عودة قوية لـ«الشباب» الصومالية إلى دائرة الضوء

بعد أن اشتد عودها بسبب الدعم القطري ـ التركي ـ الإيراني

دمار وخراب بسبب تفجير انتحاري قرب البرلمان في العاصمة مقديشو يونيو الماضي (رويترز)
دمار وخراب بسبب تفجير انتحاري قرب البرلمان في العاصمة مقديشو يونيو الماضي (رويترز)
TT

عودة قوية لـ«الشباب» الصومالية إلى دائرة الضوء

دمار وخراب بسبب تفجير انتحاري قرب البرلمان في العاصمة مقديشو يونيو الماضي (رويترز)
دمار وخراب بسبب تفجير انتحاري قرب البرلمان في العاصمة مقديشو يونيو الماضي (رويترز)

مرة جديدة، تعود «حركة الشباب» الصومالية إلى واجهة الإرهاب، وهي التي لم تتوارَ أبداً عن هذا الميدان المكروه، وذلك عبر تبنيها عملية إرهابية جديدة، تمثلت في تفجير أكثر من سيارة ملغمة في قاعدة عسكرية صومالية، في مدينة «اوديغلي» الزراعية الواقعة على نهر شبيلي، على بعد 70 كيلومتراً جنوب غربي مقديشو، الأسبوع الماضي.

