بول فيندلي قاتل بشجاعة ورحل مهزوماً

أن تجرؤ على الكلام في قلب «الكونغرس الأميركي»

بول فندلي
بول فندلي
TT

بول فيندلي قاتل بشجاعة ورحل مهزوماً

بول فندلي
بول فندلي

لم يعد خافياً لأحد اليوم مدى قوّة وتغلغل النفوذ الإسرائيلي داخل مؤسسات صناعة القرار في دول الغرب لا سيّما الولايات المتحدة الأميركيّة، دولة العالم العظمى. ولا تمتلك أي مجموعات ضغط سياسي تمثل مصالح أقليّات أو صناعات أو دولاً أجنبيّة داخل أجهزة السلطات التشريعيّة فيها ما يشبه جبروت اللّوبي الإسرائيلي وهيمنته شبه الكاملة على صناعات السياسات العامّة لتلك الدّول في كل ما يتعلّق بالشرق الأوسط، ولو كان ذلك أحياناً على حساب مصالحها الوطنيّة ورفاه مواطنيها.
لكن تلك الصورة المثيرة للقلق لم تكن بتلك الوضوح قبل عدة عقود قليلة، وقلّما تنبّه لها المواطنون في دول الغرب ذاتها - ناهيك بالطبع عن معظم سياسيي دول العالم الثالث -، وذلك بحكم الجهل المتراكم، والتنميطات المسبّقة عن منطقة الشرق الأوسط وما يرتبط بها من أساطير وعواطف دينيّة قديمة متمكنة من العقل الغربي إلى اليوم على نحو يدفع بالغالبيّة للوقوع أسرى الدّعايات الصهيونيّة. وإذا كان هنالك من رجل واحد ندين له بتسليط الضوء على مدى انتشار هذا النفوذ المسموم وخوض المعارك السياسيّة لفضحه ومواجهته دفاعاً عن المصالح القوميّة لبلاده، فلن يكون سوى بول فيندلي السّيناتور السابق وممثل ولاية إلينوي في مجلس الكونغرس الأميركي عن الحزب الجمهوري لمدة 22 عاماً متتالية بين عامي 1960 و1982 والذي توفي الخميس الماضي عن 98 عاماً (1921 - 2019).
فيندلي اشتهر عالمياً وفي بلاده من خلال كتابه ذائع الصيت «من يجرؤ على الكلام»، والذي كشف فيه عن هيمنة حديديّة على الكونغرس تمارسها اللجنة الأميركيّة - الإسرائيليّة للشؤون العامة (المعروفة باسم إيباك)، وأن السّياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط والصراع العربي - الإسرائيلي تصنع في الكنيست الإسرائيلي، وليس في الكابيتول هيل (مقر الكونغرس الأميركي) أو البيت الأبيض (مقر الرئاسة الأميركيّة)، بعدما أصبح الأخيران رهينة في أيدي قادة اللّوبي الإسرائيلي - الأميركيّ، يسيّرونهما كيفما شاءوا. ويعتقد الآن على نطاق واسع بأن ذلك اللوبي تآمر عام 1982 لإسقاطه في انتخابات التجديد بالكونغرس لمصلحة نائب موال لإسرائيل من الحزب الديمقراطي بعد أن كان انتخب لـ11 مرّة متوالية.
فيندلي الآتي من بدايات متواضعة في عالم الصحافة ولاحقاً الخدمة العسكريّة بالبحريّة خلال الحرب العالميّة الثانيّة، انتخب لتمثيل ولايته بداية الستينات من القرن الماضي. وهو بحكم تعليمه المحلي في ولاية يغلب عليها الرّيف الزراعي جاء إلى الكونغرس دون أن يمتلك أي خبرة سياسيّة أو معرفة مسبّقة بشؤون الشرق الأوسط سوى تلك الصور السطحيّة الشديدة العموميّة التي يتلقاها التلامذة الأميركيّون في المدارس العامّة أو من خلال إنتاجات هوليوود الاستشراقية الهوى. لكنّه متسلحاً بخبرته العسكريّة التي أرته فظاعات الحروب دفع من خلال عمله النيابي نحو سياسات معتدلة تتجنّب الحروب وتدعو للانخراط في حوارات بناءة بكافة الدّول. وقد كان أعلى الأصوات التي ارتفعت من الكابيتول هيل ضدّ الحرب الأميركيّة على فيتنام، ودعم دون تحفظات حركة الحقوق المدنيّة - بعد أن لمس العنصريّة التي تعرّض لها رفاقه السود في سلاح البحريّة -، وكان أحد مشرعي قانون الحرب لعام 1973 الذي قلص من صلاحيات منصب الرئيس في شنّ الحروب. هذا بالطبع إلى جانب اهتماماته المحليّة بشؤون الزراعة لا سيّما بما خص دعم العائلات العاملة في ذلك القطاع المركزي بولاية إلينوي. وقد قادته هذه الانشغالات السياسية للخدمة داخل لجنتي الكونغرس الفرعيتين للسياسة الخارجيّة والزّراعة.
طوال ذلك الوقت لم تتقاطع مواقف فيندلي مع اللّوبي الإسرائيلي المتغلغل في قلب العمل السياسي الأميركي - بما فيه الكونغرس - لحين التحاقه بلجنة السياسة الخارجيّة بداية من ولايته الرابعة عام 1967 هناك اكتشف السيناتور تدريجياً - ومنذ أول انتقاد للسياسات العدوانيّة الإسرائيليّة أدلى به خلال حديث جانبي خاص أثناء مداولات تلك اللجنة - بأنّ (إيباك) هي الآمر الناهي فيما يتعلق بتوجهات الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط، وأن الأغلبية العظمى من أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب تنفّذ رغباتها دون مناقشة إن هم رغبوا بالاحتفاظ بمناصبهم.
وقد وصل السّيناتور لاحقاً إلى قناعة مفادها بأن (إيباك) لم تكن سوى الجزء الظّاهر من جبل جليد هيمنة اللوبي الهائل، والذي يمتد نفوذه إلى جلّ المؤسسات السياسيّة والإعلاميّة والثقافية الأميركيّة عبر أكثر من 200 هيئة وتجمع ولجنة، تعمل وكأنها تابعة للسفارة الإسرائيليّة «لدرجة أنّه لو أعلن رئيس وزراء إسرائيل أن الأرض مسطحة، فإن الكونغرس سيصدر قبل مرور 24 ساعة قراراً ملزماً للحكومة الأميركيّة يؤيد الإعلان ويبارك لرئيس الوزراء اكتشافه العبقريّ». وقد كتب عن ذلك يقول: «أغلبية المواطنين غير مدركين لحقيقة أن سياسة بلادنا بشأن الشرق الأوسط لا ترسم من قبل خبراء معنيين بالمصالح القوميّة للولايات المتحدّة».
وقد تصادفت مرحلة اشتباك فيندلي باللّوبي الصهيوني نتيجة انتقاداته للسلطات الإسرائيليّة بزيارة قام بها إلى الشرق الأوسط سعياً لإطلاق سراح أحد ناخبيه الذي اشتبه بتورطه بالتجسس، وسجن في عدن باليمن الجنوبي حينها. وقد أخذته تلك الرّحلة أيضاً إلى دمشق وبيروت، وعاد منها جميعاً بانطباعات إيجابيّة تخالف سياسات بلاده العدائيّة تجاه تلك الدّول. وقاده ذلك لتبني مواقف علنيّة تدعو إلى انخراط الولايات المتحدة في علاقات حوار بناء مع مختلف أطراف المنطقة بمن فيهم الفلسطينيون، بدلاً من الانحياز الكلي التام للجانب الإسرائيلي.
وبعد خسارته لمنصبه النّيابي، تفرّغ فيندلي لتسجيل خبرته في الصّراع مع اللوبي الصهيوني داخل مؤسسات الدّولة الأميركيّة، ومواجهة الصور السلبيّة عن الإسلام والمسلمين. فنشر «من يجرؤ على الكلام - 1985»، ثمّ «الخداع: مواجهة الحقائق بشأن العلاقات الأميركيّة - الإسرائيليّة - 1993»، و«لا صمت بعد اليوم: مواجهة الصّور المزيفة عن الإسلام في أميركا - 2001»، و«أجندة المحافظين الجدد، الحرب في الشرق الأوسط، ومصالح إسرائيل القوميّة - 2008» وكذلك مذكّراته التي نشرها بعنوان «أميركا في خطر - 2011»، كما أسس مع رفاق له مجلس المصالح القوميّة عام 1989، مؤسسة بحثيّة لا تتوخى الرّبح تستهدف دعم سياساتٍ بشأن الشرق الأوسط تخدم المصلحة الأميركيّة العُليا، كما دعم تأسيس مجلس العلاقات الأميركيّة - الإسلاميّة، وتجوّل في بلدان كثيرة بالشرق الأوسط ملقياً المحاضرات لجمهور عربي ومسلم كبير متعطش لسماع صوت أميركي مختلف.
لم يغفر اللوبي الإسرائيلي لفيندلي (جرائمه) بحق إسرائيل مطلقاً، فاعتبره «عدواً خطيراً للصهيونيّة»، وتعرضت أعماله المطبوعة للحصار، وأُخفيت أخباره عن وسائل الإعلام، وأزيلت المواقع التي تشير إليه في الإنترنت، وشُوّهت سمعة مجلس المصالح القوميّة، بينما وَجّهت الصحف الأميركيّة الكبرى - لا سيّما «نيويورك تايمز» - انتقادات حادة لكتبه. لكّن ذلك لم يردعه يوماً عن الاستمرار بدعاويه لتجنّب الوقوع بأفخاخ الآيديولوجيّات الموهومة، وتبني خطاب نادر في الفضاء الأميركي تجاه مقاربات سياسيّة داخليّة (فيما يتعلّق بالعلاقات مع المسلمين داخل الولايات المتحدة)، وخارجيّة تخدم المصالح الاستراتيجيّة طويلة المدى لبلاده بدلاً من مصالح الدّولة العبريّة.
لكن هذا الرجل الشجاع والذي قاتل بشرفٍ رحل عن عالمنا مهزوماً بعد أن شهد رأي العين العنصريّة وصراعات الهويّات والعداء للمهاجرين - لا سيّما من المسلمين منهم - والتي طالما ناضل لإسقاطها وقد صارت شغل بلاده الشّاغل. لكن نجح اللّوبي الإسرائيلي - الذي أنفق فيندلي عمره في توعية الأميركيين بمخاطره - بالقرار الرسمي الأميركي بشأن الشرق الأوسط، لدرجة الإعلان عن الاعتراف بالقدس العربيّة المحتلّة عاصمة أبديّة لإسرائيل، ونقل مقرّ السفارة الأميركيّة إليها، وهي إجراءات لم يجرؤ على تنفيذها عتاة الرؤساء من المناصرين لإسرائيل من قبل. لكن هزيمته الشخصيّة تلك، تتضاءل دائماً أمام المكانة التي سيأخذها في التاريخ كأول سيناتور أميركي تجرّأ على الكلام في قلب «الكابيتول هيل».


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.