عن إقدام الطائرات الحربية والمدفعية على محو كل ما على وجه الأرض تقريباً، فيما عدد منشآت إنسانية قليلة. وبذلك، كان من السهل على المرء أن ينسى أن هذا الركام كان بنايات ومنازل في يوم من الأيام.
في قلب دوما، تجتذب السوق حركة خفيفة لكنها مستمرة من متسوقين يبحثون عن فاكهة ومعدات منزلية - إلا أنه رغم مرور أكثر عن عام على نجاح الحكومة في كسر سيطرة المسلحين على المدينة من خلال حصارٍ قاسٍ دفع السكان لأكل العشب، ما تزال أجزاء كبيرة من المدينة لا تصلح للسكن.
ويمكنك التعرف على المناطق التي بدأ الناس في العودة إليها، تحديداً بين تلال الركام، وذلك من خلال أغطية من القماش حلت محل جدران المنازل التي لم يعد لها وجود. في واحدة من البنايات، كانت ثريا يغطيها اللون الأسود واضحة عبر ثقوب واسعة في الجدران التي تحولت إلى شاهد على تحطم الطبقة الوسطى في دوما. وقادنا أحد الأطفال ممن كانوا يلعبون في الخارج نحو أعلى السلالم لمقابلة جده، علي حمود طعمة، وزوجته أم فارس.
كان الجد والجدة قد عادا إلى شقتهما في مايو (أيار)، ليجداها منهوبة ومحترقة. أما قطعة الأثاث الوحيدة التي نجحا في إنقاذها فهي قطعة سجاد تمزج بين اللونين الخمري والأزرق حملتها أم فارس معها عندما فرا إلى قبو على الجانب الآخر من المدينة خلال الأيام الأولى من الحرب. وعلى مدار السنوات السبع التي عاشاها تحت الأرض، بعض الأحيان من دون طعام أو شراب، رفضت أم فارس استخدام السجادة، وظلت في انتظار اليوم الذي يعودان فيه إلى منزلهما من جديد. بحلول وقت عودتهما، كان 20 من أفراد أسرتهما قد لقي مصرعه. وتولت أم فارس وزوجها تربية 11 حفيداً يتيماً داخل مبنى مهجور في معظمه. أما بالنسبة للأصدقاء والجيران القلائل الذين تبقوا، فقد قالت أم فارس: «نتحاشى رؤية بعضنا البعض لأننا جميعاً لدينا نفس القصص الحزينة».
بالجوار، جلس حفيدها، خالد (9 سنوات)، يمسح عينيه الممتلئتين بالدموع ويدفن رأسه من حين لآخر في وسادة. وأوضحت أم فارس أنه لا يبكي على والده المتوفى، وإنما لأنه يعمل في ورشة حدادة، ويتقاضى أجراً يومياً يكافئ ثمن ساندويتش واحد، وتتسبب الشظايا والمواد الكيماوية المتطايرة في التهاب عينيه. بالنسبة للدواء، فإنه خارج حدود مقدرة الأسرة المادية، لكن من دون عمل خالد، لن يكون هناك طعام.
ونهض طعمة وعاد إلينا حاملاً طبقاً زجاجياً به فطائر محشوة بالتمر والفول السوداني. في الواقع، جميع السوريين الذين التقيناهم حرصوا دوماً على أن يقدموا لنا شيئاً مهما بلغ ضيق العيش بهم. وشعرنا أنه من غير اللائق أن نرفض بادرة تهامي السخية هنا داخل منزله البسيط. في وقت لاحق، أخبرتني المصورة المرافقة لنا، أنها رأته يبحث بيديه عبر كومة كبيرة من المتعلقات داخل دولاب الملابس وحمل شيئاً من الأسفل: علبة الحلوى، واحدة من آخر ما تملك الأسرة، والتي يحافظون عليها بحرص.

شرف لنا أن نضحي به

تضاعفت أعداد أتباع الحكومة من حولنا عندما قادتنا السيارة نحو مدينة اللاذقية الساحلية. وتضم المدينة أعداداً كبيرة من المسلمين العلويين الذين يشاركهم الأسد الطائفة، وقد كانوا من قبل أقلية دينية مهمشة داخل البلاد. وتعج صفوف الجيش وقوات الأمن من أبناء العلويين، وكان واضحاً أن اللاذقية تشكل معقل الرئيس.
في قرية بيت ياشوط الجبلية، تظهر صور لشباب قضوا أثناء قتالهم من أجل الأسد - أطلق عليهم «الشهداء» - معلقة على أعمدة خطوط الهاتف. وقامت مجموعة تضمنت لواءً عسكرياً ومسؤولاً بالقرية واثنين من المعنيين بشؤون الجنود، بمرافقتنا من منزل لآخر. سألت والد أحد الجنود القتلى، ياسين حسنا، عن تضحيته، وما إذا كان الأمر يستحق هذه التضحية. قال الأب وعيناه تنظر باتجاه اللواء الذي هز رأسه بالموافقة: «مستعد لتقديم أي شيء من أجل سوريا - أتمنى لو نصبح جميعاً شهداء من أجل الوطن». وأشارت لنا أم تدعى زكية أحمد حسن، إلى مقعد بلاستيكي غالباً ما تجلس عليه بجوار قبر ابنها لتشرب القهوة وتغني له. وقالت: «كان شرف لنا أن نضحي به. لقد كان يدافع عن الوطن».
يفترض الكثير من غير العلويين أن العلويين نالوا مكافآت سخية مقابل ولائهم، لكن الحقيقة أن هذه الأسر كانت تحصل على قوت يومها بالكاد، وتحدث أفرادها عن عجزهم عن توفير الحليب للأطفال والأسعار الباهظة للبطاطا والزيت والسكر، وأنهم توقفوا تماماً عن الذهاب إلى اللحام. وأشارت زكية إلى مجموعة من الخضراوات تزرعها بجوار قبر ابنها، وقالت: «حتى لو فرض الأميركيون حصاراً ضدنا، على الأقل ما يزال بإمكاننا تناول الخيار والخبز!».
وأبدى الحاكم المحلي، إبراهيم خضر السالم، حرصه على التأكيد على أن الحكومة توفر موارد إضافية إلى أسر الجنود، ومن المفترض حصولهم على أولوية فيما يخص الوظائف الحكومية، بجانب ميزات صغيرة أخرى مثل إلغاء ضرائب السيارات ومصاريف الدراسة الجامعية. وأضاف السالم: «السيد الرئيس شخصياً يولي أولوية لهذه القضايا. وفي كل يوم، يتابع والحكومة أوضاع أسر الشهداء».
جدير بالذكر أن ثلاثة مصورين حكوميين تولوا تصوير مقابلتنا حتى أنهى الحاكم حديثه تماماً.

