هل انتهت التجربة الشعبوية الأولى في الاتحاد الأوروبي، التي شهدت النور في المختبر السياسي الإيطالي، مطلع الصيف الماضي، بين حركة النجوم الخمس اليسارية الميول وحزب الرابطة اليميني المتطرف؟ أو أنها توطئة لمشهد سياسي جديد على أوروبا أن تعتاد عليه من الآن فصاعداً؟
التطورات التي تسارعت على الساحة السياسية الإيطالية في الأيام الماضية تنذر بأن الصبي الأوروبي المشاكس يقف على مفترق حاسم قد يتوقف عليه مصير المشروع الأوروبي بأكمله. زعيم حزب الرابطة ماتيو سالفيني يدق ناقوس الانتخابات المبكرة على صهوة استطلاعات الرأي التي منذ ثلاث سنوات تفرز صعوداً مضطرداً في شعبيته، ولا يتردد في الذهاب إلى ما لم يجرؤ عليه سياسي أوروبي منذ موسوليني، ويناشد مواطنيه الإقبال بكثافة على صناديق الاقتراع وتفويضه بـ«كامل الصلاحيات».
كيف وصلت إيطاليا إلى هذا الشفير السياسي الذي أصبح كابوساً يقضّ مضاجع الحريصين على المشروع الأوروبي الذي يعيش أكثر مراحله اضطراباً؟
في الرابع من مارس (آذار) 2018 ذهب الإيطاليون إلى صناديق الاقتراع بعد أربع سنوات من الحكم اليساري تعاقبت عليه ثلاث حكومات مختلفة من الحزب الديمقراطي نفسه، الذي كانت تياراته الداخلية تواصل التناحر التقليدي بينها، وتفتح شهية الأحزاب اليمينية للانقضاض مجدداً على السلطة، في ظل استياء شعبي واسع، ونقمة عارمة من تداعيات الأزمة المالية وركود الوضع الاقتصادي وتفاقم أزمة المهاجرين غير الشرعيين الذين كانوا يتدفقون بعشرات الآلاف على السواحل الإيطالية القريبة من أفريقيا.
يومها فشل اليسار مرة أخرى في توحيد صفوفه أمام الانتخابات، في الوقت الذي كان حزب رابطة الشمال اليمينية المتطرفة قد تخلى عن مطالبه الانفصالية مع زعيمه الجديد ماتيو سالفيني الذي حصر كامل نشاطه السياسي وحملته الانتخابية في وعود بوقف تدفق موجات المهاجرين، وبينما كانت حركة النجوم الخمس قد بدأت تستنزف القاعدة الشعبية للأحزاب التقدمية رافعة شعارات محاربة الفساد المستشري وتطهير أجهزة الحكم من الأدران التي تراكمت عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
خسر الحزب الديمقراطي نصف شعبيته في تلك الانتخابات لصالح النجوم الخمس التي أصبحت القوة البرلمانية الأولى، فيما ارتفعت شعبية حزب الرابطة إلى 17 في المائة بعد أن كانت لا تتجاوز 9 في المائة في نهاية عام 2017. لم يكن أمام القوى السياسية الممثلة في البرلمان بعد انتخابات العام الماضي سبيل لتشكيل أغلبية حاكمة سوى خيارَين لا ثالث لهما، هما حكومة تكنوقراطية كانت الخيار المفضل عند رئيس الجمهورية سرجيو ماتاريلا، وعند المؤسسات الأوروبية، لاجتياز مرحلة المطبات المالية التي كانت تتخبط فيها إيطاليا، ولا تزال، بعد أزمة عام 2008 والركود المتواصل في نموها الاقتصادي.
وضعت رئاسة الجمهورية كامل ثقلها يومذاك لتشكيل حكومة ائتلافية بين الحزب الديمقراطي وحركة النجوم الخمس، وساعدتها في ذلك بعض العواصم الأوروبية التي كانت تخشى وصول الشعبويين واليمين المتطرف إلى الحكم، لكن الديمقراطيين أبوا السير في ذلك الاتجاه، خشية أن تكون فيه بداية انهيارهم النهائي أمام الحركة.
هنا وجد سالفيني فرصته الذهبية للوصول إلى مركز القرار الرئيسي، هو الذي كان ينادي بانفصال المقاطعات الشمالية عن إيطاليا، ودخل في مفاوضات مكثفة لتشكيل ائتلاف حكومي مع حركة النجوم الخمس التي أبدت تجاوباً، مخافة أن يلجأ رئيس الجمهورية إلى تكليف شخصية محايدة تشكيل حكومة تكنوقراطية.
