إيطاليا... أمام مفترق طرق

دعوات إلى قطع الطريق أمام زعيم اليمين المتطرف ماتيو سالفيني للوصول إلى رئاسة الحكومة

إيطاليا... أمام مفترق طرق
TT

إيطاليا... أمام مفترق طرق

إيطاليا... أمام مفترق طرق

هل انتهت التجربة الشعبوية الأولى في الاتحاد الأوروبي، التي شهدت النور في المختبر السياسي الإيطالي، مطلع الصيف الماضي، بين حركة النجوم الخمس اليسارية الميول وحزب الرابطة اليميني المتطرف؟ أو أنها توطئة لمشهد سياسي جديد على أوروبا أن تعتاد عليه من الآن فصاعداً؟
التطورات التي تسارعت على الساحة السياسية الإيطالية في الأيام الماضية تنذر بأن الصبي الأوروبي المشاكس يقف على مفترق حاسم قد يتوقف عليه مصير المشروع الأوروبي بأكمله. زعيم حزب الرابطة ماتيو سالفيني يدق ناقوس الانتخابات المبكرة على صهوة استطلاعات الرأي التي منذ ثلاث سنوات تفرز صعوداً مضطرداً في شعبيته، ولا يتردد في الذهاب إلى ما لم يجرؤ عليه سياسي أوروبي منذ موسوليني، ويناشد مواطنيه الإقبال بكثافة على صناديق الاقتراع وتفويضه بـ«كامل الصلاحيات».
كيف وصلت إيطاليا إلى هذا الشفير السياسي الذي أصبح كابوساً يقضّ مضاجع الحريصين على المشروع الأوروبي الذي يعيش أكثر مراحله اضطراباً؟
في الرابع من مارس (آذار) 2018 ذهب الإيطاليون إلى صناديق الاقتراع بعد أربع سنوات من الحكم اليساري تعاقبت عليه ثلاث حكومات مختلفة من الحزب الديمقراطي نفسه، الذي كانت تياراته الداخلية تواصل التناحر التقليدي بينها، وتفتح شهية الأحزاب اليمينية للانقضاض مجدداً على السلطة، في ظل استياء شعبي واسع، ونقمة عارمة من تداعيات الأزمة المالية وركود الوضع الاقتصادي وتفاقم أزمة المهاجرين غير الشرعيين الذين كانوا يتدفقون بعشرات الآلاف على السواحل الإيطالية القريبة من أفريقيا.
يومها فشل اليسار مرة أخرى في توحيد صفوفه أمام الانتخابات، في الوقت الذي كان حزب رابطة الشمال اليمينية المتطرفة قد تخلى عن مطالبه الانفصالية مع زعيمه الجديد ماتيو سالفيني الذي حصر كامل نشاطه السياسي وحملته الانتخابية في وعود بوقف تدفق موجات المهاجرين، وبينما كانت حركة النجوم الخمس قد بدأت تستنزف القاعدة الشعبية للأحزاب التقدمية رافعة شعارات محاربة الفساد المستشري وتطهير أجهزة الحكم من الأدران التي تراكمت عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
خسر الحزب الديمقراطي نصف شعبيته في تلك الانتخابات لصالح النجوم الخمس التي أصبحت القوة البرلمانية الأولى، فيما ارتفعت شعبية حزب الرابطة إلى 17 في المائة بعد أن كانت لا تتجاوز 9 في المائة في نهاية عام 2017. لم يكن أمام القوى السياسية الممثلة في البرلمان بعد انتخابات العام الماضي سبيل لتشكيل أغلبية حاكمة سوى خيارَين لا ثالث لهما، هما حكومة تكنوقراطية كانت الخيار المفضل عند رئيس الجمهورية سرجيو ماتاريلا، وعند المؤسسات الأوروبية، لاجتياز مرحلة المطبات المالية التي كانت تتخبط فيها إيطاليا، ولا تزال، بعد أزمة عام 2008 والركود المتواصل في نموها الاقتصادي.
وضعت رئاسة الجمهورية كامل ثقلها يومذاك لتشكيل حكومة ائتلافية بين الحزب الديمقراطي وحركة النجوم الخمس، وساعدتها في ذلك بعض العواصم الأوروبية التي كانت تخشى وصول الشعبويين واليمين المتطرف إلى الحكم، لكن الديمقراطيين أبوا السير في ذلك الاتجاه، خشية أن تكون فيه بداية انهيارهم النهائي أمام الحركة.
هنا وجد سالفيني فرصته الذهبية للوصول إلى مركز القرار الرئيسي، هو الذي كان ينادي بانفصال المقاطعات الشمالية عن إيطاليا، ودخل في مفاوضات مكثفة لتشكيل ائتلاف حكومي مع حركة النجوم الخمس التي أبدت تجاوباً، مخافة أن يلجأ رئيس الجمهورية إلى تكليف شخصية محايدة تشكيل حكومة تكنوقراطية.
طالت مفاوضات تشكيل الائتلاف الحاكم بين الحزبين النقيضين اللذين يجمعان الأكثرية في البرلمان، وتعثرت في مراحل عدة. لكن سالفيني كان يعرف أنها فرصة قد لا تتكرر في المشهد السياسي الإيطالي المعروف بزئبقيته وتحولاته السريعة، ووضع نصب عينيه عدداً محدوداً من الأهداف، أولها حقيبة الداخلية، وعرض على النجوم الخمس إبرام عقد تقوم على أساسه حكومة تختار الحركة رئيسها وتتولى الحقائب الأساسية الأخرى فيها... وولدت هكذا حكومة هجينة لا يجمع بين طرفيها سوى شهوة السلطة التي لم يسبق لأي منهما أن مارسها.
منذ اليوم الأول الذي تسلمت فيه الحكومة الائتلافية مهامها، مطلع الصيف الماضي، تبدى بوضوح جلي أن سالفيني هو نجمها بلا منازع، رغم أن لحزبه نصف المقاعد البرلمانية التي للحركة، وأن زمام المبادرة لا يفلت أبداً من يده. وقد حول وزارة الداخلية إلى منصة إعلامية تروج لتصريحاته وأنشطته وتحركاته، بما فيها الشخصية، ورفع لواء حرب شاملة على المهاجرين والمنظمات الإنسانية التي تساعدهم، كانت تتخللها هدنة قصيرة من حين لآخر يخصصها لتوجيه سهام سامة إلى المؤسسات الأوروبية وشركاء إيطاليا في الاتحاد، وصلت إلى حد استدعاء باريس سفيرها في روما للمرة الأولى منذ عهد موسوليني.
ولم يكن وارداً في حسابات سالفيني أن يتراجع عن مواقفه وإجراءاته التي أثارت انتقادات شديدة في الاتحاد الأوروبي لتعارضها مع الاتفاقات المعقودة وانتهاكها أحكام المعاهدات الدولية، لأنه بقدر ما كان يتمادى في هجومه ويتشدد في مواقفه، كانت شعبيته ترتفع، إلى أن بات من المرجح أن يحصد وحده الأغلبية المطلقة في البرلمان إذا دُعي الإيطاليون غداً إلى صناديق الاقتراع. في غضون ذلك كانت شعبية حركة النجوم الخمس تتراجع باطراد عند كل موعد انتخابي محلي أو أوروبي، مما جعلها رهينة استراتيجية سالفيني الذي كان يلوح باستمرار إلى الانتخابات المسبقة التي تخشاها الحركة، لكن بالتأكيد على أنه لا يريدها، وأن ما يهمه هو تنفيذ برنامج الحكومة والبنود العزيزة على قلبه وعلى رأسها قانون الهجرة والإجراءات الأمنية.
منذ مطلع هذا العام، لم تهدأ الطبول التي تعلن سقوط الحكومة بين لحظة وأخرى بسبب من الخلافات المتراكمة بين طرفي الائتلاف والانتقادات المباشرة التي يتبادلها زعيما النجوم الخمس والرابطة. لكن شهوة السلطة والخوف من المفاجآت التي تحفل بها السياسة الإيطالية عند تشكيل التحالفات، دفعا بالطرفين أكثر من مرة إلى وأد خلافات عميقة، والإبقاء على الحكومة فيما يشبه غرفة العناية الفائقة.
لكن ساعة الصفر كان لا بد أن تأتي لتضع حداً لهذه التجربة السياسية غير المسبوقة في التاريخ الإيطالي، والفريدة من نوعها في الاتحاد الأوروبي، لتشكيل حكومة بين جسمين سياسيين متناقضين في كل شيء تقريباً: حزب يميني متطرف، سيادي وعنصري، نزع عنه القناع الانفصالي الذي كان سبب تأسيسه، وآخر شعبوي مناهض للنظام القائم وحريص على البيئة. وقد أزفت الساعة يوم الجمعة من الأسبوع الماضي، عندما تقدم سالفيني، الذي يلقبه أنصاره بالقبطان، بطلب لسحب الثقة من رئيس الحكومة جيوزيبي كونتي، الذي يشغل هو منصب نائبه إلى جانب حقيبة الداخلية، منهياً بذلك تجربة الحكم التي لم تدم سوى أربعة عشر شهراً.
