من يعود إلى الكتب والكتابات الصحافية التي تناولت قبل 100 عام الحياة الاجتماعية والسياسية في ولاية البصرة بخاصة، وسواءً كانت مكتوبةً بأقلام من العراق أو من دول أخرى عربية أو أجنبية، سيلحظ أنها مليئة بذكر هذه الشخصية البارزة التي تعود أسرتها إلى جذور سعودية (بدرانية دوسرية من بلدة جلاجل في سدير شمال الرياض) إلا أن القليل من المصادر السعودية المحلية يشير إليه، ويخصه بالذكر على الرغم من أصوله تلك، ومن صلته الوثيقة بالملك المؤسس (عبد العزيز) بوصفه أبرز معتمديه في ولاية البصرة، وأهم ممثليه مع الأتراك والإنجليز إبّان فترة توحيد المملكة العربية السعودية (1902 - 1932م)، ومع أن سيرته لم تدوّن مجتمعةً في مؤلّف واحد، إلا أن المصادر المتوافرة لم تبخس بالذكر دوره السياسي في ولاية البصرة، والاتصالات التي كان يُجريها مع الأتراك ثم الإنجليز وكيلاً للسلطان عبد العزيز، مما لا يتسع المقام لبسطه وتفصيله.
وكان ممن اهتم بسيرته وجمع تلك الكتابات في مخطوط بحجم كتاب، الباحث الكويتي المعروف يعقوب يوسف الإبراهيم الكاتب في هذه الصحيفة، وهو يُعدّ أفضل مرجع لمن يرغب من الباحثين الاستزادة عنه، وقد كانت قرابته بالمنديل من جهة والدته جعلته يُحجم عن التوسّع في نشر ما عنده، كما أوجز الباحث العراقي المعروف، نجدت فتحي صفوة، بعض ما أوردته الوثائق البريطانية عنه، وبعض ما هو معروف عنه عراقيّاً في بحث نشره في جريدة «الشرق الأوسط» (العدد 6579 لعام 1996 م)، وذلك في الذكرى الـ56 لوفاته، كما كتب عنه الريحاني، وفيلبي، والزركلي، وغيرهم، ومن السعوديين، كتب عنه العلامة حمد الجاسر، ومحمد القشعمي الذي نشر في المجلة العربية (2003م) مقالاً موسّعاً من حلقتين أحاط فيهما بسيرته وبالمراجع المتوافرة عنه.
وتُجمع المصادر على أن والده كان قد نزح من سدير إلى الزبير (1837م)؛ حيث مارس التجارة بين البصرة وبغداد والهند، وبنى للنازحين من عشيرته دار ضيافة، وأقام لأسرته مكانة اجتماعيةً مرموقة في جنوب العراق، وقد اكتسب واحد من أبنائه الستة - وهو يوسف - لقب الباشوية إبان العهد العثماني في العراق، ثم حاز ابنه الثاني عبد اللطيف اللقب في أعقاب نجاحه في ترتيب المحادثات بين ابن سعود والأتراك بعد انضمام الأحساء إلى الحكم السعودي (1913م).
وإذ من الصعب الإحاطة في هذا الحيّز المحدود بتفاصيل سيرته من جانبيها السياسي والإداري، العراقي والسعودي، فستوجز النقولات التالية أبرز محطاتها:
- قال عنه نجدت فتحي صفوت في مقاله المذكور آنفاً:
في 2 - ديسمبر (كانون الأول) سنة 1940م، توفي في البصرة عبد اللطيف باشا المنديل، أحد كبار وجهائها وملاكها، وكان وكيلاً لعبد العزيز آل سعود فيها، ومن الرجال الذين تمتّعوا بثقته مع بقائه على ولائه للعراق، وقد قضى حياته في خدمة القُطرين بإخلاص. ولد عبد اللطيف بن إبراهيم بن منديل في الزبير (مع اختلاف في تاريخ ولادته)، وكان أبوه قد نزح إليها من نجد، وحصلت العائلة على مكانة رفيعة في البصرة، وحققت ثروة كبيرة، وأصبح أبناء المنديل من أعيانها، وقد درس على أساتذة خصوصيّين، ثم عمل في تجارة والده وزراعته، وأصبح وكيلاً لعبد العزيز (سلطان نجد عندئذ) بعد وفاة شقيقه عبد الوهاب الذي كان يقوم بها منذ عهد الإمام عبد الرحمن (والد عبد العزيز)، وكانت علاقة المنديل تلك امتداداً لعلاقات عائلية قديمة منذ كان جده الأكبر (سويّد)، أميراً لجلاجل أيام حكم الإمام فيصل بن تركي (جد عبد العزيز).
ويُروى أنه حينما كان وكيلاً للملك عبد العزيز كتب إليه الملك أثناء دخوله الأحساء (1913م)، قائلاً: «إذا سألك الترك فقل لهم إني عثماني»، وقد أشار عليه بذلك خشية أن يناله ضرر، ولكن المنديل لم يعمل بإشارة موكّله، فلم ينكر للترك أنه نجدي، ولم يُخفِ كونه وكيلاً للملك عبد العزيز، وقال للأتراك: «لقد جهلتم قدر هذا الرجل، وها هو يعرّفكم بنفسه»، وحضر المنديل مؤتمر «الصبيحة» جنوب الكويت، الذي أسفر عن تحييد الأتراك واعترافهم بسيادة عبد العزيز في الأحساء، ولما بدأ عبد العزيز بوضع أسس الدولة الحديثة وقواعدها استقر المنديل في ميناء العقير لتطويره ولتنظيم شؤون الجمارك، ومن مظاهر صحبته لآل سعود أطلق في سنة 1934م اسم السعودية على أحد الأحياء التي تقع على ضفاف شط العرب في البصرة، ودأب المنديل على تشجيع المشروعات الثقافية والخيرية ودعمها بالمال، فمنحته الدولة العثمانية رتبة الباشوية في سنة 1913م، وكان له دور كبير في العراق وفي ولاية البصرة بصورة خاصة؛ إذ صار إبّان الحكم العثماني عضواً في مجلس ولاية البصرة وملحقاتها، ثم عضواً في مجلس الإشراف خلال فترة الاحتلال البريطاني (1914 - 1919م).
