«المقاتلون الأجانب... وتبعات العودة

ما بين المحاكمة وسحب الجنسية

مجموعة من الأجانب تم أسرهم في أثناء مرورهم إلى سوريا من الحدود مع تركيا قبل ترحيلهم منها مرة أخرى بداية الشهر الجاري (غيتي)
مجموعة من الأجانب تم أسرهم في أثناء مرورهم إلى سوريا من الحدود مع تركيا قبل ترحيلهم منها مرة أخرى بداية الشهر الجاري (غيتي)
TT

«المقاتلون الأجانب... وتبعات العودة

مجموعة من الأجانب تم أسرهم في أثناء مرورهم إلى سوريا من الحدود مع تركيا قبل ترحيلهم منها مرة أخرى بداية الشهر الجاري (غيتي)
مجموعة من الأجانب تم أسرهم في أثناء مرورهم إلى سوريا من الحدود مع تركيا قبل ترحيلهم منها مرة أخرى بداية الشهر الجاري (غيتي)

لا تزال أوروبا والولايات المتحدة ترزح تحت تبعات التخلص من تنظيم «داعش» في العراق وسوريا وإشكالية كيفية التعامل مع «المقاتلين الأجانب»، على نسق ما حدث مع جاك لتس الملقب بـ«المتطرف جاك» مؤخراً. إذ سُحبت من جاك الجنسية البريطانية، وهو الذي كان يحمل الجنسيتين البريطانية والكندية، نتيجة سفره إلى سوريا للقتال في صفوف تنظيم «داعش» منذ عام 2014، الأمر الذي أدى إلى استياء كندا، حيث أُحيلت المسؤولية إليها، حيث تظهر الإشكالية القانونية إذ لا يُسمح للحكومات بترك مواطنين من دون جنسية.
وهي ليست بالقضية الأولى، حيث قامت السلطات البريطانية بسحب الجنسية ممن انخرط في القتال مع تنظيم «داعش» من مزدوجي الجنسية، على شاكلة شميمة بيغوم الملقبة بـ«عروس داعش» والتي انضمت إلى التنظيم منذ سن الخامسة عشرة، وتم تجريدها من جنسيتها وعدم السماح لها بالعودة إلى بريطانيا. وأكدت من جهتها رئيسة الحزب المسيحي الديمقراطي في ألمانيا أنغريت كرامب، خليفة أنجيلا ميركل في رئاسة حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي في ألمانيا، ضرورة تمرير قرار سحب الجنسية الألمانية ممن قاتل مع تنظيم «داعش» من ذوي الجنسيات المزدوجة. وهو أمر لا بد من مواجهته وتحديد سياسات في التعامل معه بالأخص بعد انخراط ما يزيد على 40 ألف مقاتل أجنبي، حسب إحصائيات الأمم المتحدة، قَدِموا إلى العراق وسوريا للانضمام إلى تنظيمات إرهابية. وإلى جانب المقاتلين الأجانب تأتي تبعات النساء والأطفال المنتمين إلى تلك التنظيمات. مخيم الهول في سوريا كشف عن أعداد هائلة من النساء والأطفال المنتمين إلى تنظيم «داعش» ممن قطنوا إقليم باغوز قبل نزوحهم إلى المخيم، وتجلت معاناتهم من أوضاع صحية سيئة إضافة إلى تأثرهم بالفكر الداعشي المتطرف، وتهديدهم للآخرين بالقتل والانتقام، وتأكيدهم استمرار تنظيم «داعش». مثل هذه السلوكيات من قِبل النساء والأطفال «الدواعش» أدت إلى فصلهم عن بقية قاطني المخيم. كما تعكس مدى التأثير السلبي على المحيط نتيجة التأثر بالفكر المتطرف والسلوكيات العنيفة. وعلى الرغم من ذلك فإنه يظهر توجه من قِبل الحكومات إلى استقبال الأطفال الذين رزحوا تحت وطأة قسوة وسلوكيات آبائهم نتيجة تطرفهم. وقد سمحت ألمانيا لأول مرة في أغسطس (آب) الحالي لأطفال يُشتبه في انتماء آبائهم إلى تنظيم «داعش» بالعودة إلى أراضيها. وصرح وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، بسعي بلاده لإعادة أطفال لآباء منتمين لـ«داعش» من سوريا إلى ألمانيا، وعدم تحميلهم مسؤولية ما فعله آباؤهم.