انهيار الائتلاف الحاكم أعاد تفعيل المختبر السياسي الإيطالي لاحتواء الأزمة التي كانت قد تحولت منذ أشهر إلى وقائع طلاق معلن، والتركيز في المرحلة الأولى على خيار من اثنين: تشكيل أغلبية برلمانية جديدة تسمح لكونتي الاستمرار حتى نهاية الولاية التشريعية، أو الذهاب إلى الانتخابات المبكرة التي يطالب بها زعيم اليمنين المتطرف سالفيني. وليس في ذلك أي مفاجأة في بلد سبق أن غير 6 حكومات خلال ولاية تشريعية واحدة، وتعاقبت عليه 71 حكومة، منذ عام 1943.
يدرك سالفيني أنه إذا كانت الحكومة الائتلافية قد شكلت فرصته الذهبية للوصول إلى الحكم والانطلاق من منصته لحشد هذه الشعبية الواسعة التي تأكدت في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، فإن الانتخابات المقبلة قد تكرسه زعيماً بلا منازع على القوة الاقتصادية الثالثة في الاتحاد الأوروبي، والوحيدة التي تغازل واشنطن وموسكو في كل ما يتعلق بالأجندة اليمينية المتطرفة.
ويعرف زعيم الرابطة أن كلمته ستكون مسموعة عندئذ في المؤسسات الأوروبية التي لم تبخل عليه بالانتقاد والتحذير بقدر ما تعمدت تجاهله عند توزيع مناصب القيادة والمسؤولية العليا مؤخراً.
لكن نظيره، وشريكه في الائتلاف الحاكم حتى الآن، زعيم حركة النجوم الخمس لويجي دي مايو (أيار)، يشهد تراجعاً مستمراً في شعبيته منذ تشكيل الائتلاف الحاكم، لا يُقاس إلا بارتفاع شعبية سالفيني الذي هيمن بشخصيته وأسلوبه على الحكومة منذ اليوم الأول.
وإذا كانت زعامة دي مايو للحركة قد اهتزت بقوة بعد الانتخابات الأوروبية الأخيرة التي خسرت فيها النجوم الخمس نصف شعبيتها تقريباً، فإنها قد تصبح في حكم المنتهية إذا تقرر إجراء انتخابات مبكرة بات من المؤكد أن الحركة تحتاج لزعامة جديدة لخوضها.
بعد ساعات من تقديمه طلب سحب الثقة من رئيس الحكومة دعا سالفيني إلى مناقشته والتصويت عليه، قبل منتصف الشهر الحالي، لكن الكتل البرلمانية رفضت طلب سالفيني وقررت عقد جلسة طرح الثقة يوم الثلاثاء المقبل في مجلس الشيوخ، مما يؤشر على أن المساعي للبحث عن أغلبية برلمانية جديدة تقطع على سالفيني طريق الانتخابات المبكرة قد بدأت في كواليس السياسة الإيطالية السحيقة.
الخيار الوحيد المتاح لتشكيل أغلبية برلمانية جديدة يمر عبر التحالف بين حركة النجوم الخمس والحزب الديمقراطي، لكن هذا التحالف دونه عقبات كثيرة لا يتسع الوقت للمفاوضات التي قد تؤدي إلى تذليلها. في غضون ذلك، وبينما تضرب الكتل البرلمانية أخماسها بأسداسها، دعا سالفيني نواب حزبه إلى روما والبقاء فيها بحالة جهوزية تامة، فيما يواصل هو الضغط لإجراء الانتخابات في أقرب فرصة، ويجول على الشواطئ الإيطالية في حملة انتخابية اختار أن يركز فيها على المناطق التي تشكل معاقل حركة النجوم الخمس، وتراجعت فيها شعبيتها لصالح حزب الرابطة.
لكن ارتفاع شعبية سالفيني في الأشهر الأخيرة تزامن أيضاً مع تنامي ظاهرة جديدة غير مألوفة في المشهد السياسي الإيطالي، وهي الرفض المتزايد لسياسته حيث صارت المظاهرات المرحبة بتحركاته والمؤيدة لمواقفه تتواجه، وأحياناً تتصادم، مع مظاهرات ضده تصفه بالعنصري، وتعيب عليه دفاعه عن الشركات الكبرى، والطبقة الميسورة.
رئيس الحكومة جيوزيبي كونتي من جهته لم يبادر إلى تقديم استقالته إلى رئيس الجمهورية كما كان متوقعاً، وكما كان يتمنى سالفيني، بل شن هجوماً قاسياً على زعيم الرابطة واتهمه بأنه المسؤول الوحيد عن الأزمة التي «افتعلها من باب الأنانية وسعياً لتحقيق مآرب شخصية بعيدة كل البعد عن المصلحة العامة»، وأضاف رداً على مطالبة زعيم الرابطة بمناقشة طلب سحب الثقة فوراً في البرلمان: «ليس سالفيني مَن يحدد مواقيت المناقشات في البرلمان... كفى غطرسة!».