ومن الأعمال التي تذكر له: تزويده البصرة بالكهرباء وبمياه الشرب النقيّة (في أول مشروع لإسالة المياه في العراق)، وإصلاح وسائل الزراعة وتنشيط التجارة فيها وإعمار المدينة، عُيّن عبد اللطيف المنديل وزيراً للتجارة في أول وزارة عراقية برئاسة السيد عبد الرحمن النقيب في سنة 1920م لكنه استقال من أجل العناية بأموره الخاصة (مارس/ آذار 1922م)، ثم عيّن وزيراً للأوقاف في وزارة عبد المحسن السعدون الثانية (نوفمبر/ تشرين الثاني 1922م)، وانتخب لعضوية المجلس التأسيسي في سنة 1924م عن البصرة، ثم أصبح عضواً في مجلس الأعيان في سنة 1929م، واستقال في سنة 1934م ليتفرغ لشؤونه الخاصة أيضاً، داهمه المرض في منتصف الثلاثينات وساءت أحواله الصحية وأصيب بالشلل، فتوفي ودفن في مقبرة الحسن البصري في مسقط رأسه «الزبير».
- وعلى ذكر المناصب الإدارية التي تولّاها، يشير يعقوب الإبراهيم إلى أن ملك العراق فيصل الأول كان له موقف من المنديل بحكم تعاطفه مع الملك عبد العزيز وولائه المزدوج العلني له، وقد اضطر المنديل بسبب ذلك الموقف إلى عدم الاستمرار في آخر منصب وزاري تقلّده؛ مما نتج عن ذلك في حينه سقوط الوزارة بأكملها، وهي حادثة ربما لم تشر المصادر المكتوبة إليها بما تستحق من الذكر.
- وقال عنه أمين الريحاني في كتابه «ملوك العرب» ج 2: «وهو حر الكلمة، سديد الرأي، مخلص الودّ لآل سعود، وخصوصاً للسلطان عبد العزيز، ومخلص العمل لوطنه الثاني العراق»، ووصفه في صفحة أخرى بأنه «صديق السلطان الحميم ووكيله في العراق، وهو نجدي الأصل عراقي الإقامة ولا يزال للبداوة أثر في حديثه وفي سلوكه الحر».
- ووصفته الخاتون المس بيل (Miss Bell) في إحدى رسائلها قائلة: «له الملامح الدقيقة البديعة التي يتسم بها العرب من قلب الجزيرة العربية، ولعله أقوى شخصية في البلد (البصرة) بعد ذهاب السيد طالب النقيب، وهو تاجر كبير»، والمعروف أن جيرترود بيل (المتوفاة سنة 1926م) كانت باحثة وعالمة آثار بريطانية ومستشارة المندوب السامي بيرسي كوكس في العشرينات.
- وكتب يعقوب الإبراهيم في جريدة «الشرق الأوسط» (العدد 1292 عام 2005م) مقالاً وصف فيه القصر الشهير بـ«بيت الباشا» على شط العرب في البصرة، وهو القصر الذي بناه عبد اللطيف المنديل سنة 1925م وتوفي فيه، ذاكراً أنه تحفة معمارية نفيسة، وواصفاً أدق التفاصيل التي جعلته يقف عبر العقود شاهداً على طابع التراث العمراني لمنازل البصرة آنذاك؛ حيث يمتزج فيها الفن الهندي، والفارسي، والتركي (متمثّلاً بالشناشل الخارجية، والطارمات)، والأوروبي من الداخل (بالكاشان، والبورسلان، والزجاج المعشّق).
- وكان المنديل يرعى شاعر العراق الرصافي الذي مدحه بقصائد قال في إحداها:
أبا ماجد إني عهدتك مبصراً خفايا أمور أعجزت كل مبصر
إذا خفيت يوماً عليك حقيقةٌ نظرت إليها من ذكاءٍ بمجهر
وإن ليلةُ الخطب ادلهمّت كشفتها بأوضاح صبحٍ من فعالك مسفر
وبعد..
لئن أطلقت العاصمة السعودية الرياض اسمه على أحد شوارعها عرفاناً بوفائه للملك المؤسس وبمكانته لديه، فإن تاريخه لا يزال بحاجة - عراقيّاً وسعوديّاً - إلى كتاب، وهو أمر لن يتأخر أكثر بإذن الله بجهود المهتمين بتاريخه ممن ذكرت.
* إعلامي وباحث سعودي
ذكرى تأسيس الدولة السعودية: عبد اللطيف باشا المنديل (1868 ـ 1940)
شخصيّات من حقبة التأسيس (2)
ذكرى تأسيس الدولة السعودية: عبد اللطيف باشا المنديل (1868 ـ 1940)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة