كيف يبدو «النصر»؟... رحلة عبر سوريا الممزقة

صحافيات زرن البلاد لمعاينة {انتصار الأسد}

كيف يبدو «النصر»؟... رحلة عبر سوريا الممزقة
TT

كيف يبدو «النصر»؟... رحلة عبر سوريا الممزقة

كيف يبدو «النصر»؟... رحلة عبر سوريا الممزقة

عندما انطلقنا في رحلتنا حول حطام ضاحية دوما في دمشق، استغرق الأمر منا وقتاً قليلاً كي ندرك ما ينقص المكان. رأينا نساء يحملن أكياس البقالة، ورجالاً كباراً في السن على ظهر دراجات بخارية وأطفالاً بأجساد نحيفة في طريق العودة إلى ديارهم حاملين أواني من المياه. ومع هذا، كان هناك القليل من الرجال الشباب.
لقد سقطوا قتلى في الحرب أو زج بهم إلى السجون أو تشتتوا فيما وراء حدود سوريا. والآن، أصبح لزاماً على الناجين أمثال أم خليل، الجدة ذات الوجه المستدير البالغة 59 عاماً، التأقلم مع غيابهم. لقي ثلاثة من أبناء أم خليل مصرعهم، بينما تعرض ابن رابع للتعذيب في سجن يتبع الجماعات المسلحة، واختفى خامس في مراكز الاحتجاز التابعة للنظام. واضطرت زوجات أبنائها إلى العمل، بينما تتولى هي رعاية أحفادها الخمسة في ظل غياب زوجها الذي قتل في غارة جوية.

قالت أم خليل أثناء جلوسها في شقة أحد معارفها، حيث يتكدس الباقون من أفراد أسرتها: «أحياناً، أجلس وأفكر كيف حدث كل هذا؟ كان لدي أبناء يعملون، وكان كل شيء طبيعياً، وفجأة فقدتهم. كان لدي زوج، وفقدته أيضاً. ليس لدي إجابات. فليسامح الله من كان مسؤولاً عن كل ذلك». وبعد ذلك، انفجرت صائحة: «يغفر لهم أو لا يغفر لهم، ما الفارق الذي سيحدثه ذلك؟ أتمنى لو كان بإمكاني العثور على من دمر هذه المدينة لأقتله بنفسي».
على مدار فترة من الوقت، أحاطت الشكوك بمسألة ما إذا كان الرئيس بشار الأسد سيخرج منتصراً في هذه الحرب. ونحن ثلاثة صحافيات لدى «نيويورك تايمز» قدمنا إلى سوريا لمعاينة كيف يبدو هذا النصر الذي حققه.
على مدار ثمانية أيام في يونيو (حزيران)، زرنا خمس مدن وقرى خاضعة لسيطرة قوات النظام، وعايننا فيها حطاماً وكرماً وأشخاصاً يعتصرهم الحزن وآخرين يعيشون يوماً بيوم. الواضح أن المعاناة توزعت على نحو متفاوت، وكان الجزء الأكبر منها من نصيب الفقراء وسكان المناطق التي كان يسيطر عليها المسلحون سابقاً. كما جرى التشارك في جهود التعافي على نحو متفاوت، أيضاً.
في دمشق، يقف مركز للتسوق التجاري جرى بناؤه أثناء الحرب بتكلفة 310 ملايين دولار في بقعة ليست بعيدة عن جبل كانت قوات الأسد تدك أماكن خاضعة لسيطرة مسلحين فيه بالمدفعية. في المقابل نجد أنه في بلدة دوما المجاورة التي خضعت لسيطرة المسلحين على مدار الجزء الأكبر من الحرب، ما تزال المياه الجارية أملاً أكثر منه حقيقية. وفي اللاذقية، المطلة على ساحل البحر المتوسط، وأحد المعاقل القوية للأسد، كانت النسوة يبكين خلف صور الأبناء القتلى. وفي مدينة حلب الشمالية التي نجح الأسد في استعادة السيطرة عليها، عادت الحياة مجدداً إلى المصانع والأسواق، لكن إمدادات الكهرباء ما تزال متقطعة.
ولم تكن البنية التحتية الشيء الوحيد الذي يحتاج إلى إعادة بناء، وإنما تؤكد مشاهداتنا أن سوريا تنقصها طبقة وسطى، بعد أن فر أفراد هذه الطبقة إلى الخارج أو هبطوا على درجات السلم الاقتصادي.
من ناحيتها، تقدر الأمم المتحدة أن أكثر من ثمانية من بين كل 10 أشخاص في سوريا، الآن، يعيشون في الفقر، ويتقاضون أقل من 3.1 دولار يومياً بالنسبة للفرد. وحتى مع بدء عودة بعض النازحين إلى ديارهم، ما يزال الشباب يجبرون على الانضمام إلى الجيش، بينما يختفي المنشقون أو من هم على صلة بهم داخل سجون مظلمة. وما يزال الناس يفرون من البلاد حتى اليوم، وإن كانت أعدادهم أقل كثيراً عما كانت عليه في فترات الذروة من قبل.
وفي ظل عدم تدفق مساعدات من الجهات الدولية المانحة، وجد السوريون الذين التقيناهم أنفسهم مضطرين لفعل كل ما بوسعهم لرأب الصدوع التي أحدثتها الذخائر في جدران منازلهم وإطعام أطفالهم وإيجاد سبيل لكسب القوت.
وفي ظل غياب عدد كبير للغاية من الشباب، وقعت هذه المهمة على عاتق الكبار في السن وشديدي الصغر، خاصة النساء، بما في ذلك نساء من أسر محافظة يعملن اليوم للمرة الأولى في حياتهن. على سبيل المثال، قالت أم عقيل (40 عاماً)، في شرق حلب: «لم يخطر ببالي قط أن يأتي يوم وأعمل فيه، لكن هذا أفضل بكثير من أن أضطر للتسول». وقالت أم عقيل إن الحكومة تحتجز زوجها، «دون ذنب اقترفه» حسب قولها. وقالت إنها ترغب في أن تعمل بناتها عندما ينجزن تعليمهن بالمدارس، كي «لا يكابدن ما كابدته أنا».

صور الأسد في كل مكان

في كل مكان زرناه، كان من المستحيل أن تنسى من يترأس هذا الدمار، ومن سيترأس ما سيليه. حملت واحدة من اللافتات الكثيرة المعلقة فوق الطرق السورية عبارة «الأسد إلى الأبد» وحملت صورة الأسد.
وانتشرت صور الأسد عند مداخل المدن التي أعادت قواته السيطرة عليها. وفي بعض الصور، أطل وجهه من بين وجهي داعميه، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من جهة وزعيم جماعة «حزب الله» اللبنانية، حسن نصر الله، من جهة أخرى. وعند إحدى نقاط التفتيش التابعة للجيش التي مررنا بها، كان هناك ما لا يقل عن 13 صورة للأسد، تحدق عيناه داخلها في اتجاهات مختلفة وكأنها مجموعة كاميرات أمنية. أما عملاؤه، فكانوا حاضرين دوماً في رحلتنا. كانت الحكومة قد حظرت عمل الكثير من زملائنا وعدداً من وسائل الإعلام الأخرى بسبب تغطية اعتبرتها شديدة النقد. وتطلب الأمر منا نحن الثلاثة ـ أنا، المراسلة المقيمة في بيروت، ومترجمة لبنانية، ومصورة أميركية تدعى ميريديث كوت، قرابة نصف عام كي نتمكن من دخول البلاد.
ومع هذ، فإن مجرد الحصول على «فيزا» لا يعني السماح بالتجول بحرية في الأرجاء، ففي كل مكان تقريباً ذهبنا إليه، كنا مرافقين برقباء، والعديد من الجنود، ورقباء في ملابس مدنية يتبعون جهاز الاستخبارات السوري القوي. ومن حين لآخر، كان هؤلاء يقدمون أنفسهم باعتبارهم «صحافيين»، وكانوا يقفون إلى جوارنا تقريباً في جميع المحادثات التي كانت تدور بيننا وبين أحد من السوريين. وكان من الصعب الحديث إلى الناس، فقد كانت تجربة مخيفة لهم.
على أفضل تقدير، تمكننا في نهاية الأمر من الحصول على رؤية ضيقة من منظور المعسكر الموالي للنظام لما آلت إليه الأوضاع في سوريا. ولم يلق أي شخص ممن تحدثنا إليهم اللوم على حكومة الأسد في الكارثة التي أنهكت سوريا. ودائماً ما رأى من تحدثنا إليهم، أن الانهيار الاقتصادي نتاج العقوبات الأميركية، وليس الحرب أو الفساد.

نفس القصص الحزينة

كان الرقباء الحكوميون حريصين على أن يظهروا لنا أن الحياة عادت إلى طبيعتها في البلاد. وكانت هذه مهمة بسيطة في دمشق التي نجحت في الجزء الأكبر منها في تجنب الضرر المادي. ومع ذلك، فإنه في غضون دقيقتين من انطلاقنا في رحلة بالسيارة من دمشق إلى دوما، تبدل فجأة المشهد خارج نافذة السيارة من مدينة تعج بالحركة إلى ميدان يعج بركام رمادي اللون. وبدا كما لو أن هذا الركام ممتد لأميال، ورأينا مباني سكنية أشبه بساحات انتظار سيارات في الهواء الطلق، ومآذن تطل برأسها من قلب الحطام مثل شموع ذابت إلى منتصفها في قلب كعكة.
اتسم الدمار والركام المحيط بتجانس مخيف ناتج عن إقدام الطائرات الحربية والمدفعية على محو كل ما على وجه الأرض تقريباً، فيما عدد منشآت إنسانية قليلة. وبذلك، كان من السهل على المرء أن ينسى أن هذا الركام كان بنايات ومنازل في يوم من الأيام.
في قلب دوما، تجتذب السوق حركة خفيفة لكنها مستمرة من متسوقين يبحثون عن فاكهة ومعدات منزلية - إلا أنه رغم مرور أكثر عن عام على نجاح الحكومة في كسر سيطرة المسلحين على المدينة من خلال حصارٍ قاسٍ دفع السكان لأكل العشب، ما تزال أجزاء كبيرة من المدينة لا تصلح للسكن.
ويمكنك التعرف على المناطق التي بدأ الناس في العودة إليها، تحديداً بين تلال الركام، وذلك من خلال أغطية من القماش حلت محل جدران المنازل التي لم يعد لها وجود. في واحدة من البنايات، كانت ثريا يغطيها اللون الأسود واضحة عبر ثقوب واسعة في الجدران التي تحولت إلى شاهد على تحطم الطبقة الوسطى في دوما. وقادنا أحد الأطفال ممن كانوا يلعبون في الخارج نحو أعلى السلالم لمقابلة جده، علي حمود طعمة، وزوجته أم فارس.
كان الجد والجدة قد عادا إلى شقتهما في مايو (أيار)، ليجداها منهوبة ومحترقة. أما قطعة الأثاث الوحيدة التي نجحا في إنقاذها فهي قطعة سجاد تمزج بين اللونين الخمري والأزرق حملتها أم فارس معها عندما فرا إلى قبو على الجانب الآخر من المدينة خلال الأيام الأولى من الحرب. وعلى مدار السنوات السبع التي عاشاها تحت الأرض، بعض الأحيان من دون طعام أو شراب، رفضت أم فارس استخدام السجادة، وظلت في انتظار اليوم الذي يعودان فيه إلى منزلهما من جديد. بحلول وقت عودتهما، كان 20 من أفراد أسرتهما قد لقي مصرعه. وتولت أم فارس وزوجها تربية 11 حفيداً يتيماً داخل مبنى مهجور في معظمه. أما بالنسبة للأصدقاء والجيران القلائل الذين تبقوا، فقد قالت أم فارس: «نتحاشى رؤية بعضنا البعض لأننا جميعاً لدينا نفس القصص الحزينة».
بالجوار، جلس حفيدها، خالد (9 سنوات)، يمسح عينيه الممتلئتين بالدموع ويدفن رأسه من حين لآخر في وسادة. وأوضحت أم فارس أنه لا يبكي على والده المتوفى، وإنما لأنه يعمل في ورشة حدادة، ويتقاضى أجراً يومياً يكافئ ثمن ساندويتش واحد، وتتسبب الشظايا والمواد الكيماوية المتطايرة في التهاب عينيه. بالنسبة للدواء، فإنه خارج حدود مقدرة الأسرة المادية، لكن من دون عمل خالد، لن يكون هناك طعام.
ونهض طعمة وعاد إلينا حاملاً طبقاً زجاجياً به فطائر محشوة بالتمر والفول السوداني. في الواقع، جميع السوريين الذين التقيناهم حرصوا دوماً على أن يقدموا لنا شيئاً مهما بلغ ضيق العيش بهم. وشعرنا أنه من غير اللائق أن نرفض بادرة تهامي السخية هنا داخل منزله البسيط. في وقت لاحق، أخبرتني المصورة المرافقة لنا، أنها رأته يبحث بيديه عبر كومة كبيرة من المتعلقات داخل دولاب الملابس وحمل شيئاً من الأسفل: علبة الحلوى، واحدة من آخر ما تملك الأسرة، والتي يحافظون عليها بحرص.

