مخطئ من يظن أن الأفكار تموت كالكائن البشري، إنها تنتقل عبر الأجيال بخيرها وشرها، وفي الجيل الواحد هناك مَن يقوم بعملية تسليم الآراء والمعتقدات، متطرفةً كانت أم معتدلةً، ومن سوء الطالع أن شرقنا الأوسط ومنذ أن وضعت جماعة «الإخوان المسلمين» في أواخر ثلاثينات القرن العشرين لبنات أفكارها المتطرفة، والمنطقة تشهد توالد جماعات عديدة من رحمها، تختلف في المظهر، لكن يظل المخبر واحداً، ويظن القائمون على الأمر في الحكومات أنهم قضوا على وجودها في فترات زمنية بعينها، غير أنها تعود من جديد بعد فترات كمون أو بيات شتوي، لتضرب من جديد وبأسوأ مشهد مما كان عليه الأمر من قبل.
تختفي «الإخوان» في الستينات، لتظهر جماعة «التكفير والهجرة» في السبعينات، يقبض الأمن على الخلية، فتظهر «الجماعة الإسلامية»، تواجه هذه الدولة المصرية، فتسقط، غير أن عناصرها يفرون إلى أفغانستان فتولد جماعات التطرف، ومن رحمها تقوم «القاعدة»، التي تضحى إحدى شعبها تنظيم «داعش» لاحقاً. ولهذا فإن القول بأن «داعش» قد قضى نحبه مرة وإلى الأبد، قول مغلوط، وليس أدل على صحة ما نقول به من مجموعة التصريحات والتقارير الدولية الأخيرة، التي تذهب في طريق التحذير من الاستكانة للهزائم العسكرية التي تعرضت لها في العامين السابقين في العراق وسوريا.
نهار السبت الماضي، كان العراق يشهد انطلاق المرحلة الرابعة من عملية «إرادة النصر»، بهدف تفتيش وتطهير كامل الصحراء، وبعض المناطق في محافظة الأنبار، من بقايا فلول تنظيم «داعش» الإرهابي، حسب تصريحات نائب قائد العمليات المشتركة الفريق عبد الأمير رشيد.
الفلول تعلِّمنا أن الاستراتيجيات نوعان؛ نوع ظاهر معروف بالأسماء والصفات من الأجهزة الأمنية والاستخبارية كافة، وهؤلاء التصدي لهم أمره ممكن عبر فرق المشاة، ولواءات المغاوير، وغيرهما من القوات المسلحة. أما الطامة الكبرى فموصولة بجماعات الفلول المؤدلجين، أولئك الذين لا يطفون على سطح الأحداث، لكنهم أخطر وقعاً، إذ يروجون للفكر المتطرف بهدوء ومن دون جلبة، معتمدين في ذلك على آليات التطرف المعاصرة المتمثلة في وسائط التواصل الاجتماعي، وعادةً ما يتم اختيار قيادات «القاعدة» و«داعش» من أسماء غير معروفة، لكنها تمثل الشر في ذاته.
الكثير من المعلومات تتواتر مؤخراً عن إصابة أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم، بنوع من الشلل يُقعده عن القيام بواجباته في متابعة أمر التنظيم الدموي، ولهذا فإنه أوكل لعبد الله قرداش إدارة شؤون الجماعة وإعادة ترتيب أوراقها. وفيما يبدو فإن الأجهزة الأمنية العراقية لديها الكثير من المعلومات عن الرجل الذي تدرج في صفوف التنظيم حتى أضحى حالياً الخليفة المنتظر.
لم يظهر قرداش الملقب بـ«الأستاذ» مرة واحدة على سطح الأحداث، بل تدرج عبر السنوات الخمس الماضية، ليصبح أحد أهم مساعدي البغدادي العسكريين، ويشير بعض التقارير الاستخباراتية إلى أن مهمته الرئيسة هي منع تفكك التنظيم، وإعادة ترتيب صفوفه، مستفيداً مما لديه من خبرة واسعة إبان عمله في الاستخبارات العراقية، ومعرفة بطبيعة وتضاريس العراق، ومعلوماته عن المجتمع وأفكاره، لا سيما ما يستجلب عناصر جديدة تزخم البناء الهيكلي للجماعة، وتعوض النقص الذي جرى في صفوفه بعد الاندحار العسكري والهزائم الثقيلة التي تعرض لها وقادته إلى ما يشبه الدياسبورا في المنطقة المجاورة، وعبر الإقليم بشكل أوسع.
تقول «التايمز» البريطانية في تقرير نُشر مؤخراً لها أن مهمة «الأستاذ» الثانية ستكون وأد الخلافات الواسعة بين أقطابه خصوصاً القيادات من الجنسيات العربية والأجنبية، هل لهذا الأمر علاقة بالتقرير الأميركي الأخير الذي توقع عودة الدواعش مرة جديدة وبشكل ربما أشرس مما عرفه العالم من قبل؟
في أوائل يوليو (تموز) الماضي كان معهد دراسات الحرب، وهو مؤسسة أبحاث غير حكومية مقرها واشنطن، يحذّر من أن «(داعش) لم يُهزم نهائياً»، ويستعد للعودة مجدداً، وعلى نحوٍ «أشد خطورة»، رغم خسارته الأراضي التي أقام عليها ما سُميت «دولة الخلافة»، في سوريا والعراق المجاور.
قراءة المعهد الأميركي المشار إليه جاءت في نحو ثمانين صفحة وتحت عنوان «عودة (داعش) الثانية... تقييم تمرد (داعش) المقبل»، وتركز على فكرة أن التنظيم اليوم لا يزال أقوى من سلفه «القاعدة» في العراق عام 2011 حين بدا ضعيفاً.
ما ورد في التقرير الأميركي مثير بل مخيف، إذ يشير إلى أن تنظيم «القاعدة» في العراق كان لديه ما بين سبعمائة وألف مسلح آنذاك، بينما كان «داعش» لديه ما يصل إلى 30 ألف مسلح في العراق وسوريا في أغسطس (آب) 2018، وفقاً لتقديرات الاستخبارات العسكرية.
وفي تحليلات التقدير نرى أن «داعش» بنى من مجموعات صغيرة من الفلول عام 2011 جيشاً كبيراً للسيطرة على الفلوجة والموصل ومدن أخرى في العراق، واستطاع السيطرة على معظم شرق سوريا في ثلاث سنوات فقط.
هل سيقدّر لـ«داعش» أن يستعيد قوته بشكل أسرع بكثير وإلى مستوى أكثر خطورة من القوة الأكبر بكثير التي لا تزال لديه حتى اليوم؟
حسب التقرير الأميركي، المعتمد بالأصل على معلومات وبيانات استخباراتية من العراق وسوريا، فإن «داعش» بقيادة البغدادي، كان لديه خطة للعودة، مهيأة وجاهزة قبل أن يتعرض لسلسة الضربات العسكرية الأخيرة، بل إنه كان يقوم بتنفيذها في أثناء الحملة العسكرية التي شنتها قوى الأمن العراقية، عطفاً على قوات سوريا الديمقراطية، والكل بالطبع بجانب التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية.
أحد الأسئلة المدّعاة للتحري عن مستقبل «داعش»: هل التنظيم لديه قوة مالية تكفي لاستمرار عملياته، وإعادة بناء هيكله التنظيمي ومن ثمّ مباشرة إرهابه إقليمياً وعالمياً؟
في تقرير قدمه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى مجلس الأمن الدولي، أشار إلى أن «داعش» يمتلك مبالغ تصل إلى 300 مليون دولار، ظلت معه بعد الزوال لتنظيم الخلافة المزعوم في العراق وسوريا.
وذكر غوتيريش أن تهديدات «داعش» لا تزال مخيفة، على الرغم من انخفاض وتيرة الهجمات التي يشنها، وبخاصة أنه انخفاض مؤقت.
يقطع غوتيريش بقدرة التنظيم على توجيه هذه الأموال لدعم أعمال إرهابية داخل العراق وسوريا وخارجهما عبر شركات غير رسمية لتحويل الأموال، وتمتعه بالاكتفاء الذاتي المالي عبر شبكة من المؤيدين والجماعات التابعة له في أماكن أخرى بالشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا.