طالت مفاوضات تشكيل الائتلاف الحاكم بين الحزبين النقيضين اللذين يجمعان الأكثرية في البرلمان، وتعثرت في مراحل عدة. لكن سالفيني كان يعرف أنها فرصة قد لا تتكرر في المشهد السياسي الإيطالي المعروف بزئبقيته وتحولاته السريعة، ووضع نصب عينيه عدداً محدوداً من الأهداف، أولها حقيبة الداخلية، وعرض على النجوم الخمس إبرام عقد تقوم على أساسه حكومة تختار الحركة رئيسها وتتولى الحقائب الأساسية الأخرى فيها... وولدت هكذا حكومة هجينة لا يجمع بين طرفيها سوى شهوة السلطة التي لم يسبق لأي منهما أن مارسها.
منذ اليوم الأول الذي تسلمت فيه الحكومة الائتلافية مهامها، مطلع الصيف الماضي، تبدى بوضوح جلي أن سالفيني هو نجمها بلا منازع، رغم أن لحزبه نصف المقاعد البرلمانية التي للحركة، وأن زمام المبادرة لا يفلت أبداً من يده. وقد حول وزارة الداخلية إلى منصة إعلامية تروج لتصريحاته وأنشطته وتحركاته، بما فيها الشخصية، ورفع لواء حرب شاملة على المهاجرين والمنظمات الإنسانية التي تساعدهم، كانت تتخللها هدنة قصيرة من حين لآخر يخصصها لتوجيه سهام سامة إلى المؤسسات الأوروبية وشركاء إيطاليا في الاتحاد، وصلت إلى حد استدعاء باريس سفيرها في روما للمرة الأولى منذ عهد موسوليني.
ولم يكن وارداً في حسابات سالفيني أن يتراجع عن مواقفه وإجراءاته التي أثارت انتقادات شديدة في الاتحاد الأوروبي لتعارضها مع الاتفاقات المعقودة وانتهاكها أحكام المعاهدات الدولية، لأنه بقدر ما كان يتمادى في هجومه ويتشدد في مواقفه، كانت شعبيته ترتفع، إلى أن بات من المرجح أن يحصد وحده الأغلبية المطلقة في البرلمان إذا دُعي الإيطاليون غداً إلى صناديق الاقتراع. في غضون ذلك كانت شعبية حركة النجوم الخمس تتراجع باطراد عند كل موعد انتخابي محلي أو أوروبي، مما جعلها رهينة استراتيجية سالفيني الذي كان يلوح باستمرار إلى الانتخابات المسبقة التي تخشاها الحركة، لكن بالتأكيد على أنه لا يريدها، وأن ما يهمه هو تنفيذ برنامج الحكومة والبنود العزيزة على قلبه وعلى رأسها قانون الهجرة والإجراءات الأمنية.
منذ مطلع هذا العام، لم تهدأ الطبول التي تعلن سقوط الحكومة بين لحظة وأخرى بسبب من الخلافات المتراكمة بين طرفي الائتلاف والانتقادات المباشرة التي يتبادلها زعيما النجوم الخمس والرابطة. لكن شهوة السلطة والخوف من المفاجآت التي تحفل بها السياسة الإيطالية عند تشكيل التحالفات، دفعا بالطرفين أكثر من مرة إلى وأد خلافات عميقة، والإبقاء على الحكومة فيما يشبه غرفة العناية الفائقة.
لكن ساعة الصفر كان لا بد أن تأتي لتضع حداً لهذه التجربة السياسية غير المسبوقة في التاريخ الإيطالي، والفريدة من نوعها في الاتحاد الأوروبي، لتشكيل حكومة بين جسمين سياسيين متناقضين في كل شيء تقريباً: حزب يميني متطرف، سيادي وعنصري، نزع عنه القناع الانفصالي الذي كان سبب تأسيسه، وآخر شعبوي مناهض للنظام القائم وحريص على البيئة. وقد أزفت الساعة يوم الجمعة من الأسبوع الماضي، عندما تقدم سالفيني، الذي يلقبه أنصاره بالقبطان، بطلب لسحب الثقة من رئيس الحكومة جيوزيبي كونتي، الذي يشغل هو منصب نائبه إلى جانب حقيبة الداخلية، منهياً بذلك تجربة الحكم التي لم تدم سوى أربعة عشر شهراً.
انهيار الائتلاف الحاكم أعاد تفعيل المختبر السياسي الإيطالي لاحتواء الأزمة التي كانت قد تحولت منذ أشهر إلى وقائع طلاق معلن، والتركيز في المرحلة الأولى على خيار من اثنين: تشكيل أغلبية برلمانية جديدة تسمح لكونتي الاستمرار حتى نهاية الولاية التشريعية، أو الذهاب إلى الانتخابات المبكرة التي يطالب بها زعيم اليمنين المتطرف سالفيني. وليس في ذلك أي مفاجأة في بلد سبق أن غير 6 حكومات خلال ولاية تشريعية واحدة، وتعاقبت عليه 71 حكومة، منذ عام 1943.