المحاكمة عبر السلطات
وتظهر ثلاثة توجهات نحو التعامل مع المقاتلين الأجانب: أولها أن تتم محاكمتهم من خلال السلطات المحلية، وهو أمر يصعب تحقيقه مثل ما حدث في العراق، حيث يتم فرض عقوبة الإعدام التي ترفضها السلطات الأوروبية. من جهته، أصدر القضاء العراقي حكم الإعدام بحق ما يصل إلى 11 فرنسياً ممن ينتمون إلى تنظيم «داعش». وذلك على الرغم من رفض السلطات الفرنسية تنفيذ حكم الإعدام بحق مواطنين من الجنسية الفرنسية، حيث إن الرئيس العراقي برهم صالح، أكد للسلطات الفرنسية أن الدواعش الأجانب سيحاكَمون وفق القانون العراقي.

محكمة دولية
التوجه الثاني جاء نتيجة مطالب أوروبية عراقية، ويتمحور حول إنشاء محكمة دولية مختصة بقضايا الإرهاب والمقاتلين الأجانب في العراق بمن فيهم المقاتلون الأجانب القادمون من دول أوروبية. وقد ناقشت وزيرة العدل الفرنسية نيكول بيلوبيه، في مطلع يونيو (حزيران) 2019 مقترحاً مع عدد من الدول الأوروبية من ضمنها ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا يقضي بتشكيل محكمة دولية تُعنى بمحاكمة «الإرهابيين» الأجانب الذين التحقوا بتنظيم «داعش». ويرى القانوني الألماني روبرت شولتس، أنه من الممكن إقامة مثل هذه المحكمة المستقلة على شاكلة نموج المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بشرط أن يتم اتفاق قانوني بين العراق ودول الاتحاد الأوروبي يستبعد عقوبة الإعدام. وقد تم إجراء دراسة احتمال وضع مسؤولية محاكمة المقاتلين الأجانب، الذين انضموا إلى تنظيم «داعش» من ِبل المحكمة الجنائية الدولية، كما أكدت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا، أمام مجلس الأمن الدولي، أن أجهزة المحكمة لديها الصلاحية للنظر في الجرائم التي يُتهم تنظيم «داعش» في ليبيا بارتكابها، حيث إن ذلك يعد من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليشمل مثل هذه الجرائم المفترضة. لكنها أكدت أن المسؤولية تقع في الدرجة الأولى على عاتق الدول في محاكمة رعاياها الذين التحقوا بصفوف التنظيم.

إعادة المقاتلين
فيما يتمثل الخيار الثالث في إعادة المقاتلين الأجانب، إلى أوطانهم، وهو الخيار الذي دعا الرئيس الأميركي دونالد ترمب، إليه ليتم توزيع أعباء وتبعات الخلافة الداعشية التي اندثرت على الدول المختلفة. في فبراير (شباط) 2019 قام ترمب بدعوة الدول الأوروبية إلى استعادة مقاتليها الذين يتجاوز عددهم 800 مقاتل وتم اعتقالهم في سوريا وتقديمهم إلى المحاكمة. فيما توعد الرئيس الأميركي في 21 أغسطس الدول الأوروبية بتسليمها مقاتلي «داعش» الأسرى الذين يحملون جنسياتها قسرياً في حال لم يرغب بعض الدول في استعادتهم مثل ألمانيا وفرنسا. ويأتي ذلك في ظل مساعي الولايات المتحدة لتقليص دورها في مواجهة تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، وتزايد احتمال معاودة التنظيم لملمة شتاته والقيام بضربات إرهابية جديدة. وقد صرح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في 20 أغسطس بأن تنظيم «داعش» لا يزال يمثل تهديداً وأنه «أقوى اليوم مما كان عليه قبل ثلاث أو أربع سنوات» وذلك في «بعض المناطق» في العراق وسوريا. هذا العبء لا يقتصر على الأوروبيين فحسب، إذ ظهرت قضايا لمن يحمل الجنسية الأميركية ممن سافر إلى العراق وسوريا وشارك في تنظيم «داعش». مثل ما حدث مع هدى مثنى وكيمبرلي بولمان الأميركيتين الكنديتين، وهما موجودتان في مخيم اللاجئين شمال شرقي سوريا، وعلى الرغم من أنهما أعربتا عن أسفهما العميق والرغبة في العودة إلى الولايات المتحدة فإنه لا يظهر استعداد لاستقبالهما مرة أخرى، وذلك إثر التشكيك في صحة حصول مثنى على الجنسية الأميركية وازدواجية جنسية بولمان. وهو ما يؤكد مدى تخوف الدول المختلفة من مخاطر عودتهم إلى دولهم.

العودة إلى الأوطان
لا تعد تبعات عودة المقاتلين الأجانب بالأمر السهل إن لم تتم معالجتها، بدءاً بوجود أعداد من المتطرفين ممن ليست لديهم قابلية لإعادة التأهيل بعد اعتيادهم على الممارسات المتطرفة، بالأخص مَن تقلد مناصب قيادية في التنظيم أو حمل قناعات دينية متشددة يصعب تغييرها. مثل هؤلاء يمكن تأثيرهم على المجتمع على اعتبار حيازتهم خبرة في ساحات القتال تضخم من قدراتهم وتسبغ عليهم قدرة على التأثير في المجتمعات بالأخص لدى مَن يشكّلون أقليات ولديهم قابلية للتطرف نتيجة شعورهم بالتهميش والانعزال عن بقية المجتمع لاختلافهم عنه. من جهة أخرى فإن الإعراب عن الندم على ما اقترفه المتطرف ورغبته في العودة إلى وطنه قد يكون نتيجة تضييق الحصار على التنظيم في كلٍّ من العراق وسوريا، وتغيير التنظيم لاستراتيجيته ورغبته في التغلغل في المجتمعات التي جاء منها المقاتلون الأجانب سواء عبر إيقاظ «خلايا نائمة» أو التأثير على الآخرين من خلال الرسائل الإعلامية إلكترونياً أو تحويل الأفراد إلى ذئاب منفردة بإمكانهم القيام بهجمات إرهابية.
أشارت الباحثة سيلفين سي، في المركز الدولي للعنف السياسي والإرهاب في سنغافورة، إلى مدى خطورة عودة المقاتلين الأجانب إلى بلدانهم، إذ سيحصلون على هوية خاصة لمقاتلين مسلحين مخضرمين مما يسبغ عليهم كاريزما مميزة تعطيهم قابلية لأن يصبحوا قادة متطرفين بإمكانهم التواصل مع من يعرفونهم من أعضاء التنظيم، الأمر الذي يعطيهم دافعاً لاستمرار انتمائهم لـ«داعش» والتواصل مع الآخرين إلكترونياً من أجل التجنيد أو نشر الحملات الدعائية لهم أو حتى التخطيط لعمليات إرهابية. فيما تطرق الباحث الزميل توماس هيغهامر في مركز أبحاث الدفاع النرويجي إلى عدد من العوامل التي تعزز ما وصفه بـ«الأزمة الجهادية في أوروبا»، وذكر أربعة أساسية منها وهي: زيادة عدد المسلمين الشباب ذوي الدخل الاقتصادي المحدود، الأمر الذي له صلة غير مباشرة بالتطرف أو الانضمام إلى التنظيمات المتطرفة، وزيادة عدد الناشطين ذوي الخبرة، أو بمعنى أوضح المقاتلين الأجانب العائدين من القتال المسلح إلى أوطانهم، إضافة إلى استمرار الأزمات المسلحة في عدد من دول العالم الإسلامي واستمرار أنشطة التنظيمات المتطرفة عبر الإنترنت واستغلالهم وسائل التواصل الاجتماعي. وعلى الرغم من إشكالية عودة المقاتلين الأجانب فإنه بالإمكان أن تتم مناصحة المتطرفين وإعادة تأهيلهم، لا سيما أولئك الذين لم ينخرطوا في قتال فعلي وإنما تم التغرير بهم، وذلك من خلال إعادة دمجهم في المجتمع. حيث إن ذلك أفضل لا محالة من بقاء المقاتلين الأجانب في العراق وسوريا.


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.