بينما كانت موسكو تحتفي الأسبوع الماضي، بمرور عشرين عاما على تولي الرئيس فلاديمير بوتين مقاليد السلطة في البلاد، يعقد محللون مقارنات كثيرة بين أحوال روسيا ومكانتها على الساحة الدولية حاليا، ووضعها عندما وضع رجل المخابرات السابق قدمه للمرة الأولى في الكرملين. وبرز الحضور الروسي في سوريا بكل تداعياته، ليشكل واحدا من أبرز معالم تحولات السياسة الروسية على المستويين الإقليمي والدولي.
ومع النقاشات الكثيرة الدائرة حول النجاحات العديدة التي حققتها السياسة الروسية في سوريا، والإخفاقات التي منيت بها هناك، وأظهرتها منعطفات عدة، فإن أسئلة ما زالت تطرح حول الاستراتيجية التي عمل الكرملين على بلورتها خلال السنوات الأخيرة، ومدى قدرة موسكو على إدارة ملفات الصراع على مناطق النفوذ في سوريا، والمحافظة على التوازن الصعب الذي رسمته موسكو في علاقاتها مع الأطراف المنخرطة في الأزمة.
وفقا لخبراء فإنها ليست مجرد صدفة أن يكون الانتقال القوي إلى سوريا، وهو المنعطف الذي شكل أحد أبرز عناوين الصعود للسياسة الروسية، وعكس قدرة الكرملين على «تغيير قواعد اللعبة» وتعزيز آليات الرد على محاولات تطويق روسيا عسكريا وسياسيا، جاء بعد مرور عام واحد على التحدي الكبير الذي أطلقه بوتين في وجه الغرب عندما قرر في العام 2014 ضم شبه جزيرة القرم، وفتح ملف الصراع مع أوكرانيا والغرب من خلفها. وبالمعنى ذاته فإن هذه «الاندفاعة الروسية» جاءت في سياق سياسة متسقة وتصاعدية برزت مقدماتها الأولى منذ العام 2008 من خلال الحرب الروسية – الجورجية التي أسفرت عن اقتطاع إقليمي ابخازيا واوسيتيا الجنوبية ووضع مقدمات لإعادة ترتيب خرائط النفوذ في الفضاء السوفياتي السابق.
- تحديات جديدة
بهذا الترتيب ينظر خبراء روس إلى المنعطفات الأساسية التي مرت بها سياسة «الصعود الروسي» التي قادها بوتين، في مواجهة تداعيات الإحباطات الكثيرة والإخفاقات التي كانت تواجهها بلاده عندما تسلم مقاليد السلطة.
لكن، بعد مرور أربع سنوات على بدء التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا في نهاية سبتمبر (أيلول) 2015. يواجه الكرملين تحديات متزايدة وهو يرسم ملامح خطواته المقبلة في مرحلة حاسمة. إذ وضعت التفاهمات التركية الأميركية حول المنطقة الآمنة في الشمال السوري، بالتزامن مع تزايد المؤشرات إلى قيام واشنطن بتكثيف الحضور في مناطق الشمال والشرق، السياسة الروسية أمام تعقيد جديد، يهدد بتقويض جزءا مهما من الإنجازات التي فاخر الروس بتحقيقها في سوريا، وعلى رأسها الحديث عن «المحافظة على وحدة وسيادة سوريا على أراضيها».
كما أن استحقاق انفجار الوضع مجددا في إدلب، وعودة شبح «الحسم العسكري» إلى الواجهة بعد الانهيار السريع للهدنة الهشة التي أعلنت في إطار مفاوضات أستانة، يثير بدوره أسئلة حول احتمال التوصل إلى «صفقات» تتضمن إعادة رسم ملامح مناطق النفوذ في سوريا. وتبرز مع التطورين خريطة واسعة من التعقيدات التي لا تقل خطورة، وعلى رأسها الوضع في المنطقة الجنوبية ومساعي موسكو لاحتواء احتمالات تدهور الوضع نحو مواجهة بين إسرائيل والميليشيات القريبة من إيران، فضلا عن الصراع على النفوذ أصلا ضمن التشكيلات العسكرية والأمنية الكثيرة المنتشرة على الأرض السورية، وهو في جزء كبير منه يعكس احتدام التنافس ميدانيا وسياسيا يضاف إلى التنافس الاقتصادي الذي تبدو ملامحه أكثر وضوحا بين روسيا وإيران.
تقف موسكو أمام هذا الواقع وهي تحاول رسم خطواتها المقبلة وبلورة مقاربة سياسية شاملة للوضع، وبهذا المعنى فهي وفقا لخبراء تواجه استحقاق تحول واسع في سياستها السورية من «حملة سريعة هدفها تعزيز الحضور الروسي وترتيب موازين القوى لدفع عملية سياسية مقبولة» إلى «انخراط كامل في تعقيدات إقليمية ودولية، أسفر عن اضطرار الكرملين إلى زج كل قدراته في المسار السوري».
بهذا الفهم يتعامل فريق من الخبراء الروس مع الفارق على المستوى الميداني بين الرؤية الأولى لحجم وطبيعة التدخل الروسي في سوريا كما كان مرسوما، واضطرار موسكو تدريجيا إلى الانزلاق نحو «تورط» كامل في هذه الأزمة.
وكان خبراء لفتوا إلى أن غياب الرؤية الشاملة لما تريده موسكو في المحصلة من الحرب السورية ما زال يشكل معضلة جدية مع غياب القدرة على تحقيق إنجازات سياسية سريعة تواكب التقدم الميداني الذي أحرز خلال السنوات الماضية.
- علاقة ملتبسة مع واشنطن
فتح الإعلان عن توصل واشنطن وأنقرة إلى تفاهمات حول «المنطقة الآمنة» في الشمال السوري، على واقع أربك الخطط الروسية التي راهنت لفترة طويلة على تضاؤل فرص التفاهم بين واشنطن وأنقرة بسبب تباين التحالفات واختلاف الرؤى حول الترتيبات النهائية في المنطقة.
وبرغم أن موسكو تجنبت على المستوى الرسمي المسارعة في التعليق على التطور، لكن أوساطا دبلوماسية لا تخفي قلقا من أنه «يضع واقعا جديدا في منطقة الشمال السوري، لا يقتصر على منح الوجود الأميركي غير الشرعي وضعا مختلفا، لكنه يزيد أيضا من تعقيدات بلورة ملامح التسوية السياسية في سوريا».
حتى فترة قريبة، كانت موسكو تراقب التحركات الأميركية عن قرب، وتكرر دعواتها إلى واشنطن بالانسحاب من الأراضي السورية، لكن في الوقت ذاته، سادت قناعة لدى أوساط روسية بأن واشنطن ليست معنية بوجود دائم في سوريا.
لكن إشارات عدة برزت أخيرا، أوحت من وجهة نظر خبراء روس بحدوث تغيير في المقاربة الأميركية للوضع في سوريا، بينها العمل على تعزيز الحضور الأميركي في مناطق الشمال والشرق، والاتفاق الأميركي – التركي، فضلا عن إمعان واشنطن في تجاهل الدعوات الروسية لفتح قنوات حوار حول الوضع النهائي للتسوية الممكنة في سوريا، وتجاهلها جهود موسكو في إطار «مسار أستانة» وهو موقف تصاعد إلى مستوى التصريح بضرورة حصر المسار السياسي في جنيف ومقاطعة كل جهد آخر تقوم به موسكو.
وفي إطار الترقب الروسي للخطوات الأميركية جاء تحذير الخارجية الروسية من محاولات لـ«فصل» شمال شرقي سوريا، والتأكيد على ضرورة حل المشاكل في تلك المناطق على أساس «سيادة سوريا وبواسطة الحوار بين دمشق والأكراد».
برغم ذلك، لا يخفي خبراء تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» أن وراء الصمت الروسي حيال التطورات الجارية في الشمال، تبرز حسابات لموسكو تقوم على أن موافقة واشنطن على فكرة «المنطقة الآمنة» قد تكون ضمن ترتيبات أميركية للوضع في المنطقة، تضمن لتركيا تقليص الهواجس الأمنية، وتضع في الوقت ذاته ضمانات للأكراد بعدم السماح باستهداف واسع لمناطقهم، في إطار مسعى أميركي لإنجاز الانسحاب من المنطقة مع حلول العام المقبل. ويربط الخبراء هذا بحاجة الرئيس دونالد ترمب لإظهار الالتزام بتعهداته في هذا الشأن قبل حلول موعد الانتخابات الأميركية.
ومن زاوية فإن هذا التطور الذي يلبي تطلعات تركيا الأمنية يمنح موسكو هامشا أوسع للحسم في إدلب، في إطار تفاهم يمكن التوصل إليه مع الجانب التركي. وهذا يفسر تصاعد حدة العمليات العسكرية في إدلب وتسريع عملية «قضم» المناطق المحيطة بها.
وفي كل الأحوال يرى خبراء أن التطورات الميدانية الجارية في الشمال والشرق السوريين، سوف تسفر عن انتهاء مرحلة من الأزمة السورية، وبروز خريطة جديدة لتوزيع مناطق النفوذ للأطراف المختلفة وأن هذه المناطق سوف تنعكس بالتأكيد في آليات إطلاق عملية التسوية.
ووفقا لخبير فإن الحاجة إلى مسار أستانة قد تتراجع بشكل ملموس في الفترة المقبلة، في مقابل تنامي أهمية إيجاد آلية لفتح الحوار وإنشاء قناة لنقاش جدي بين موسكو وواشنطن حول آليات التسوية النهائية في سوريا.
- «عقدة» إيران
في مقابل تعقيدات الوضع في الشمال، تبرز معضلة أخرى أمام موسكو تتمثل في المحافظة على توازن المصالح الذي أقامته في علاقاتها مع طهران من جانب ومع تل أبيب من جانب آخر، وبرغم نجاح روسيا في إبرام صفقة لـ«إبعاد» الإيرانيين عن منطقة الجنوب لمسافة نحو 80 كيلومترا العام الماضي، لكن سرعان ما اتضح أن هذا الاتفاق كان شكليا، وبرزت تقارير كثيرة خلال الشهور الأخيرة تتحدث عن تعزيز إيران والقوات الحليفة لها وجودها في مناطق الجنوب ما بات يشكل عنصر توتر دائم ويفاقم المخاوف الروسية من انزلاق الوضع نحو مواجهة مباشرة أو غير مباشرة في المنطقة.
وكان لافتا خلال الفترة الأخيرة أن وسائل إعلام روسية حذرت من أن قدرة موسكو على «ضبط» التحركات الإسرائيلية ضد المواقع الإيرانية ومواقع الميليشيات التابعة لطهران، باتت أضعف من السابق.
ونشرت وسائل إعلام روسية معطيات تفيد بأن إسرائيل لن تطلب في المستقبل من روسيا إذنا لمهاجمة سوريا. وأنها ستتوقف حتى عن إعلام موسكو بالعمليات القادمة. والسبب من وجهة نظر الخبراء الروس هو مواصلة «حزب الله» حشد قواته على الحدود السورية الغربية والجنوبية.
ويرى المستشرق الروسي – الإسرائيلي أوليغ غوشين أن «لدى إسرائيل أسبابا كافية للقلق». ويزيد أن إسرائيل وسوريا، «بحاجة إلى إعادة المناطق الحدودية إلى الحالة التي كانت عليها قبل بدء الحرب. بالنسبة لتل أبيب، كانت الحدود مع الجمهورية العربية السورية، بلا مبالغة، الأكثر أمانا».
وتراقب موسكو بدقة تحذيرات أوساط بأن «حزب الله» بدأ استعدادات لفتح جبهة مع إسرائيل، على خلفية تصعيد التوتر بين إيران والولايات المتحدة في الخليج ويبدو أن الصراع الجاري على النفوذ ضمن التشكيلات العسكرية والأمنية بين الموالين لموسكو والأطراف الموالية لطهران دخلت مرحلة أكثر اتساعا.
وراقبت موسكو الانتقادات المتصاعدة للتفاهمات التي رعتها في الجنوب وبينها انتقادات أطلقها بعض رموز النظام السوري المقربون من إيران ورأوا فيها أن سياسات روسيا في درعا والاتفاق الذي رعته العام الماضي (المصالحات وتسليم المنطقة للنظام) أدى لحدوث فوضى جديدة، لأنها تعاملت مع أطراف الاتفاق كنِدّين وأبقت بعض السلاح بحوزة مجموعات من الجيش الحر لتأمين المناطق، وأن «على النظام أن يفرض سيطرة كاملة على كل المناطق» لكن موسكو في المقابل تفضل عدم نقل خلافاتها مع إيران إلى العلن، كما أنها أعلنت بوضوح أنها «لن تقبل صفقات على حساب مصالح الحلفاء» وفقا لتعبير الرئيس بوتين.
بهذا المعنى فإن موسكو وفقا لخبراء تسعى إلى تجنب انزلاق الموقف نحو مزيد من التعقيد في الجنوب، لكنها «إما لا ترغب أو ليست قادرة على ضبط التحركات الإيرانية» كما أنها أصلا «حريصة على إبقاء التحالف مع إيران في ملفات أخرى عدة لأنه يلبي مصالحها على المستوى الإقليمي» وفقا لخبير أوضح لـ«الشرق الأوسط» وجهة نظره بأنه «حتى لو سعت موسكو إلى الضغط على إيران لتقليص وجود الميليشيات في سوريا وهو أمر يلبي مصالح أطراف عدة بينها موسكو، لكنها في الوقت ذاته ليست قادرة على التحكم بهذه العملية نظرا لتغلغل الإيرانيين الواسع في سوريا، وإذا أخرجنا جنودهم من منطقة فسوف يعودون في لباس مدني إليها أو في لباس تشكيلات عسكرية سورية».
لكن في المقابل، لفتت أوساط محللين عسكريين الأنظار إلى أن موسكو عملت على مواكبة التطورات المتلاحقة في سوريا وبينها اتفاق «المنطقة الآمنة» وتعزيز الوجود الأميركي في مناطق الشرق بتسريع تحركات ميدانية لمواجهة غموض الموقف الأميركي، فهي في الرقة مثلا تقوم برعاية «مصالحات» عشائرية مع النظام، وعملت في الجنوب على تسهيل عودة قوات تابعة لإيران، بهدف الإبقاء على أهمية ورقة الرعاية الروسية لإجراءات تضمن أمن إسرائيل. في هذا الإطار أشارت تقارير أخيرا إلى أن القوات الروسية العاملة في سوريا سمحت للميليشيات المسلحة التابعة للحرس الثوري الإيراني بتوسيع الحضور في مواقعها جنوبي سوريا.
ووفقا للتقارير فإن موسكو التي تشرف على إقامة منطقة أمنية عازلة جنوبي البلاد، قامت على امتداد الحدود السورية مع إسرائيل والأردن، بالسماح لوحدات صغيرة تنتمي لـ«فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني، ووحدات من «حزب الله»، بالعودة والانتشار في مواقع قريبة تقع على مسافة لا تزيد عن 10 إلى 15 كيلومتراً من الحدود، وأخلت الوحدات الروسية بعض المواقع ما يتيح للإيرانيين السيطرة على المناطق المحيطة بها.
وأشارت المعطيات إلى أن اتصالات إسرائيلية – أميركية تمت على مستوى عالٍ أخيرا بسبب تلك التحركات.
- بوتين أمام استحقاق
عند بداية التدخل الروسي المباشر في سوريا قال أحد الخبراء المقربين من الكرملين بأن الأهمية الأساسية للاندفاعة الروسية نحو سوريا تكمن في فهم الكرملين بأن هذه هي الفرصة الأخيرة لموسكو لتوسيع دائرة تأثيرها وخروجها من إطار منطقة نفوذها الاستراتيجي إلى مستوى أوسع عالميا. ووفقا للخبير فإن الفهم الروسي انطلق من زاوية أن حجم تأثير ودور القوى الإقليمية والدولية المنخرطة حاليا في الأزمة السورية سوف ينعكس بالتأكيد على قدرات هذه الأطراف على لعب أدوار في رسم ملامح النظام الإقليمي لاحقا والدولي على المستوى الأوسع. هذا الفهم يعكس الأهمية التي توليها السياسة الروسية للربط بين الأزمة السورية بكل تعقيداتها بالنسبة إلى موسكو، وضرورات المحافظة على نسق شامل في السياسة الإقليمية يلبي تلك الغاية ويمنح موسكو درجة التأثير المطلوبة في الملفات المختلفة المطروحة إقليميا. ووفقا لخبراء فإن ميزة الكرملين الرئيسية تمثلت في اتساق واستقرار سياساته في المنطقة، وهي السياسات التي أسفرت عن انفتاح شركاء موسكو في الشرق الأوسط، على روسيا، في مقابل تزايد فقدان الثقة بثبات السياسات الغربية في المنطقة.
أيضا، يرى خبراء أن إصرار موسكو على المحافظة على علاقات مع جميع أطراف النزاعات القائمة في الشرق الأوسط يمنحها قدرة أوسع على لعب أدوار جديدة ومتنوعة، في مقابل تقلص هذه الفرص لدى أطراف غربية على رأسها الولايات المتحدة، ويضع بعض الخبراء ملف التسوية في الشرق الأوسط، مثالا واضحا على هذه الرؤية، إذ قاد انحياز واشنطن الكامل إلى إسرائيل إلى تعقيد فرصها في أن تكون وسيطا مقبولا لدى كل الأطراف.
لكن في مقابل هذه الميزات، تواجه موسكو صعوبات متزايدة في المحافظة على التوازن القائم في علاقاتها مع الأطراف المختلفة، ويقف الرئيس الروسي الذي لا يرغب في عقد صفقات تجعله يخسر شركاء مهمين مثل تركيا أو إيران أمام استحقاق صعب، خصوصا بعدما نجح في بناء أطر لها أهمية استراتيجية للتعاون مع البلدين.