تواطؤ النقد مع الإبداع يساوي خطر تواطؤ الإبداع مع النقد

TT

تواطؤ النقد مع الإبداع يساوي خطر تواطؤ الإبداع مع النقد

الأجناس الأدبية قضية من قضايا النقد الأدبي تتم فيها عملية تقعيد قوالب الكتابة الأدبية في شكل نظريات تقنن الأسس الإبداعية، وتقترح أساسات الإنشاء والبناء، راسمة آفاقاً معرفية لكيفيات التنويع الكتابي ومقبوليات أنماطه، التي لا تخالف الأساسات النظرية المقعِّدة للأجناس، وإنما تبني عليها.
وقد احتلَّت قضية التجنيس الأدبي مكانة مهمة في نظريات الأدب على اختلاف تسمياتها وتاريخ تطورها وتنوع توجهاتها وتغاير أسسها وقوانينها، وما ذلك إلا لتوسط هذه القضية بين ممارستين، الممارسة الإبداعية التي أهم سماتها التحرر فنياً وموضوعياً، وعكسها الممارسة النقدية التي لا مكان فيها للتحرر الذي صادرته مواضعات الفكر واشتراطات المنطق.
وما بين التحرر وعدمه تتجلى إشكالية التجنيس الأدبي، بوصف التجنيس عملاً تصنيفياً ووصفياً، به يوسم عمل إبداعي ما بوسم معين، ليندرج بعدها في فئة تشاكله كتابياً وتتوافق معه قرائياً. ولا مجال لأن يمتلك ذاك الوسم وهذا الاندراج الشرعية، إلا إذا كان بين الناقد ومنتج النص ميثاق أو اتفاق يأتلف بموجبه النقد مع المنتج الإبداعي وعندذاك سيصحّ التجنيس، بينما يُقطع الطريق أمام محاولة الخروج عليه، لأنَّ هدف الخروج على التجنيس هو التجديد، فإذا أقرَّ النقد بالتجنيس في كتابة أدبية ما، انتفت سمة التجديد وصار للكتابة قالب محدد ومتواضع عليه مسبقا نظرياً وإجرائياً.
ولا تجنيس من دون وفرة الكتابة الإبداعية فيه، كما أنه لا نوع إبداعيا وافر الإنتاج من دون تجنيس، وهذه وظيفة النقد الذي به يصبح الأدب مكتملاً. والأدب تحرره المخيلة، بيد أن النقد يرتبط بالعلمية. وبهذا يستحيل على الأدب أن يستغني عن النقد، مثلما يتعذر على النقد أن يكون منطلِقاً من المخيلة.
وتتجلى هذه الجدلية الإبداعية أكثر إذا كنا بصدد تصنيف النصوص وفرزها، محاولين جعل كل صنف منها في قالب أو خانة لها مواصفاتها النوعية والكمية وأسسها الداخلية والخارجية التي تصنّف وتبوّب على وفق آلية «التجنيس».
ولقد بتنا في الآونة الأخيرة نشهد توانياً معرفياً عند بعض الدارسين عن فهم متغيرات النظرية الأدبية، وإدراك عمق التطورات المهمة والمتلاحقة التي تطرأ عليها، أو الإلمام بحيثياتها المتنوعة ومديات الجدل النظري الدائر حول الثلاثية المفاهيمية (الإبداع، الأدب، النقد)، الأمر الذي أوقع كثيرين في إشكالية لا مفر منها، وهي تواطؤ النقد مع الإبداع، الذي هو في خطره يساوي خطر تواطؤ الإبداع مع النقد.
ولا شك أنّ في التواطؤ استهانة بعملية التجنيس، كونه يجعلها متاحة بلا ضوابط ولا محددات، ومعروف أن النقد تجاوز منذ زمن بعيد منطقة المواضعة الكتابية التي فيها الكتابة النقدية تتلاقى بالكتابة الأدبية، وغادرها إلى منطقة المنهجيات والرؤى المستنيرة بالعلم وحيثياته، المستندة إلى خلفيات معرفية مختلفة ومتباينة. ومن غير اليسير استيعاب دقائق هذه المنهجيات نظراً وإجراءً من دون دراسة وبحث متخصصين.
ولا شك أن المنهجيات النقدية هي التي نقلت الممارسة النقدية نقلة نوعية، فصار العلم والمنطق والفلسفة أركاناً لا غنى للناقد عنها، بل أثافٍ عليها تستقر خطواته وترسخ. ولا طائل أمام أي ناقد أدبي لتجاوزها أو القفز عليها.
والاختمار أو النضج شرط من شروط القطع بالأجناسية في أي كتابة أدبية، من منطلق أن التاريخ يلعب دورا مهما في التوشح بالرسوخ والصلادة التي على أساسها يتموضع الجنس بوصفه حاضناً في قالب يتسع لأن تُصب فيه مختلف أنواع الكتابة الإبداعية.
ولا ثبات لنظرية إلا بظهور نظرية تكملها أو تضادها. وفي كلا الحالين يكون التعقيد مثار تغيير وتبديل مستمرين، وهكذا نشأت إشكاليتان: الإشكالية الأولى تتعلق بالعملية الإبداعية نفسها، متجسدة في حريتها وتميزها، حيث لا مجال لتقييد الإنشاء فيها بقالب أو نموذج أو بنيان. والإشكالية الثانية تتعلق بالعملية النقدية التي لا ثبات فيها عند نظرية معينة، ولا انتهاء عند معطيات بعينها، تتوجه بهما مقولبة الإبداع على وفقها، ومكيفة إنتاجه إجراء أو تمثيلاً لصالح توجهاتها.
والمتحصل عليه من هاتين الإشكاليتين أنَّ الأجناس نهائية حين ترتكن إلى النقد، ولا نهائية حين تستند إلى الإبداع. وما بين النهائية واللانهائية نقع في إشكالية ثالثة تتمثل في المديات التي يُسمح فيها لجنس أدبي يضمُّ بعضاً من الأشكال والأنماط تحته، أن يكون قادراً على العبور إلى جنس آخر، مجسِّرا المسافة بينهما وإن لم تكن بينه وبين ذاك الجنس أي قرابة تؤهله لأن يتضايف معه تهجيناً ومزاوجة واندماجاً.
إن هذا الإشكال المعرفي الدائر حول نظرية الأجناس هو الذي يحتّم الوقوف عند معضلات التفرد ومآزق التضايف إزاء مفاهيم «الجنس، النوع، النمط، الصيغة، الشكل»، الأمر الذي يحتاج إلى تأطير الإشكال الأجناسي بالرؤى والتصورات بغية إعادة النظر في عملية التقعيد بطريقة معرفية تجعلنا نقف على طبيعة الحدود التقريبية التي تلف كل جنس داخلها، ومدى الإمكانيات التي يتمتع بها كل حدٍّ في السماح لحد آخر أن يخترقه كابحاً مقاومته أمام عبور حدود أخرى إليه من جنس يخالفه، أو نوع منبثق عنه.
والمبتغى المراد بلوغه هو إدراك الفائدة في هشاشة حد أو أكثر من أجل استقبال الوافد الأجناسي أو النوعي، وأهمية المرونة في خدمة عملية التجسير بين حدودهما، وبما يمنح الحد الواحد قابلية التعدي على حد آخر بعيد عنه أو قريب منه، ومن ثم التلاقي معه، والذي به تتحقق انسيابية الانسلال إلى الحدود الأخرى، باتجاه توليفة أجناسية لا يبان فيها للحدود أي أطر أو قيود أو بؤر، مع بقاء احتمال حصول العكس متوقعاً، تبعا لحقيقة ما يحويه الحدّ الواحد من الكوابح والمضادات التي معها يظل كل جنس محتفظاً باختلافه عن غيره، مطمئناً إلى صحة أداء كل حدٍّ من حدوده لمتطلبات الاستقلال والتفرد.
ولعل هذا الاستنتاج سيلغي مفهوم الحد بكل تمفصلاته التجنيسية، لنتيقن من أن التداخل الأجناسي والتضايف النوعي والاندماج الشكلي والتعاين النمطي والتقارب الصيغي، أمر واقع لا محالة، وحقيقة ناجزة ليس لدحضها أو التحايل عليها أساس من منطق.
وما بين الولادة الشرعية لجنس عابر لم تعد المحصلات النظرية تسمح بولادة غيره، والتفريع والتوليد لأنواع تنضوي هجينة بين جنسين أو أكثر، يتأتى تتبعنا لمسألة التجنيس بوصفها قضية عبور نظري، هي بمثابة إشكالية على مستوى النقد الراهن، بينما هي طبيعية ومعتادة على مستوى الكتابة الإبداعية التي تكفلها حرية المبدع في الكتابة. وهذه الحرية التي لا تعرف التحدد في قوالب ولا الالتزام بسمات، لم يعد أمر تقبلها والتعامل معها كما كان في مرحلة النقد الكلاسيكي الأرسطي.
والخلاف بين النظريات لن يضع أوزاره يوما؛ فناقد يقر بأن لا جنس له القابلية على التجاوز عابراً إلى جنس آخر بدعوى قطعية الحدود وشائكية أسلاكها التي لا تسمح لأي عابر أن يمر من خلالها، ومن ذلك مثلاً أن المسرح نوع من أنواع الشعر الذي هو أقدر من النثر على تجسيد الصراع الدرامي، وناقد ثانٍ مقتنع بأن ليس من حدٍّ له القابلية على الصمود أمام الانتهاك والاختراق الإبداعيين لتنشأ أجناس جديدة، ومن ذلك القول إن القصة القصيرة جداً جنس أدبي مستقل، ثم يأتي ناقد ثالث لينفي نظرية النوع بالتمام والكمال، قائلاً إنّ الأجناس متداخلة مبدأً ومنتهى وأن لا جنس إلا وهو منضوٍ في صلب جنس ثانٍ قريب منه أو بعيد، كالقول مثلاً إن الرواية التاريخية أو القصيدة الدرامية أو الميتارواية أجناس لوحدها.
إنَّ فك الاشتباك حول هذه التصورات النظرية والادعاءات اللانظرية التي تنقسم فيما بينها حول جدوى الخوض وأهمية التعامل معها في نقدنا العربي المعاصر والراهن ينبغي أن يكون هو مطلبنا ومقصد عملنا، واضعين نصب أعيننا ما قدّمه النقد الغربي من معطيات تعيننا على فهم لب القضية وما حولها وقبل ذلك الوقوف على أسس الاشتباك فيها.
- أكاديمية وناقدة عراقية



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.