يدرك سالفيني أنه إذا كانت الحكومة الائتلافية قد شكلت فرصته الذهبية للوصول إلى الحكم والانطلاق من منصته لحشد هذه الشعبية الواسعة التي تأكدت في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، فإن الانتخابات المقبلة قد تكرسه زعيماً بلا منازع على القوة الاقتصادية الثالثة في الاتحاد الأوروبي، والوحيدة التي تغازل واشنطن وموسكو في كل ما يتعلق بالأجندة اليمينية المتطرفة.
ويعرف زعيم الرابطة أن كلمته ستكون مسموعة عندئذ في المؤسسات الأوروبية التي لم تبخل عليه بالانتقاد والتحذير بقدر ما تعمدت تجاهله عند توزيع مناصب القيادة والمسؤولية العليا مؤخراً.
لكن نظيره، وشريكه في الائتلاف الحاكم حتى الآن، زعيم حركة النجوم الخمس لويجي دي مايو (أيار)، يشهد تراجعاً مستمراً في شعبيته منذ تشكيل الائتلاف الحاكم، لا يُقاس إلا بارتفاع شعبية سالفيني الذي هيمن بشخصيته وأسلوبه على الحكومة منذ اليوم الأول.
وإذا كانت زعامة دي مايو للحركة قد اهتزت بقوة بعد الانتخابات الأوروبية الأخيرة التي خسرت فيها النجوم الخمس نصف شعبيتها تقريباً، فإنها قد تصبح في حكم المنتهية إذا تقرر إجراء انتخابات مبكرة بات من المؤكد أن الحركة تحتاج لزعامة جديدة لخوضها.
بعد ساعات من تقديمه طلب سحب الثقة من رئيس الحكومة دعا سالفيني إلى مناقشته والتصويت عليه، قبل منتصف الشهر الحالي، لكن الكتل البرلمانية رفضت طلب سالفيني وقررت عقد جلسة طرح الثقة يوم الثلاثاء المقبل في مجلس الشيوخ، مما يؤشر على أن المساعي للبحث عن أغلبية برلمانية جديدة تقطع على سالفيني طريق الانتخابات المبكرة قد بدأت في كواليس السياسة الإيطالية السحيقة.
الخيار الوحيد المتاح لتشكيل أغلبية برلمانية جديدة يمر عبر التحالف بين حركة النجوم الخمس والحزب الديمقراطي، لكن هذا التحالف دونه عقبات كثيرة لا يتسع الوقت للمفاوضات التي قد تؤدي إلى تذليلها. في غضون ذلك، وبينما تضرب الكتل البرلمانية أخماسها بأسداسها، دعا سالفيني نواب حزبه إلى روما والبقاء فيها بحالة جهوزية تامة، فيما يواصل هو الضغط لإجراء الانتخابات في أقرب فرصة، ويجول على الشواطئ الإيطالية في حملة انتخابية اختار أن يركز فيها على المناطق التي تشكل معاقل حركة النجوم الخمس، وتراجعت فيها شعبيتها لصالح حزب الرابطة.
لكن ارتفاع شعبية سالفيني في الأشهر الأخيرة تزامن أيضاً مع تنامي ظاهرة جديدة غير مألوفة في المشهد السياسي الإيطالي، وهي الرفض المتزايد لسياسته حيث صارت المظاهرات المرحبة بتحركاته والمؤيدة لمواقفه تتواجه، وأحياناً تتصادم، مع مظاهرات ضده تصفه بالعنصري، وتعيب عليه دفاعه عن الشركات الكبرى، والطبقة الميسورة.
رئيس الحكومة جيوزيبي كونتي من جهته لم يبادر إلى تقديم استقالته إلى رئيس الجمهورية كما كان متوقعاً، وكما كان يتمنى سالفيني، بل شن هجوماً قاسياً على زعيم الرابطة واتهمه بأنه المسؤول الوحيد عن الأزمة التي «افتعلها من باب الأنانية وسعياً لتحقيق مآرب شخصية بعيدة كل البعد عن المصلحة العامة»، وأضاف رداً على مطالبة زعيم الرابطة بمناقشة طلب سحب الثقة فوراً في البرلمان: «ليس سالفيني مَن يحدد مواقيت المناقشات في البرلمان... كفى غطرسة!».