المواجهة الأخيرة بين الرابطة والنجوم الخمس كانت حول استئناف العمل بمشروع شق نفق عريض للمواصلات السريعة بين إيطاليا وفرنسا جمدت الحركة تنفيذه لأسباب بيئية وتصر الرابطة على إكماله. وكانت الحركة قد تقدمت باقتراح في مجلس الشيوخ لوقف العمل نهائياً بالمشروع، لكن الرابطة قررت التخلي عن حليفتها، وصوتت إلى جانب الأحزاب الأخرى التي يؤيد معظمها مواصلة تنفيذه. وقد جاءت خطوة سالفيني بتفجير الأزمة الحكومية بعد 48 ساعة من الموافقة النهائية في مجلس الشيوخ على قانون مكافحة الهجرة المثير للجدل، الذي كان لا بد لإقراره من أصوات النجوم الخمس.
رئيس الجمهورية من ناحيته هو الوحيد المخول بموجب الدستور حل البرلمان والدعوة لإجراء انتخابات مبكرة، يميل إلى إبقاء الحكومة في مهامها حتى الخريف المقبل لإنجاز قانون الموازنة العامة الذي يفترض أن تقدم نسخته الأولى إلى المفوضية الأوروبية، قبل نهاية الشهر المقبل، وكان موضع خلاف عميق وتجاذبات بين روما بروكسل، بسبب مستوى العجز العام الذي يتجاوز المعدلات القصوى المحددة في الضوابط المالية الأوروبية، الذي يشكل استمراره في إيطاليا للعام الخامس على التوالي خطراً على القطاع المصرفي، ويهدد الاستقرار المالي في منطقة اليورو بكاملها.
وتنصب جهود رئاسة الجمهورية في الوقت الراهن على تأمين أغلبية برلمانية مختلفة تمكن كونتي من الاستمرار في موقعه لفترة كافية تسمح بتجاوز استحقاق الموازنة، وتنفيس الاحتقان السياسي الذي يناسب أسلوب سالفيني، وترتفع فيه شعبيته.
ومنذ أن أطلق سالفيني رصاصة الرحمة على الحكومة مطالباً بإجراء انتخابات مبكرة، ظهرت مجموعة مـؤشرات توحي بأن ثمة «جبهة جمهورية» تتشكل بين الحزب الديمقراطي والنجوم الخمس لصد هجوم زعيم الرابطة عبر تحالف برلماني أبدت عدة أحزاب صغيرة استعدادها أيضاً للانضمام إليه. وكان الأمين العام السابق للحزب الديمقراطي، والرئيس الأسبق للحكومة، ماتيو رنزي الذي يتزعم تياراً واسعاً داخل الحزب كان يستعد للانشقاق عنه وتأسيس حزب بيئي جديد، قد سارع فور مبادرة سالفيني إلى دعوة حزبه للتحالف مع حركة النجوم الخمس لتشكيل حكومة جديدة والحيلولة دون العودة مجدداً إلى صناديق الاقتراع.
أما زعيم الرابطة الواثق من أن لا مفر من الذهاب إلى الانتخابات المبكرة، فقد باشر البحث مع الحلفاء المحتملين في الأوساط اليمينية، تحسباً لعدم حصوله على الأغلبية الكافية التي تسمح له بتشكيل الحكومة منفرداً في حال تجاوزه حاجز الأربعين في المائة. وكان اتصاله الأول مع زعيم «فورزا إيطاليا» سيلفيو برلسكوني الذي يحكم بالتحالف معه عدداً من الأقاليم والمجالس البلدية بعد أن خاض كلاهما الانتخابات العامة الماضية على لائحة واحدة. لكن برلسكوني رفض اقتراح سالفيني خوض الانتخابات المقبلة ضمن لائحة الرابطة، وقال: «ما زلنا نطالب بتشكيل تحالف عريض يجمع أحزاب الوسط واليمين، لكننا لسنا على استعداد للتخلي عن تاريخنا وشعارنا، ولا عن لوائحنا الخاصة في الانتخابات المقبلة».
وفيما تمارس جهات عدة، إيطالية وأوروبية، ضغوطاً متزايدة على الحزب الديمقراطي للتحالف مع النجوم الخمس وقطع طريق الانتخابات أمام زعيم الرابطة، دعا ماتيو رنزي «جميع الأحزاب والقوى اليسارية والتقدمية إلى بذل قصارى جهدها لمنع وصول سالفيني إلى رئاسة الحكومة، مهما كلف الأمر». وقال رنزي إنه الذي تعرض أكثر من أي شخص آخر لانتقادات حركة النجوم الخمس «لكن لا مجال هنا للمشاعر الشخصية، وعلينا جميعاً أن ننقذ إيطاليا».



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».