شرف لنا أن نضحي به

تضاعفت أعداد أتباع الحكومة من حولنا عندما قادتنا السيارة نحو مدينة اللاذقية الساحلية. وتضم المدينة أعداداً كبيرة من المسلمين العلويين الذين يشاركهم الأسد الطائفة، وقد كانوا من قبل أقلية دينية مهمشة داخل البلاد. وتعج صفوف الجيش وقوات الأمن من أبناء العلويين، وكان واضحاً أن اللاذقية تشكل معقل الرئيس.
في قرية بيت ياشوط الجبلية، تظهر صور لشباب قضوا أثناء قتالهم من أجل الأسد - أطلق عليهم «الشهداء» - معلقة على أعمدة خطوط الهاتف. وقامت مجموعة تضمنت لواءً عسكرياً ومسؤولاً بالقرية واثنين من المعنيين بشؤون الجنود، بمرافقتنا من منزل لآخر. سألت والد أحد الجنود القتلى، ياسين حسنا، عن تضحيته، وما إذا كان الأمر يستحق هذه التضحية. قال الأب وعيناه تنظر باتجاه اللواء الذي هز رأسه بالموافقة: «مستعد لتقديم أي شيء من أجل سوريا - أتمنى لو نصبح جميعاً شهداء من أجل الوطن». وأشارت لنا أم تدعى زكية أحمد حسن، إلى مقعد بلاستيكي غالباً ما تجلس عليه بجوار قبر ابنها لتشرب القهوة وتغني له. وقالت: «كان شرف لنا أن نضحي به. لقد كان يدافع عن الوطن».
يفترض الكثير من غير العلويين أن العلويين نالوا مكافآت سخية مقابل ولائهم، لكن الحقيقة أن هذه الأسر كانت تحصل على قوت يومها بالكاد، وتحدث أفرادها عن عجزهم عن توفير الحليب للأطفال والأسعار الباهظة للبطاطا والزيت والسكر، وأنهم توقفوا تماماً عن الذهاب إلى اللحام. وأشارت زكية إلى مجموعة من الخضراوات تزرعها بجوار قبر ابنها، وقالت: «حتى لو فرض الأميركيون حصاراً ضدنا، على الأقل ما يزال بإمكاننا تناول الخيار والخبز!».
وأبدى الحاكم المحلي، إبراهيم خضر السالم، حرصه على التأكيد على أن الحكومة توفر موارد إضافية إلى أسر الجنود، ومن المفترض حصولهم على أولوية فيما يخص الوظائف الحكومية، بجانب ميزات صغيرة أخرى مثل إلغاء ضرائب السيارات ومصاريف الدراسة الجامعية. وأضاف السالم: «السيد الرئيس شخصياً يولي أولوية لهذه القضايا. وفي كل يوم، يتابع والحكومة أوضاع أسر الشهداء».
جدير بالذكر أن ثلاثة مصورين حكوميين تولوا تصوير مقابلتنا حتى أنهى الحاكم حديثه تماماً.

في حلب ليل بلا أضواء

في طريقنا بالسيارة شمالاً نحو حلب، كانت هناك سيارات محترقة على جانب الطريق، بينما تصاعدت ألسنة دخان رمادية من واحدة من الحرائق التي تسببت في وقت قريب في حرق آلاف الأفدنة من المحاصيل. ويبدو أن أحداً لم يكن يعرف المسؤول عن هذا الحريق، الأمر الوحيد المؤكد أن الجوع في سوريا في طريقه نحو مزيد من التفاقم.
قبل الحرب، كانت حلب المنافس الأكبر لدمشق، وكبرى مدن البلاد والمحرك التجاري لها. وتبعاً لما ذكرته رنا، التي رافقتنا في جولتنا: «لا ينام أهل المدينة مطلقاً أو هكذا جرت العادة فيما مضى». إلا أن الحصار الحكومي تسبب في خراب سوق المدينة الذي يعود تاريخ إنشائه إلى القرن الـ14. وفي انطفاء الأضواء.
وبعد مرور عامين ونصف العام عما أسماه كل من التقيناهم «تحرير شرق حلب من قبضة الجماعات المسلحة»، ما تزال الكهرباء تأتي بصورة أساسية من المولدات. ومن دون أموال إعادة الإعمار من الحكومة، تعتمد أعمال إعادة البناء على القدرات المالية للأفراد. كان هناك أشخاص عاجزون عن شراء أبواب أو نوافذ، وآخرون يعيشون على قدر يسير للغاية من الكهرباء لدرجة تضطرهم إلى الجلوس خارج منازلهم كل ليلة حتى وقت النوم. وتعد المستشفيات الخاصة المؤسسات الوحيدة التي بدأت العمل من جديد، ربما لأن الحكومة قصفت المستشفيات باستمرار وما تزال العامة منها مدمرة.
ومع هذا، خلال ساعات النهار، بدت المنطقة تعج بحركة بائعي البطيخ وحركة المرور. وأخبرتنا سيدة التقيناها داخل صالون تجميل أنها تقص شعرها للمرة الأولى منذ الحرب داخل صالون متخصص. كما أعادت المدارس فتح أبوابها. وفي أحد الشوارع، كانت هناك لافتة كبيرة مكتوب عليها «عاد الأمن إلى سوريا».
ومع هذا، ظل الأمن حلماً بعيد المنال بالنسبة لأم أحمد (28 عاماً)، التي كانت تجلس بجوار شقيقتها عند المغيب، وتحيطها مجموعة من تلال المباني المدمرة.
قالت السيدتان إن زوجيهما من المفقودين، وأنهما احتجزا مع تقدم قوات موالية للحكومة في شرق حلب عام 2015. واقترب من يرافقوننا من رقباء الحكومة، وأخبرت رنا، التي لم تفصح قط عن اسمها الثاني، أم أحمد، بأن الأمر أكثر تعقيداً مما تقوله، وأنه لا ينبغي لها التفوه بمثل هذا الحديث إلى صحافيين. وهنا، ردت أم أحمد: «هل ينبغي أن نكذب؟ هذا ما حدث». وهنا، اصطحبتها رنا إلى المطبخ حيث ارتفع صوتهما في الحديث. وعندما عادت (أم أحمد)، ظلت هادئة.
في وقت لاحق، شكوت إلى وزير الإعلام كثرة المرافقين لنا، فأجابني بقوله: «عليك أن تعي أننا لسنا أميركيين. وندير أمورنا هنا على نحو مختلف. والجميع هنا يفترض أنكم جواسيس». عندما حان الوقت لمغادرة سوريا، رافقنا الرقباء من الاستخبارات العسكرية حتى الحدود اللبنانية. واضطررنا للتوقف أربع مرات خلال الطريق بسبب تعطل السيارة.
ما الذي يبدو عليه النصر؟ على الأقل نصف مليون قتيل، وأكثر عن 11 مليون شردوا من منازلهم. وتحولت المدن إلى ركام ومدن أشباح. وبينما يتسوق البعض في مراكز تجارية، يعيش آخرون على تناول الخيار الذي يزرعونه.
وأبدى غالبية من قابلناهم حذراً شديداً لدى الحديث إلينا، ورفضوا تماماً الحديث عن الماضي أو المستقبل، بينما انحنت ظهورهم تحت وطأة المهمة اليومية: ضمان البقاء. ومع هذا، من حين لآخر، كان يظهر لنا شيء يذكرنا بأن سوريا كانت أكثر بكثير من مجرد الحرب، رغم طول أمد هذه الحرب وبشاعتها.
خلال وقت العشاء في ليلتنا الأولى في حلب، قال سائقنا، أبو عبده، إنه يعرف بضعة أماكن يمكننا تناول العشاء فيها قرب الفندق الذي نقيم فيه، منذ أيام ما قبل الحرب عندما كان يرافق سائحين في جولاتهم بالمدينة.
وكان المطعم الأول الذي تذكره قد اختفى، وكذلك الثاني. وعند البناية التالية، وقف رجل إلى جوار لافتة كتب عليها «روستو أبو نواس»، وسارع نحوه أبو عبده بمجرد رؤيته. وقال له: «محمود، هل تذكرني؟ لقد اعتدت القدوم هنا كثيراً. أنتم تقدمون الطعام الأفضل على الإطلاق». في البداية، لم يتعرف عليه مالك المطعم، عبد الغني محمود، لكن بعد ذلك أضاء وجهه فجأة وقال: «أها. نعم، نعم».
كان المطعم خالياً سوى من شيف يقف بإحدى الزوايا. وكانت قطعة القماش التي تغطي الطاولة ملطخة، وكذلك الجداريات الخاصة بحلب القديمة على الجدران. وحام داخل منطقة تناول الطعام بعض الذباب. أما الشيء الوحيد الذي لم يبد قديماً ومتهالكاً فهو الطاولة التي كانت عليها أكوام طازجة من الطماطم والخيار والنعناع والفجل. وعندما طلب أبو عبده مشروباً مثلجاً، اعتذر محمود، مشيراً إلى أن المولد الذي يعتمد عليه المبرد تعطل، وبالتالي ليس هناك ثلج. وهنا، حدقت في وجه المترجمة المرافقة متسائلة: «كيف سنتناول لحوماً هنا؟». في البداية، جاءت الخضراوات، ثم سلطة الحمص والمتبلات وسلطة باذنجان مدخن. بعد ذلك، جاءت العديد من أطباق الدجاج المشوي الحار والكباب. بدأت في تناول الطعام وعلى الفور نسيت أمر المبرد المعطل. ورغم أني تناولت مثل هذه الأطباق عدة مرات من قبل في لبنان وسوريا، لكن تلك كانت الأفضل. وقال أبو عبده معلقاً على الطعام: «ما يزال الطعام كما هو، مثلما أتذكره».
عندما غادرنا، كان الشارع مظلماً وفارغاً. كان الوقت ما يزال مبكراً، لكن مرت سنوات كثيرة منذ الأيام التي اعتاد أبناء حلب خلالها السهر طوال الليل في الشوارع.
*خدمة نيويورك تايمز



غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.