المواجهة الأخيرة بين الرابطة والنجوم الخمس كانت حول استئناف العمل بمشروع شق نفق عريض للمواصلات السريعة بين إيطاليا وفرنسا جمدت الحركة تنفيذه لأسباب بيئية وتصر الرابطة على إكماله. وكانت الحركة قد تقدمت باقتراح في مجلس الشيوخ لوقف العمل نهائياً بالمشروع، لكن الرابطة قررت التخلي عن حليفتها، وصوتت إلى جانب الأحزاب الأخرى التي يؤيد معظمها مواصلة تنفيذه. وقد جاءت خطوة سالفيني بتفجير الأزمة الحكومية بعد 48 ساعة من الموافقة النهائية في مجلس الشيوخ على قانون مكافحة الهجرة المثير للجدل، الذي كان لا بد لإقراره من أصوات النجوم الخمس.
رئيس الجمهورية من ناحيته هو الوحيد المخول بموجب الدستور حل البرلمان والدعوة لإجراء انتخابات مبكرة، يميل إلى إبقاء الحكومة في مهامها حتى الخريف المقبل لإنجاز قانون الموازنة العامة الذي يفترض أن تقدم نسخته الأولى إلى المفوضية الأوروبية، قبل نهاية الشهر المقبل، وكان موضع خلاف عميق وتجاذبات بين روما بروكسل، بسبب مستوى العجز العام الذي يتجاوز المعدلات القصوى المحددة في الضوابط المالية الأوروبية، الذي يشكل استمراره في إيطاليا للعام الخامس على التوالي خطراً على القطاع المصرفي، ويهدد الاستقرار المالي في منطقة اليورو بكاملها.
وتنصب جهود رئاسة الجمهورية في الوقت الراهن على تأمين أغلبية برلمانية مختلفة تمكن كونتي من الاستمرار في موقعه لفترة كافية تسمح بتجاوز استحقاق الموازنة، وتنفيس الاحتقان السياسي الذي يناسب أسلوب سالفيني، وترتفع فيه شعبيته.
ومنذ أن أطلق سالفيني رصاصة الرحمة على الحكومة مطالباً بإجراء انتخابات مبكرة، ظهرت مجموعة مـؤشرات توحي بأن ثمة «جبهة جمهورية» تتشكل بين الحزب الديمقراطي والنجوم الخمس لصد هجوم زعيم الرابطة عبر تحالف برلماني أبدت عدة أحزاب صغيرة استعدادها أيضاً للانضمام إليه. وكان الأمين العام السابق للحزب الديمقراطي، والرئيس الأسبق للحكومة، ماتيو رنزي الذي يتزعم تياراً واسعاً داخل الحزب كان يستعد للانشقاق عنه وتأسيس حزب بيئي جديد، قد سارع فور مبادرة سالفيني إلى دعوة حزبه للتحالف مع حركة النجوم الخمس لتشكيل حكومة جديدة والحيلولة دون العودة مجدداً إلى صناديق الاقتراع.
أما زعيم الرابطة الواثق من أن لا مفر من الذهاب إلى الانتخابات المبكرة، فقد باشر البحث مع الحلفاء المحتملين في الأوساط اليمينية، تحسباً لعدم حصوله على الأغلبية الكافية التي تسمح له بتشكيل الحكومة منفرداً في حال تجاوزه حاجز الأربعين في المائة. وكان اتصاله الأول مع زعيم «فورزا إيطاليا» سيلفيو برلسكوني الذي يحكم بالتحالف معه عدداً من الأقاليم والمجالس البلدية بعد أن خاض كلاهما الانتخابات العامة الماضية على لائحة واحدة. لكن برلسكوني رفض اقتراح سالفيني خوض الانتخابات المقبلة ضمن لائحة الرابطة، وقال: «ما زلنا نطالب بتشكيل تحالف عريض يجمع أحزاب الوسط واليمين، لكننا لسنا على استعداد للتخلي عن تاريخنا وشعارنا، ولا عن لوائحنا الخاصة في الانتخابات المقبلة».
وفيما تمارس جهات عدة، إيطالية وأوروبية، ضغوطاً متزايدة على الحزب الديمقراطي للتحالف مع النجوم الخمس وقطع طريق الانتخابات أمام زعيم الرابطة، دعا ماتيو رنزي «جميع الأحزاب والقوى اليسارية والتقدمية إلى بذل قصارى جهدها لمنع وصول سالفيني إلى رئاسة الحكومة، مهما كلف الأمر». وقال رنزي إنه الذي تعرض أكثر من أي شخص آخر لانتقادات حركة النجوم الخمس «لكن لا مجال هنا للمشاعر الشخصية، وعلينا جميعاً أن ننقذ إيطاليا».
إيطاليا... أمام مفترق طرق
دعوات إلى قطع الطريق أمام زعيم اليمين المتطرف ماتيو سالفيني للوصول إلى رئاسة الحكومة
إيطاليا... أمام مفترق طرق
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة