بول فيندلي قاتل بشجاعة ورحل مهزوماً

أن تجرؤ على الكلام في قلب «الكونغرس الأميركي»

بول فندلي
بول فندلي
TT

بول فيندلي قاتل بشجاعة ورحل مهزوماً

بول فندلي
بول فندلي

لم يعد خافياً لأحد اليوم مدى قوّة وتغلغل النفوذ الإسرائيلي داخل مؤسسات صناعة القرار في دول الغرب لا سيّما الولايات المتحدة الأميركيّة، دولة العالم العظمى. ولا تمتلك أي مجموعات ضغط سياسي تمثل مصالح أقليّات أو صناعات أو دولاً أجنبيّة داخل أجهزة السلطات التشريعيّة فيها ما يشبه جبروت اللّوبي الإسرائيلي وهيمنته شبه الكاملة على صناعات السياسات العامّة لتلك الدّول في كل ما يتعلّق بالشرق الأوسط، ولو كان ذلك أحياناً على حساب مصالحها الوطنيّة ورفاه مواطنيها.
لكن تلك الصورة المثيرة للقلق لم تكن بتلك الوضوح قبل عدة عقود قليلة، وقلّما تنبّه لها المواطنون في دول الغرب ذاتها - ناهيك بالطبع عن معظم سياسيي دول العالم الثالث -، وذلك بحكم الجهل المتراكم، والتنميطات المسبّقة عن منطقة الشرق الأوسط وما يرتبط بها من أساطير وعواطف دينيّة قديمة متمكنة من العقل الغربي إلى اليوم على نحو يدفع بالغالبيّة للوقوع أسرى الدّعايات الصهيونيّة. وإذا كان هنالك من رجل واحد ندين له بتسليط الضوء على مدى انتشار هذا النفوذ المسموم وخوض المعارك السياسيّة لفضحه ومواجهته دفاعاً عن المصالح القوميّة لبلاده، فلن يكون سوى بول فيندلي السّيناتور السابق وممثل ولاية إلينوي في مجلس الكونغرس الأميركي عن الحزب الجمهوري لمدة 22 عاماً متتالية بين عامي 1960 و1982 والذي توفي الخميس الماضي عن 98 عاماً (1921 - 2019).
فيندلي اشتهر عالمياً وفي بلاده من خلال كتابه ذائع الصيت «من يجرؤ على الكلام»، والذي كشف فيه عن هيمنة حديديّة على الكونغرس تمارسها اللجنة الأميركيّة - الإسرائيليّة للشؤون العامة (المعروفة باسم إيباك)، وأن السّياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط والصراع العربي - الإسرائيلي تصنع في الكنيست الإسرائيلي، وليس في الكابيتول هيل (مقر الكونغرس الأميركي) أو البيت الأبيض (مقر الرئاسة الأميركيّة)، بعدما أصبح الأخيران رهينة في أيدي قادة اللّوبي الإسرائيلي - الأميركيّ، يسيّرونهما كيفما شاءوا. ويعتقد الآن على نطاق واسع بأن ذلك اللوبي تآمر عام 1982 لإسقاطه في انتخابات التجديد بالكونغرس لمصلحة نائب موال لإسرائيل من الحزب الديمقراطي بعد أن كان انتخب لـ11 مرّة متوالية.
فيندلي الآتي من بدايات متواضعة في عالم الصحافة ولاحقاً الخدمة العسكريّة بالبحريّة خلال الحرب العالميّة الثانيّة، انتخب لتمثيل ولايته بداية الستينات من القرن الماضي. وهو بحكم تعليمه المحلي في ولاية يغلب عليها الرّيف الزراعي جاء إلى الكونغرس دون أن يمتلك أي خبرة سياسيّة أو معرفة مسبّقة بشؤون الشرق الأوسط سوى تلك الصور السطحيّة الشديدة العموميّة التي يتلقاها التلامذة الأميركيّون في المدارس العامّة أو من خلال إنتاجات هوليوود الاستشراقية الهوى. لكنّه متسلحاً بخبرته العسكريّة التي أرته فظاعات الحروب دفع من خلال عمله النيابي نحو سياسات معتدلة تتجنّب الحروب وتدعو للانخراط في حوارات بناءة بكافة الدّول. وقد كان أعلى الأصوات التي ارتفعت من الكابيتول هيل ضدّ الحرب الأميركيّة على فيتنام، ودعم دون تحفظات حركة الحقوق المدنيّة - بعد أن لمس العنصريّة التي تعرّض لها رفاقه السود في سلاح البحريّة -، وكان أحد مشرعي قانون الحرب لعام 1973 الذي قلص من صلاحيات منصب الرئيس في شنّ الحروب. هذا بالطبع إلى جانب اهتماماته المحليّة بشؤون الزراعة لا سيّما بما خص دعم العائلات العاملة في ذلك القطاع المركزي بولاية إلينوي. وقد قادته هذه الانشغالات السياسية للخدمة داخل لجنتي الكونغرس الفرعيتين للسياسة الخارجيّة والزّراعة.
طوال ذلك الوقت لم تتقاطع مواقف فيندلي مع اللّوبي الإسرائيلي المتغلغل في قلب العمل السياسي الأميركي - بما فيه الكونغرس - لحين التحاقه بلجنة السياسة الخارجيّة بداية من ولايته الرابعة عام 1967 هناك اكتشف السيناتور تدريجياً - ومنذ أول انتقاد للسياسات العدوانيّة الإسرائيليّة أدلى به خلال حديث جانبي خاص أثناء مداولات تلك اللجنة - بأنّ (إيباك) هي الآمر الناهي فيما يتعلق بتوجهات الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط، وأن الأغلبية العظمى من أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب تنفّذ رغباتها دون مناقشة إن هم رغبوا بالاحتفاظ بمناصبهم.
وقد وصل السّيناتور لاحقاً إلى قناعة مفادها بأن (إيباك) لم تكن سوى الجزء الظّاهر من جبل جليد هيمنة اللوبي الهائل، والذي يمتد نفوذه إلى جلّ المؤسسات السياسيّة والإعلاميّة والثقافية الأميركيّة عبر أكثر من 200 هيئة وتجمع ولجنة، تعمل وكأنها تابعة للسفارة الإسرائيليّة «لدرجة أنّه لو أعلن رئيس وزراء إسرائيل أن الأرض مسطحة، فإن الكونغرس سيصدر قبل مرور 24 ساعة قراراً ملزماً للحكومة الأميركيّة يؤيد الإعلان ويبارك لرئيس الوزراء اكتشافه العبقريّ». وقد كتب عن ذلك يقول: «أغلبية المواطنين غير مدركين لحقيقة أن سياسة بلادنا بشأن الشرق الأوسط لا ترسم من قبل خبراء معنيين بالمصالح القوميّة للولايات المتحدّة».
وقد تصادفت مرحلة اشتباك فيندلي باللّوبي الصهيوني نتيجة انتقاداته للسلطات الإسرائيليّة بزيارة قام بها إلى الشرق الأوسط سعياً لإطلاق سراح أحد ناخبيه الذي اشتبه بتورطه بالتجسس، وسجن في عدن باليمن الجنوبي حينها. وقد أخذته تلك الرّحلة أيضاً إلى دمشق وبيروت، وعاد منها جميعاً بانطباعات إيجابيّة تخالف سياسات بلاده العدائيّة تجاه تلك الدّول. وقاده ذلك لتبني مواقف علنيّة تدعو إلى انخراط الولايات المتحدة في علاقات حوار بناء مع مختلف أطراف المنطقة بمن فيهم الفلسطينيون، بدلاً من الانحياز الكلي التام للجانب الإسرائيلي.
وبعد خسارته لمنصبه النّيابي، تفرّغ فيندلي لتسجيل خبرته في الصّراع مع اللوبي الصهيوني داخل مؤسسات الدّولة الأميركيّة، ومواجهة الصور السلبيّة عن الإسلام والمسلمين. فنشر «من يجرؤ على الكلام - 1985»، ثمّ «الخداع: مواجهة الحقائق بشأن العلاقات الأميركيّة - الإسرائيليّة - 1993»، و«لا صمت بعد اليوم: مواجهة الصّور المزيفة عن الإسلام في أميركا - 2001»، و«أجندة المحافظين الجدد، الحرب في الشرق الأوسط، ومصالح إسرائيل القوميّة - 2008» وكذلك مذكّراته التي نشرها بعنوان «أميركا في خطر - 2011»، كما أسس مع رفاق له مجلس المصالح القوميّة عام 1989، مؤسسة بحثيّة لا تتوخى الرّبح تستهدف دعم سياساتٍ بشأن الشرق الأوسط تخدم المصلحة الأميركيّة العُليا، كما دعم تأسيس مجلس العلاقات الأميركيّة - الإسلاميّة، وتجوّل في بلدان كثيرة بالشرق الأوسط ملقياً المحاضرات لجمهور عربي ومسلم كبير متعطش لسماع صوت أميركي مختلف.
لم يغفر اللوبي الإسرائيلي لفيندلي (جرائمه) بحق إسرائيل مطلقاً، فاعتبره «عدواً خطيراً للصهيونيّة»، وتعرضت أعماله المطبوعة للحصار، وأُخفيت أخباره عن وسائل الإعلام، وأزيلت المواقع التي تشير إليه في الإنترنت، وشُوّهت سمعة مجلس المصالح القوميّة، بينما وَجّهت الصحف الأميركيّة الكبرى - لا سيّما «نيويورك تايمز» - انتقادات حادة لكتبه. لكّن ذلك لم يردعه يوماً عن الاستمرار بدعاويه لتجنّب الوقوع بأفخاخ الآيديولوجيّات الموهومة، وتبني خطاب نادر في الفضاء الأميركي تجاه مقاربات سياسيّة داخليّة (فيما يتعلّق بالعلاقات مع المسلمين داخل الولايات المتحدة)، وخارجيّة تخدم المصالح الاستراتيجيّة طويلة المدى لبلاده بدلاً من مصالح الدّولة العبريّة.
لكن هذا الرجل الشجاع والذي قاتل بشرفٍ رحل عن عالمنا مهزوماً بعد أن شهد رأي العين العنصريّة وصراعات الهويّات والعداء للمهاجرين - لا سيّما من المسلمين منهم - والتي طالما ناضل لإسقاطها وقد صارت شغل بلاده الشّاغل. لكن نجح اللّوبي الإسرائيلي - الذي أنفق فيندلي عمره في توعية الأميركيين بمخاطره - بالقرار الرسمي الأميركي بشأن الشرق الأوسط، لدرجة الإعلان عن الاعتراف بالقدس العربيّة المحتلّة عاصمة أبديّة لإسرائيل، ونقل مقرّ السفارة الأميركيّة إليها، وهي إجراءات لم يجرؤ على تنفيذها عتاة الرؤساء من المناصرين لإسرائيل من قبل. لكن هزيمته الشخصيّة تلك، تتضاءل دائماً أمام المكانة التي سيأخذها في التاريخ كأول سيناتور أميركي تجرّأ على الكلام في قلب «الكابيتول هيل».


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»
TT

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة أو أن تُحسب دراسته، على الرغم من التفصيل والإسهاب في مادة البحث، أحدَ الإسهامات في حقل النسوية والجندر، قدر ما يكشف فيها عن الآليات الآيديولوجية العامة المتحكمة في العالمَين القديم والجديد على حد سواء، أو كما تابع المؤلف عبر أبحاثه السابقة خلال أطروحته النظرية «العالم... الحيز الدائري» الذي يشتمل على أعراف وتقاليد وحقائق متواصلة منذ عصور قديمة وحديثة مشتركة ومتداخلة، وتأتي في عداد اليقين؛ لكنها لا تعدو في النهاية أوهاماً متنقلة من حقبة إلى أخرى، وقابلة للنبذ والنقض والتجدد ضمن حَيِّزَيها التاريخي والاجتماعي، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، ومنهما إلى العصرَين الزراعي والصناعي؛ من الكهف إلى البيت، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الوحشية إلى البربرية، ومنهما إلى المجهول وغبار التاريخ.

ويشترك الكتاب، الصادر حديثاً عن دار «الياسمين» بالقاهرة، مع أصداء ما تطرحه الدراسات الحديثة في بناء السلام وحقوق الإنسان والعلوم الإنسانية المتجاورة التي تنشد قطيعة معرفية مع ثقافة العصور الحداثية السابقة، وتنشئ تصوراتها الجديدة في المعرفة.

لم يكن اختيار الباحث فالح مهدي إحدى الظواهر الإنسانية، وهي «المرأة»، ورصد أدوارها في وادي الرافدين ومصر وأفريقيا في العالمَين القديم والجديد، سوى تعبير عن استكمال وتعزيز أطروحته النظرية لما يمكن أن يسمَى «التنافذ الحقوقي والسياسي والقانوني والسكاني بين العصور»، وتتبع المعطيات العامة في تأسس النظم العائلية الأبوية، والأُمّوية أو الذرية، وما ينجم عن فضائها التاريخي من قرارات حاكمة لها طابع تواصلي بين السابق واللاحق من طرائق الأحياز المكانية والزمانية والإنسانية.

إن هذه الآليات تعمل، في ما يدرسه الكتاب، بوصفها موجِّهاً في مسيرة بشرية نحو المجهول، ومبتغى الباحث هو الكشف عن هذا المجهول عبر ما سماه «بين غبار التاريخ وصورة الحاضر المتقدم».

كان الباحث فالح مهدي معنياً بالدرجة الأساسية، عبر تناول مسهب لـ«المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ، بأن يؤكد أن كل ما ابتكره العالم من قيم وأعراف هو من صنع هيمنة واستقطاب الآليات الآيديولوجية، وما يعنيه بشكل مباشر أن نفهم ونفسر طبيعةَ وتَشكُّلَ هذه الآيديولوجيا تاريخياً ودورها التحويلي في جميع الظواهر؛ لأنها تعيد باستمرار بناء الحيز الدائري (مفهوم الباحث كما قلت في المقدمة) ومركزة السلطة وربطها بالأرباب لتتخذ طابعاً عمودياً، ويغدو معها العالم القديم مشتركاً ومتوافقاً مع الجديد.

إن مهدي يحاول أن يستقرئ صور «غبار التاريخ» كما يراها في مرحلتَي الصيد والرعي القديمتين، ويحللها تبعاً لمسارها في العهد الحداثي الزراعي الذي أنتج النظم العائلية، وبدورها أسفرت عن استقرار الدول والإمبراطوريات والعالم الجديد.

يرصد الكتاب عبر تناول مسهب «المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ في ظل استقطاب آيديولوجيات زائفة أثرت عليها بأشكال شتى

ويخلص إلى أن العصر الزراعي هو جوهر الوجود الإنساني، وأن «كل المعطيات العظيمة التي رسمت مسيرة الإنسان، من دين وفلسفة وعلوم وآداب وثقافة، كانت من نتاج هذا العصر»، ولكن هذا الجوهر الوجودي نفسه قد تضافر مع المرحلة السابقة في عملية بناء النظم العائلية، وأدى إليها بواسطة البيئة وعوامل الجغرافيا، بمعنى أن ما اضطلع به الإنسان من سعي نحو ارتقائه في مرحلتَي الصيد والرعي، آتى أكله في مرحلة الزراعة اللاحقة، ومن ثم ما استُنْبِتَ في الحيز الزراعي نضج في الحيز الصناعي بمسار جديد نحو حيز آخر.

ومن الحتم أن تضطلع المعطيات العظيمة التي أشار إليها المؤلف؛ من دين وفلسفة وعلوم وآداب زراعية؛ أي التي أنتجها العالم الزراعي، بدورها الآخر نحو المجهول وتكشف عن غبارها التاريخي في العصرَين الصناعي والإلكتروني.

إن «غبار التاريخ» يبحث عن جلاء «الحيز الدائري» في تقفي البؤس الأنثوي عبر العصور، سواء أكان، في بداية القرن العشرين، عن طريق سلوك المرأة العادية المسنّة التي قالت إنه «لا أحد يندم على إعطاء وتزويج المرأة بكلب»، أم كان لدى الباحثة المتعلمة التي تصدر كتاباً باللغة الإنجليزية وتؤكد فيه على نحو علمي، كما تعتقد، أن ختان الإناث «تأكيد على هويتهن».

وفي السياق نفسه، تتراسل دلالياً العلوم والفلسفات والكهنوت والقوانين في قاسم عضوي مشترك واحد للنظر في الظواهر الإنسانية؛ لأنها من آليات إنتاج العصر الزراعي؛ إذ تغدو الفرويدية جزءاً من المركزية الأبوية، والديكارتية غير منفصلة عن إقصاء الجسد عن الفكر، كما في الكهنوت والأرسطية في مدار التسلط والطغيان... وهي الغبار والرماد اللذان ينجليان بوصفهما صوراً مشتركة بين نظام العبودية والاسترقاق القديم، وتجدده على نحو «تَسْلِيع الإنسان» في العالم الرأسمالي الحديث.

إن مسار البؤس التاريخي للمرأة هو نتيجة مترتبة، وفقاً لهذا التواصل، على ما دقّ من الرماد التاريخي بين الثقافة والطبيعة، والمكتسب والمتوارث... حتى كان ما تؤكده الفلسفة في سياق التواصل مع العصر الزراعي، وتنفيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في كشف صورة الغبار في غمار نهاية العصر الصناعي.