احتدام السجال حول التوازن الطائفي يعيد طرح مطلب «الدولة المدنية»

TT

احتدام السجال حول التوازن الطائفي يعيد طرح مطلب «الدولة المدنية»

لطالما كان طرح الدولة المدنية يطل برأسه عند كل مفترق واستحقاق، خصوصاً مع تعدد الأزمات التي يواجهها النظام السياسي اللبناني الحالي، والتي تنعكس شغوراً وتعطيلاً لمؤسسات ومواقع الدولة.
ويتبنى رئيس المجلس النيابي نبيه بري، هذا الطرح، ويروج له من بوابة إلغاء الطائفية السياسية، بينما كان رئيس الحكومة سعد الحريري، قد دعا إليها مرات عدة، وقال عام 2015 «أنا متطرف لبناء الدولة المدنية»، وهو الأمر الذي يطالب به دائماً «الحزب التقدمي الاشتراكي»، برئاسة وليد جنبلاط، كما أعلن وزير الخارجية رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، أخيراً، جهوزيته لإقامة تحالف مع بري لتحقيق الدولة المدنية.
كان بري قد طرح هذا الأمر على هيئة الحوار الوطني، قبل سنوات، مطالباً بتشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية السياسية من دون أن يصل بطرحه إلى نتائج عملية. وجدد خلال تعثر عملية تشكيل الحكومة الحالية الدعوة للدولة المدنية، على اعتبارها «خلاص» لبنان. ولا تُعارض أي من القوى السياسية علناً إقامة دولة مدنية في لبنان، لكنها لا تروج لها، إلا أن السجال الذي اندلع أخيراً بين القوى السياسية، وبالتحديد على خلفية مطالبة باسيل بتحقيق المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في وظائف الفئات الثانية والثالثة، وما دونها في القطاع العام، دفع بكثيرين إلى التساؤل حول حقيقة تمسك «الوطني الحر» بالدولة المدنية. فما كان من باسيل إلا أن أكد أن تياره يريد الدولة المدنية «ولكن طالما أن الطائفية هي المعتمدة، فإننا نتمسك بالشراكة والمناصفة، ونعتبر أن المس بها هو مس بـ(اتفاق الطائف)، وليس فقط بالدستور». ويعتبر البعض أن لا مصلحة للمسيحيين في لبنان بقيام الدولة المدنية، في ظل تراجع أعدادهم بشكل كبير مقارنة بأعداد المسلمين، خصوصاً أن الدراسة الأخيرة لشركة «الدولية للمعلومات» أشارت إلى أن المسيحيين هم 30 في المائة فقط من عدد سكان لبنان. إلا أن آخرين يؤكدون أن حماية المسيحيين لا تتأمن إلا بمدنية الدولة. وهو ما يعبّر عنه النائب السابق والقانوني غسان مخيبر الذي يلفت إلى أن «الوثيقة التي أصدرها البابا بنديكت عن مسيحيي الشرق أكدت أن حمايتهم لا تكون إلا من خلال الدولة المدنية»، قائلاً لـ«الشرق الأوسط»: «أصلاً النظام الدستوري اللبناني هو نظام لدولة مدنية يبدو السير بها حالياً أشبه بالتحدي وأمر معقد يحتاج لمؤسسات فعالة ولثقافة مواطنية، كما لتطوير المنظومة التربوية ومنظومة الأحوال الشخصية واعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة».
ويعتبر مخيبر أن «إلغاء الطائفية السياسية أداة للوصول إلى الدولة المدنية، باعتبار أن ما تتم الدعوة إليه لبنانياً ليس الدولة العلمانية، من منطلق أن هناك خصوصية للنظام اللبناني تضمنها المادة 9 من الدستور التي تعطي حقوقاً للطوائف عبر مجلس الشيوخ، فيكون مجلس النواب من خارج القيد الطائفي، فيما يضمن مجلس الشيوخ الخصوصية الطائفية في لبنان على أساس المناصفة بين المسيحيين والمسلمين». وكما مخيبر، كذلك الأب طوني خضرا، رئيس مؤسسة «لابورا» التي تُعنى بتأمين فرص عمل للشباب المسيحيين، يعتبر أن مصلحة المجتمع المسيحي في لبنان اليوم هي بقيام دولة مدنية مبنية على حقوق الفرد والكفاءة: «فرغم قوة الشعور الديني في لبنان والمنطقة، إلا أن الإمارات الدينية تتجه حتماً إلى الزوال، ما يحتم السير باكراً باتجاه المجتمع المدني الذي يضمن حقوق الجميع».
ويرد خضرا، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، انكفاء المسيحيين، خصوصاً في الفترة الممتدة من عام 1990 إلى عام 2008، عن الدخول إلى القطاع العام، لعدم احترام آليات التوظيف والتعاطي مع المسيحيين على اعتبار أنهم خسروا الحرب، فنفي زعماؤهم وسجنوا، ما جعلهم يشعرون أنهم لم يعودوا ينتمون إلى هذه الدولة، وقد انعكس ذلك تراجعاً في أعداد المتقدمين إلى الوظائف العامة من 48 في المائة في عام 1990 وقبله إلى 13.5 في المائة في المرحلة ما بين 1990 و2008، كاشفاً أن نسبة المسيحيين اليوم في القطاع العام في كل الفئات، تبلغ وفق دراسة حديثة 34.7 في المائة.
ويبقى موقف «حزب الله» من الدولة المدنية هو الأكثر غموضاً، إذ لم يصدر عنه يوماً موقف واضح من هذا الموضوع، وإن كان يؤيد طرح حليفه بري إلغاء الطائفية السياسية. وفي هذا الإطار يقول قاسم قصير، الكاتب والمحلل السياسي، المتخصص في شؤون «حزب الله»، أن نهج «حزب الله» يقوم على الدعوة لإقامة الدولة الإسلامية، وإن كان أقر أكثر من مرة على لسان أكثر من مسؤول فيه أن الظرف في لبنان لا يسمح بذلك، لافتاً في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «عدم صدور موقف واضح منه بخصوص الدولة المدنية لا يعني أنه يرفضها، خصوصاً في ظل إصراره دوماً على الدعوة لقيام دولة قوية وعادلة».



اللاجئون الفلسطينيون يعودون إلى مخيم «اليرموك» في سوريا

اللاجئ الفلسطيني خالد خليفة يدعو لابنه المدفون في مقبرة مخيم اليرموك المدمرة (أ.ف.ب)
اللاجئ الفلسطيني خالد خليفة يدعو لابنه المدفون في مقبرة مخيم اليرموك المدمرة (أ.ف.ب)
TT

اللاجئون الفلسطينيون يعودون إلى مخيم «اليرموك» في سوريا

اللاجئ الفلسطيني خالد خليفة يدعو لابنه المدفون في مقبرة مخيم اليرموك المدمرة (أ.ف.ب)
اللاجئ الفلسطيني خالد خليفة يدعو لابنه المدفون في مقبرة مخيم اليرموك المدمرة (أ.ف.ب)

كان مخيم اليرموك للاجئين في سوريا، الذي يقع خارج دمشق، يُعدّ عاصمة الشتات الفلسطيني قبل أن تؤدي الحرب إلى تقليصه لمجموعة من المباني المدمرة.

سيطر على المخيم، وفقاً لوكالة «أسوشييتد برس»، مجموعة من الجماعات المسلحة ثم تعرض للقصف من الجو، وأصبح خالياً تقريباً منذ عام 2018، والمباني التي لم تدمرها القنابل هدمت أو نهبها اللصوص.

رويداً رويداً، بدأ سكان المخيم في العودة إليه، وبعد سقوط الرئيس السوري السابق بشار الأسد في 8 ديسمبر (كانون الأول)، يأمل الكثيرون في أن يتمكنوا من العودة.

في الوقت نفسه، لا يزال اللاجئون الفلسطينيون في سوريا، الذين يبلغ عددهم نحو 450 ألف شخص، غير متأكدين من وضعهم في النظام الجديد.

أطفال يلعبون أمام منازل مدمرة بمخيم اليرموك للاجئين في سوريا (أ.ف.ب)

وتساءل السفير الفلسطيني لدى سوريا، سمير الرفاعي: «كيف ستتعامل القيادة السورية الجديدة مع القضية الفلسطينية؟»، وتابع: «ليس لدينا أي فكرة لأننا لم نتواصل مع بعضنا بعضاً حتى الآن».

بعد أيام من انهيار حكومة الأسد، مشت النساء في مجموعات عبر شوارع اليرموك، بينما كان الأطفال يلعبون بين الأنقاض. مرت الدراجات النارية والدراجات الهوائية والسيارات أحياناً بين المباني المدمرة. في إحدى المناطق الأقل تضرراً، كان سوق الفواكه والخضراوات يعمل بكثافة.

عاد بعض الأشخاص لأول مرة منذ سنوات للتحقق من منازلهم. آخرون كانوا قد عادوا سابقاً ولكنهم يفكرون الآن فقط في إعادة البناء والعودة بشكل دائم.

غادر أحمد الحسين المخيم في عام 2011، بعد فترة وجيزة من بداية الانتفاضة ضد الحكومة التي تحولت إلى حرب أهلية، وقبل بضعة أشهر، عاد للإقامة مع أقاربه في جزء غير مدمر من المخيم بسبب ارتفاع الإيجارات في أماكن أخرى، والآن يأمل في إعادة بناء منزله.

هيكل إحدى ألعاب الملاهي في مخيم اليرموك بسوريا (أ.ف.ب)

قال الحسين: «تحت حكم الأسد، لم يكن من السهل الحصول على إذن من الأجهزة الأمنية لدخول المخيم. كان عليك الجلوس على طاولة والإجابة عن أسئلة مثل: مَن هي والدتك؟ مَن هو والدك؟ مَن في عائلتك تم اعتقاله؟ عشرون ألف سؤال للحصول على الموافقة».

وأشار إلى إن الناس الذين كانوا مترددين يرغبون في العودة الآن، ومن بينهم ابنه الذي هرب إلى ألمانيا.

جاءت تغريد حلاوي مع امرأتين أخريين، يوم الخميس، للتحقق من منازلهن. وتحدثن بحسرة عن الأيام التي كانت فيها شوارع المخيم تعج بالحياة حتى الساعة الثالثة أو الرابعة صباحاً.

قالت تغريد: «أشعر بأن فلسطين هنا، حتى لو كنت بعيدة عنها»، مضيفة: «حتى مع كل هذا الدمار، أشعر وكأنها الجنة. آمل أن يعود الجميع، جميع الذين غادروا البلاد أو يعيشون في مناطق أخرى».

بني مخيم اليرموك في عام 1957 للاجئين الفلسطينيين، لكنه تطور ليصبح ضاحية نابضة بالحياة حيث استقر العديد من السوريين من الطبقة العاملة به. قبل الحرب، كان يعيش فيه نحو 1.2 مليون شخص، بما في ذلك 160 ألف فلسطيني، وفقاً لوكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين (الأونروا). اليوم، يضم المخيم نحو 8 آلاف لاجئ فلسطيني ممن بقوا أو عادوا.

لا يحصل اللاجئون الفلسطينيون في سوريا على الجنسية، للحفاظ على حقهم في العودة إلى مدنهم وقراهم التي أُجبروا على مغادرتها في فلسطين عام 1948.

لكن، على عكس لبنان المجاورة، حيث يُمنع الفلسطينيون من التملك أو العمل في العديد من المهن، كان للفلسطينيين في سوريا تاريخياً جميع حقوق المواطنين باستثناء حق التصويت والترشح للمناصب.

في الوقت نفسه، كانت للفصائل الفلسطينية علاقة معقدة مع السلطات السورية. كان الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد وزعيم «منظمة التحرير الفلسطينية»، ياسر عرفات، خصمين. وسُجن العديد من الفلسطينيين بسبب انتمائهم لحركة «فتح» التابعة لعرفات.

قال محمود دخنوس، معلم متقاعد عاد إلى «اليرموك» للتحقق من منزله، إنه كان يُستدعى كثيراً للاستجواب من قبل أجهزة الاستخبارات السورية.

وأضاف متحدثاً عن عائلة الأسد: «على الرغم من ادعاءاتهم بأنهم مع (المقاومة) الفلسطينية، في الإعلام كانوا كذلك، لكن على الأرض كانت الحقيقة شيئاً آخر».

وبالنسبة لحكام البلاد الجدد، قال: «نحتاج إلى مزيد من الوقت للحكم على موقفهم تجاه الفلسطينيين في سوريا. لكن العلامات حتى الآن خلال هذا الأسبوع، المواقف والمقترحات التي يتم طرحها من قبل الحكومة الجديدة جيدة للشعب والمواطنين».

حاولت الفصائل الفلسطينية في اليرموك البقاء محايدة عندما اندلع الصراع في سوريا، ولكن بحلول أواخر 2012، انجر المخيم إلى الصراع ووقفت فصائل مختلفة على جوانب متعارضة.

عرفات في حديث مع حافظ الأسد خلال احتفالات ذكرى الثورة الليبية في طرابلس عام 1989 (أ.ف.ب)

منذ سقوط الأسد، كانت الفصائل تسعى لتوطيد علاقتها مع الحكومة الجديدة. قالت مجموعة من الفصائل الفلسطينية، في بيان يوم الأربعاء، إنها شكلت هيئة برئاسة السفير الفلسطيني لإدارة العلاقات مع السلطات الجديدة في سوريا.

ولم تعلق القيادة الجديدة، التي ترأسها «هيئة تحرير الشام»، رسمياً على وضع اللاجئين الفلسطينيين.

قدمت الحكومة السورية المؤقتة، الجمعة، شكوى إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تدين دخول القوات الإسرائيلية للأراضي السورية في مرتفعات الجولان وقصفها لعدة مناطق في سوريا.

لكن زعيم «هيئة تحرير الشام»، أحمد الشرع، المعروف سابقاً باسم «أبو محمد الجولاني»، قال إن الإدارة الجديدة لا تسعى إلى صراع مع إسرائيل.

وقال الرفاعي إن قوات الأمن الحكومية الجديدة دخلت مكاتب ثلاث فصائل فلسطينية وأزالت الأسلحة الموجودة هناك، لكن لم يتضح ما إذا كان هناك قرار رسمي لنزع سلاح الجماعات الفلسطينية.