الحركة الإرهابية الصومالية المرتبطة بتنظيم القاعدة أشارت إلى أن الانفجارين أسفرا عن سقوط نحو 50 جندياً، ومقتل اثنين من إرهابييها، وذلك بحسب المتحدث باسم العمليات العسكرية فيها، عبد العزيز أبو مصعب. وتبدو عمليات «الشباب» الصومالي متصاعدة بشكل كبير في الأيام الأخيرة، ذلك أنه إن كان الهجوم على هذا المعسكر قد جرى الشهر الحالي، فإنه في يوليو (تموز) الماضي أيضاً تبنت الحركة عينها هجوماً انتحارياً أدى إلى مقتل 26 شخصاً، وإصابة العشرات في الصومال، وذلك بعد الانقضاض على فندق كيسمايو الشهير، مع عدد من المطاعم، مستهدفين اجتماعاً للنواب وشيوخ القبائل هناك، مما أسفر عن عشرات القتلى والمصابين.
ويعن لنا أن نتساءل بداية: هل ما نراه أمر جديد بالنسبة لهذا التنظيم الإرهابي، أم أن هناك ملامح ومعالم لدعم خفي جديد يتلقاه التنظيم، ولأهداف تخفى عن أعين المراقبين السياسيين والأمنيين، عطفاً على أجهزة العالم الاستخباراتية؟
لا يمكننا الحديث عن تلك الحركة دون التأصيل لها، بمعنى إظهار عمق علاقاتها بجماعات الإسلام السياسي، ومموليها عبر العالم، وهي تتبع فكرياً تنظيم القاعدة، ويصل تعدادها إلى نحو 10 آلاف عضو، ويعتقد أن المنتمين إليها يتلقون تدريبات في بعض الدول الأفريقية المجاورة للصومال.
وتقوم الحركة بالتضييق على المواطنين، وممارسة السيادة الفقهية عليهم، عبر مفاهيمها الخاصة الضيقة المتزمتة للشريعة، فيما يتهمهم الرئيس الصومالي «شريف شيخ أحمد» بتشويه الإسلام ومضايقة النساء.
التأصيل والتجذير العميقين لحركة الشباب الصومالي يوضحان لنا أنها خرجت من رحم تنظيم القاعدة وجماعة الإخوان المسلمين، فقد كانت التسعينات هي الفترة المؤلمة التي تهاوت فيها أركان الدولة الصومالية، ونشأت جماعات إرهابية مختلفة الأسماء والتوجهات، بل والولاءات، وعرفت الشباب بداية باسم «الاتحاد الإسلامي». ونشطت «الشباب» في تنظيم معسكرات تدريب لإرهابييها في مدينة كيسمايو، ثم تشعبت بعد ذلك إلى مناطق أخرى في الداخل الصومالي، مثل غدو ورأس كامبوني، وتغذت الحركة على تسجيلات من أفغانستان، لا سيما تلك التي خلفها من وراءه عبد الله عزام، منظر المتطرفين العرب والأفغان الأشهر في ثمانينات القرن المنصرم، والمعلم الآيديولوجي الأول والأكبر لأسامة بن لادن.
عبر نحو عقدين من الزمن، اشتد عود «حركة الشباب» الصومالية، كما يمكن القطع بأن هناك أنظمة مجاورة للصومال استغلت حالة التفكك والتفسخ في الداخل الصومالي لاستخدام تلك الجماعة كخنجر في خاصرة الأعداء السياسيين، لا سيما بعد أن بلورت الحركة نفسها من فصيل سياسي ينتهج العنف المسلح إلى جماعة إرهابية ترتكب العنف بشكل عشوائي تنفيذاً لأجندات خارجية، مقابل الأموال حيناً، ولإثبات وجودها في أحيان أخرى.
ويصف مرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تنظيم الشباب» في الصومال بأنه «نبتة خبيثة»، ويشير بيان صدر منذ بضعة أسابيع إلى أنه حين يتحد الجهل بالإرهاب «يفرز لنا نبتة خبيثة تكبر وتترعرع على أشلاء الضعفاء، وبدماء الأبرياء، وهذا هو حال (حركة الشباب) الصومالية التي تخرج علينا يوماً بعد يوم بفتاوى تكفيرية ليس لها أصل في الدين، ولا تتناسب مع سماحة الإسلام ووسطيته، وكان آخرها أن المشاركة في الانتخابات، سواء كانت رئاسية أو برلمانية أو غيرها، هي من الكفر البواح الذي يستتاب منه المرء، وإلا فالقتل مصيره وعقابه».
بيان مرصد الأزهر يلفت، كما أشرنا في مقدمة هذه السطور، إلى أنه خلال الآونة الأخيرة صعدت الحركة من وتيرة العمليات الإرهابية في الصومال بسبب الانتخابات البرلمانية. كما طالبت جميع شيوخ العشائر الذين شاركوا في الانتخابات البرلمانية والمحلية بإعلان التوبة أمام الحركة، وأمهلتهم 45 يوماً.
من يقف وراء الحركة؟ ومن يقدم لها الدعم المالي واللوجيستي؟
لا يمكن أن يخرج الإرهاب بعيداً عن ثلاثي الشر، المتمثل في تركيا وإيران وقطر دفعة واحدة، وهو الأمر الذي لفتت إليه تسريبات ويكيليكس، حيث أشارت إلى أن واشنطن طلبت رسمياً من قطر وقف تمويل الحركة الإرهابية هذه.
وتظهر بعض الوثائق التي نشرها موقع التسريبات الشهير «ويكيليكس» أن الدوحة عملت جاهدة، وعبر إغراءات متنوعة، على استقطاب ما يعرف بـ«خلية عبد القادر مؤمن» التابعة لحركة الشباب الإرهابية الصومالية، التي أعلنت مؤخراً انفصالها عن الحركة، وبايعت تنظيم داعش، واستقرت في شمال الصومال، وأصبحت تتلقى التدريبات والتمويلات بشكل مباشر من المخابرات القطرية، تحت ستار مساعدات التنمية والإغاثة الإنسانية.