في حلب ليل بلا أضواء

في طريقنا بالسيارة شمالاً نحو حلب، كانت هناك سيارات محترقة على جانب الطريق، بينما تصاعدت ألسنة دخان رمادية من واحدة من الحرائق التي تسببت في وقت قريب في حرق آلاف الأفدنة من المحاصيل. ويبدو أن أحداً لم يكن يعرف المسؤول عن هذا الحريق، الأمر الوحيد المؤكد أن الجوع في سوريا في طريقه نحو مزيد من التفاقم.
قبل الحرب، كانت حلب المنافس الأكبر لدمشق، وكبرى مدن البلاد والمحرك التجاري لها. وتبعاً لما ذكرته رنا، التي رافقتنا في جولتنا: «لا ينام أهل المدينة مطلقاً أو هكذا جرت العادة فيما مضى». إلا أن الحصار الحكومي تسبب في خراب سوق المدينة الذي يعود تاريخ إنشائه إلى القرن الـ14. وفي انطفاء الأضواء.
وبعد مرور عامين ونصف العام عما أسماه كل من التقيناهم «تحرير شرق حلب من قبضة الجماعات المسلحة»، ما تزال الكهرباء تأتي بصورة أساسية من المولدات. ومن دون أموال إعادة الإعمار من الحكومة، تعتمد أعمال إعادة البناء على القدرات المالية للأفراد. كان هناك أشخاص عاجزون عن شراء أبواب أو نوافذ، وآخرون يعيشون على قدر يسير للغاية من الكهرباء لدرجة تضطرهم إلى الجلوس خارج منازلهم كل ليلة حتى وقت النوم. وتعد المستشفيات الخاصة المؤسسات الوحيدة التي بدأت العمل من جديد، ربما لأن الحكومة قصفت المستشفيات باستمرار وما تزال العامة منها مدمرة.
ومع هذا، خلال ساعات النهار، بدت المنطقة تعج بحركة بائعي البطيخ وحركة المرور. وأخبرتنا سيدة التقيناها داخل صالون تجميل أنها تقص شعرها للمرة الأولى منذ الحرب داخل صالون متخصص. كما أعادت المدارس فتح أبوابها. وفي أحد الشوارع، كانت هناك لافتة كبيرة مكتوب عليها «عاد الأمن إلى سوريا».
ومع هذا، ظل الأمن حلماً بعيد المنال بالنسبة لأم أحمد (28 عاماً)، التي كانت تجلس بجوار شقيقتها عند المغيب، وتحيطها مجموعة من تلال المباني المدمرة.
قالت السيدتان إن زوجيهما من المفقودين، وأنهما احتجزا مع تقدم قوات موالية للحكومة في شرق حلب عام 2015. واقترب من يرافقوننا من رقباء الحكومة، وأخبرت رنا، التي لم تفصح قط عن اسمها الثاني، أم أحمد، بأن الأمر أكثر تعقيداً مما تقوله، وأنه لا ينبغي لها التفوه بمثل هذا الحديث إلى صحافيين. وهنا، ردت أم أحمد: «هل ينبغي أن نكذب؟ هذا ما حدث». وهنا، اصطحبتها رنا إلى المطبخ حيث ارتفع صوتهما في الحديث. وعندما عادت (أم أحمد)، ظلت هادئة.
في وقت لاحق، شكوت إلى وزير الإعلام كثرة المرافقين لنا، فأجابني بقوله: «عليك أن تعي أننا لسنا أميركيين. وندير أمورنا هنا على نحو مختلف. والجميع هنا يفترض أنكم جواسيس». عندما حان الوقت لمغادرة سوريا، رافقنا الرقباء من الاستخبارات العسكرية حتى الحدود اللبنانية. واضطررنا للتوقف أربع مرات خلال الطريق بسبب تعطل السيارة.
ما الذي يبدو عليه النصر؟ على الأقل نصف مليون قتيل، وأكثر عن 11 مليون شردوا من منازلهم. وتحولت المدن إلى ركام ومدن أشباح. وبينما يتسوق البعض في مراكز تجارية، يعيش آخرون على تناول الخيار الذي يزرعونه.
وأبدى غالبية من قابلناهم حذراً شديداً لدى الحديث إلينا، ورفضوا تماماً الحديث عن الماضي أو المستقبل، بينما انحنت ظهورهم تحت وطأة المهمة اليومية: ضمان البقاء. ومع هذا، من حين لآخر، كان يظهر لنا شيء يذكرنا بأن سوريا كانت أكثر بكثير من مجرد الحرب، رغم طول أمد هذه الحرب وبشاعتها.
خلال وقت العشاء في ليلتنا الأولى في حلب، قال سائقنا، أبو عبده، إنه يعرف بضعة أماكن يمكننا تناول العشاء فيها قرب الفندق الذي نقيم فيه، منذ أيام ما قبل الحرب عندما كان يرافق سائحين في جولاتهم بالمدينة.
وكان المطعم الأول الذي تذكره قد اختفى، وكذلك الثاني. وعند البناية التالية، وقف رجل إلى جوار لافتة كتب عليها «روستو أبو نواس»، وسارع نحوه أبو عبده بمجرد رؤيته. وقال له: «محمود، هل تذكرني؟ لقد اعتدت القدوم هنا كثيراً. أنتم تقدمون الطعام الأفضل على الإطلاق». في البداية، لم يتعرف عليه مالك المطعم، عبد الغني محمود، لكن بعد ذلك أضاء وجهه فجأة وقال: «أها. نعم، نعم».
كان المطعم خالياً سوى من شيف يقف بإحدى الزوايا. وكانت قطعة القماش التي تغطي الطاولة ملطخة، وكذلك الجداريات الخاصة بحلب القديمة على الجدران. وحام داخل منطقة تناول الطعام بعض الذباب. أما الشيء الوحيد الذي لم يبد قديماً ومتهالكاً فهو الطاولة التي كانت عليها أكوام طازجة من الطماطم والخيار والنعناع والفجل. وعندما طلب أبو عبده مشروباً مثلجاً، اعتذر محمود، مشيراً إلى أن المولد الذي يعتمد عليه المبرد تعطل، وبالتالي ليس هناك ثلج. وهنا، حدقت في وجه المترجمة المرافقة متسائلة: «كيف سنتناول لحوماً هنا؟». في البداية، جاءت الخضراوات، ثم سلطة الحمص والمتبلات وسلطة باذنجان مدخن. بعد ذلك، جاءت العديد من أطباق الدجاج المشوي الحار والكباب. بدأت في تناول الطعام وعلى الفور نسيت أمر المبرد المعطل. ورغم أني تناولت مثل هذه الأطباق عدة مرات من قبل في لبنان وسوريا، لكن تلك كانت الأفضل. وقال أبو عبده معلقاً على الطعام: «ما يزال الطعام كما هو، مثلما أتذكره».
عندما غادرنا، كان الشارع مظلماً وفارغاً. كان الوقت ما يزال مبكراً، لكن مرت سنوات كثيرة منذ الأيام التي اعتاد أبناء حلب خلالها السهر طوال الليل في الشوارع.
*خدمة نيويورك تايمز



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».