والثابت أن مسألة التمويل لم يكن ليهملها التقرير الأميركي الذي أكد أن «داعش» يحتفظ بشبكة تمويل موّلت إعادته الثانية إلى التمرد، وتمكن من إعادة بناء قدراته الإعلامية الرئيسية، وكذلك الحفاظ على الأسلحة وغيرها من الإمدادات في شبكات الأنفاق ومناطق الدعم الأخرى من أجل تجهيز قوات المتمردين المجددة.
يتلفت النظر في خليفة البغدادي القادم على الطريق لاستكمال مسيرة «داعش» في نشر الفوضى والإرهاب إقليمياً وعالمياً، أنه يكاد يستلهم بعض تجارب وخبرات تنظيم «البعث» العراقي بنوع خاص.
في شهر يونيو (حزيران) الماضي، كانت الأمم المتحدة تنشر تقريراً بشأن «داعش» أشارت فيه إلى أن الجماعة الإرهابية تتغير وتتكيف وتوفر الشروط اللازمة للمقاومة داخل سوريا والعراق.
ولعل المثير أن الهيئة الأممية تشير أيضاً في أوراقها إلى أن المكان الأساسي لتجنيد عناصر جديدة هي السجون التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرقي سوريا. فالظروف الصعبة في تلك المعتقلات مناسبة للحفاظ على آيديولوجية التنظيم حيّةً بين المعتقلين من مناصريه وتجنيد آخرين.
ويحاول التنظيم استغلال كل فرصة ليقول إنه حاضر ولم يُهزم، كما لا يؤكد الأنباء التي تفيد بمقتل أو اعتقال قادته من الصف الأول. وفي هذا يختلف عن تنظيم «القاعدة»، حسبما ينقل موقع «المونيتور» الإخباري الذي يهتم بشؤون الشرق الأوسط، عن أبو علي البصري قوله: «لقد تعلم تنظيم (داعش) من نظام البعث، والكثير من عناصر التنظيم كانوا جزءاً من نظام البعث، ويكذبون ويخدعون كما كان يفعل نظام صدام حسين».
كارثة «داعش» الثانية اهتم بها ولها الإعلام الأوروبي، حيث نقرأ أحاديث مخيفة عن قيام عناصر مؤدلجة تابعة لـ«داعش» بالانتشار عمداً داخل السجون الأوروبية واللعب على أوتار الكراهية والقومية من جهة، والترويج للمفاهيم الدينية والإيمانية المغلوطة من جهة أخرى، بهدف اكتساب المزيد من العناصر الإجرامية إلى التنظيم في دورته التالية، لا سيما أن هناك احتمالات لعودة نحو 2000 عنصر من المقاتلين السابقين في التنظيم من العراق وسوريا إلى أوروبا.
«داعش» لن يعود هذه المرة من الشرق الأوسط فحسب، بل هناك احتمالات واسعة ومفتوحة لامتداد شره إلى أفغانستان، حيث حالة الانفلات الأمني تجعل نشوءه وارتقاءه من جديد أمراً وارداً وبقوة، فحسب تقرير أصدره مركز الدراسات الدولية في واشنطن «سي إس آي إس»، عقب تبني التنظيم مؤخراً الهجوم الانتحاري على عرس في كابل ومقتل العشرات، فإن عدد مقاتليه في أفغانستان يصل اليوم إلى نحو أربعة آلاف مقاتل، يرتكزون في إقليم ننغارهار. ويشير التقرير إلى أن فرع التنظيم في أفغانستان لديه طموحات للسيطرة على مساحات كبيرة من الأرض كما فعل في سوريا والعراق عام 2014. هل باتت عودة «داعش» الثانية معقودة بناصية الأستاذ ضابط استخبارات صدام؟
مهما يكن من شأن الجواب، فالمؤكد أن الخطر «الداعشي» سوف يتزايد وبنوع خاص ما دام بقي الشرق الأوسط فاقداً للاستقرار، وبقدر ما تظل دول بعينها في مقدمتها تركيا وإيران وقطر من الداعمين الظاهرين تارةً والخفيين تارة أخرى.
في كل الأحوال يمكن القطع بأن المعارك العسكرية بمفردها لن تقضي على «داعش»... حرب الأفكار هي الأصل والأهم.