ما الذي تسعى قطر تحديداً وراءه في أفريقيا؟
من الواضح جداً أن الدوحة تسعى لبناء شبكة عنكبوتية إرهابية، تستخدم فيها دورها وعلاقاتها مع جماعات التطرف السياسي، لتجد لها موطئ قدم في وسط القارة السمراء. وبحسب محللين استخباريين، فإن الصومال تعد نقطة ارتكاز رئيسية بالنسبة لقطر تنطلق منها في شكل أفقي، وتمول أكثر من تنظيم أو جماعة إرهابية تعمل في مقديشو وخارجها عبر ضباط مخابرات قطريين، وتتجمع خيوطها لدى «تنظيم الحمدين»، ويجمعهما معاً ضمان التمويل والدعم القطري.
لم يكن ما نشرته «ويكيليكس» بعيداً عما أماطت اللثام عنه صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية ذائعة الصيت مؤخراً، عن مضمون اتصال هاتفي بين السفير القطري في الصومال ورجل أعمال مقرب من أمير قطر، يقول فيه الأخير إن مسلحين نفذوا تفجيراً في مدينة بوساو (شمال شرقي الصومال) خدمة للمصالح القطرية عبر طرد منافستها الإمارات.
وجرى التفجير المشار إليه في الاتصال الهاتفي في شهر مايو (أيار) الماضي، واستهدف سيارة رئيس المحكمة العليا في المدينة، وأدى إلى إصابة 8 أشخاص بجروح. وفي الاتصال المسجل، الذي حصلت «نيويورك تايمز» على نسخة منه، وجرى في 18 مايو (أيار)، يقول رجل الأعمال خليفة قايد المهندي إن «التفجيرات والاغتيالات نحن نعرف من يقف وراءها»، ويضيف أن العنف «يهدف إلى دفع جماعة دبي إلى الهرب بعيداً».
بقية الحديث الصوتي يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك الدور القطري في داخل الصومال، فوفق «نيويورك تايمز»، فإن السفير القطري حسن بن حمزة هاشم لم يبدِ أي احتجاج أو انزعاج من فكرة تأدية القطريين دوراً في هذه التفجيرات، إذ يقول على الهاتف لرجل الأعمال القطري: «إذن لهذا السبب نفذوا الهجوم هناك، ليدفعوهم إلى الهرب»، فيؤكد له رجل الأعمال «أصدقاؤنا كانوا وراء التفجيرات الإرهابية».
اين تركيا من المشهد الصومالي المشتعل عبر إرهاب «حركة الشباب»؟
يكشف تقريراً دولياً صدر في السويد، وأشار إليه موقع «نورديك مونيتور»، أن الاستخبارات التركية مولت حركة الشباب الصومالية عبر عميل كان سجيناً سابقاً في غوانتانامو، أي من خلال أحد رجالات «القاعدة» سابقاً.
المثير أن تركيا التي لديها قاعدة عسكرية في الصومال، تتذرع بأنها وجدت لدعم الدولة الصومالية، يقوم أحد عملائها، ويدعى إبراهيم سين، البالغ من العمر نحو 37 سنه، بنقل 600 ألف دولار إلى حركة الشباب في سبتمبر (أيلول) وديسمبر (كانون الأول) عام 2012.
والشاهد أن وزارة الخزانة الأميركية، التي اكتشفت الأمر وأرسلت إلى إردوغان رسالة مباشرة لفتح تحقيق حول الدعم التركي للإرهاب هناك، لم تتلقَ أي رد من أنقرة، بل التصرف الوحيد الذي قام عليه إردوغان هو أنه أمر بوقف التحقيقات، وإغلاق القضية الخاصة بالمواطن سين الذي عمل لصالح المخابرات التركية في نقل المقاتلين من وإلى سوريا، بحسب ملف التحقيقات الذي رفعت عنه السرية في يناير (كانون الثاني) 2014. وكان سين قد تم اعتقاله في باكستان لصلته بتنظيم القاعدة، واحتجز في غوانتانامو حتى عام 2005.
ولا يكتمل مثلث الإرهاب في الصومال بعد قطر وتركيا من دون إيران، وقد أشارت تقارير استخباراتية متعددة، عطفاً على قراءات لمراكز دراسات موثوقة، إلى أن إيران تتغلغل في غرب ووسط أفريقيا، لنشر مبدأ التشيع من جهة، وللحصول على أهم سلعة يقوم عليها مشروعها النووي في الوقت الحاضر، أي اليورانيوم الموجود في الصومال، وبكميات كبيرة، لا سيما في منطقة تسمى جالمودغ.
يضيق المسطح المتاح للكتابة عن شرح ما تفعله إيران بدورها في الصومال، إنما المؤكد، وبحسب تقرير لفريق الرصد الدولي الخاص بالأمم المتحدة عن الصومال، أن طهران سعت - ولا تزال - للحصول على كميات كبيرة من اليورانيوم من الصومال، مقابل توريد أسلحة لمتطرفي «تنظيم الشباب».


مقالات ذات صلة

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)
أوروبا القاتل النرويجي أندرس بيرينغ بريفيك (إ.ب.أ)

«سفاح النرويج» يطلب الإفراج المشروط للمرة الثانية

مَثُل القاتل النرويجي، أندرس بيرينغ بريفيك، الذي قتل 77 شخصاً في حادث تفجير وإطلاق نار عشوائي عام 2011، أمام المحكمة، الثلاثاء، لحضور جلسة استماع بشأن إطلاق

«الشرق الأوسط» (أوسلو)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.