سيارات «الموكب» الروسي منذ عهد القيصر نيكولاي وحتى «آوروس» بوتين

خروشوف بجانبه الرئيس جمال عبد الناصر على متن سيارة زيس 110 بي
خروشوف بجانبه الرئيس جمال عبد الناصر على متن سيارة زيس 110 بي
TT

سيارات «الموكب» الروسي منذ عهد القيصر نيكولاي وحتى «آوروس» بوتين

خروشوف بجانبه الرئيس جمال عبد الناصر على متن سيارة زيس 110 بي
خروشوف بجانبه الرئيس جمال عبد الناصر على متن سيارة زيس 110 بي

استخدم القياصرة الروس، ومن بعدهم القادة السوفيات، ومن ثم الرؤساء الروس، سيارات فخمة في تنقلاتهم ضمن كراج السيارات الخاص المعروف باسم «الموكب» والذي يضم إلى جانب السيارات الفاخرة، مجموعة من الدراجات النارية التي تتقدم الموكب عادة، وتشكل مربعا حول «السيارة الرئاسية». وطيلة العقود الماضية كان «الموكب»، لا سيما السيارة التي يستخدمها الزعيم حصراً محط اهتمام واسع. وإذا كان عبور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوفر فرصة لمشاهدة سيارته الجديدة، الفاخرة المحلية الصنع من ماركة «آوروس»، فإن زيارة «معرض إنجازات الاقتصاد الوطني» في موسكو هذه الأيام تتيح فرصة نادرة للتعرف على سيارات القادة الروس منذ عهد روسيا القيصرية، مرورا بالحقبة السوفياتية، وصولا إلى سيارات الرؤساء في روسيا الحديثة.
ويمكن القول إن العرض - المعرض جاء بمثابة عرض لتاريخ قادة روسيا منذ مطلع القرن الماضي، من خلال عرض السيارات التي استخدموها في تنقلاتهم ضمن «الموكب». ورغم وجود عدد كبير من السيارات الفاخرة ضمن «معرض كراج المهام الخاصة»، أي الكراج الرئاسي، أول ما يلفت الانتباه سيارة من ماركة «Delaunay - Belleville» (ديلون بيليفيل)، التي استخدمها نيكولاي الثاني، آخر قياصرة روسيا، وشكل دخولها «خدمة القيصر» ولادة «الموكب الخاص». وتقول المراجع التاريخية إن القيصر نيكولاي لم يستحسن دراجات بخارية رآها نهاية القرن التاسع عشر، إلا أنه أُعجب بهذه السيارة، التي عرضها عليه الأمير أورلوف عام 1903. وهو العام الذي بدأ فيه تصنيع تلك السيارة. وبعد أكثر من جولة على متنها، أثارت إعجاب القيصر، الذي اعتمدها تدريجيا وسيلة نقل له، عوضا عن العربة التي تجرها الخيول. ولم يكن نيكولاي يتقن قيادة السيارات، كما أن مكانته لم تكن تسمح له بمزاولة عمل كهذا، لذلك كان الأمير أورلوف ذاته، أول سائق لدى القيصر، ويمكن القول إنه أول سائق في «الموكب» منذ ظهوره في روسيا مطلع القرن الماضي. واستخدم القادة الروس هذه السيارة الفرنسية خلال السنوات الأولى بعد الثورة البلشفية.
ملامح «موكب رئاسي» لـ«زعيم» في دولة عظمى ظهرت جلية في عهد جوزيف ستالين، حين انضمت إلى الموكب السيارة سوفياتية الصنع من ماركة «زيس 115»، وهي سيارة مصفحة، تم تصنيعها للزعيم ستالين بتوجيهات منه، واستخدمها في تنقلاته. وبعد ستالين، تولى خروشوف كرسي «الزعامة» وفي عهده، الذي عمل فيه على التخلص من مخلفات حكم سلفه، تم تصنيع موديلات أخرى من سيارة «زيس» لعل أبرزها «زيس 110 بي كابريليت»، وهي سيارة مع سقف متحرك، استخدمها خروشوف لا سيما خلال العروض الجماهيرية.
وفي عهده انضمت للموكب سيارة «زيل» التي أخدت تتطور، وتحولت إلى سيارة رئيسية في عهد خلفه ليونيد بريجنيف، حين ظهرت بموديلها الجديد المعروف باسم «تشايكا». وفي عهد الزعيم ليونيد بريجنيف بدأت مرحلة «الموكب» من سيارات ماركة «زيل»، وبرزت بشكل خاص «زيل 114». وتم تطوير تلك السيارة خلال عقود، إلى أن برزت في أجمل تصميم، وأكثرها حداثة، خلال عهد ميخائيل غورباتشوف، آخر زعيم سوفياتي حمل صفة «السكرتير العام»، وأول وآخر من حمل لقب «رئيس الاتحاد السوفياتي». وتم تصنيع الموديل الجديد من «تشايكا» بسقف مغلق وبسقف متحرك، ودوما الهدف توفير سيارة مناسبة للتنقلات الرسمية، وللمشاركة في العروض العسكرية وغيرها. إلى جانب تلك السيارات محلية الصنع اعتمد القادة السوفيات، منذ عهد لينين، مختلف ماركات سيارة مرسيدس الألمانية ضمن «الموكب». وعلى سبيل المثال كانت هناك سيارات «مرسيدس بنز 600 بولمان» في موكب بريجنيف، وقبله استخدمها خروشوف، ولينين.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بدأت «تشايكا» تفقد مكانتها في «الموكب» لصالح سيارات من ماركات أجنبية. إذ اعتمد بوريس يلتسين، أول رئيس لروسيا الاتحادية، على سيارات من ماركة «مرسيدس 600 بولمان» الألمانية، التي حافظت على مكانتها ضمن سيارات «الموكب» في عهد الرئيس الثاني لروسيا فلاديمير بوتين، ولا تزال معتمده بعض موديلات مرسيدس في موكبه حتى يومنا هذا. ومع بقاء سيارات من ماركات أجنبية في «موكب» الرئيس بوتين، إلا أنه يتنقل حاليا على متن سيارة فاخرة، تم تصنيعها العام الماضي في روسيا، بتوجيهات من الكرملين، حرصا على أن تكون السيارة التي يستخدمها رئيس البلاد «وطنية الصنع». وأطلق على السيارة الجديدة اسم «آوروس»، وهو اسم يجمع بين كلمة (Aurum) وتعني الذهب باللاتينية، وكلمة (Russia).
«آوروس» الرئاسية سيارة مصفحة، تتمتع بمواصفات تقنية عالية، وتتميز بتصميم يجمع بين الذوق الرفيع والهيبة في آن واحد، أي أنها سيارة فاخرة، تم تصنيع أكثر من موديل منها، بينها «ليموزين» و«جيب» واستخدمها الرئيس بوتين أول مرة حين وصل على متنها إلى الكرملين في 7 مايو (أيار) العام الماضي، حيث جرت مراسم تنصيبه رئيسا للبلاد لولاية جديدة بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. ومنذ ذلك الحين أصبحت «آوروس» السيارة «رقم 1» في الموكب، أي التي يستخدمها بوتين، وليس داخل البلاد فحسب، بل خلال زياراته الخارجية، حيث يتم نقلها جوا على متن طائرات «الأسطول الجوي الرئاسي».
ويمكن رؤية «آوروس» في معرض «كراج المهام الخاصة» على أرض «معرض إنجازات الاقتصاد الوطني» في موسكو، تقف إلى جانب سيارات آخر قياصرة روسيا، والزعماء السوفيات، فضلا عن الدراجات النارية التي كانت تسير ضمن الموكب في كل واحدة من تلك المراحل.


مقالات ذات صلة

تعريفات ترمب الجمركية تضع شركات عالمية في المكسيك تحت المجهر

الاقتصاد ترمب يلقي خطاباً خلال تجمع انتخابي في أرينا سانتاندر في ريدينغ بنسلفانيا (رويترز)

تعريفات ترمب الجمركية تضع شركات عالمية في المكسيك تحت المجهر

مع تزايد المخاوف من اندلاع حرب تجارية، ستواجه العديد من الشركات التي لديها حضور تصنيعي في المكسيك تحديات جديدة، وخاصة تلك التي تصدر إلى الولايات المتحدة.

«الشرق الأوسط» (عواصم )
يوميات الشرق شعار العلامة التجارية للسيارات الفارهة «جاغوار» (أ.ب)

حتى ماسك انتقده... إعلان ترويجي لسيارات «جاغوار» يثير غضباً

أثار مقطع فيديو ترويجي لتغيير العلامة التجارية للسيارات الفارهة «جاغوار» انتقادات واسعة بظهور فتيات دعاية يرتدين ملابس زاهية الألوان دون وجود سيارة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الولايات المتحدة​ حادث تصادم وقع نتيجة عاصفة ترابية بكاليفورنيا (أ.ب)

عاصفة ترابية شديدة تتسبب بتصادم سيارات جماعي في كاليفورنيا

كشفت السلطات في ولاية كاليفورنيا الأميركية عن أن عاصفة ترابية شديدة تعرف باسم الهبوب تسببت في تصادم عدة مركبات على طريق سريع بوسط كاليفورنيا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال زيارة لبروكسل 25 مايو 2017 (رويترز)

أوروبا تستعد لوصول ترمب... أسوأ كابوس اقتصادي بات حقيقة

كانت التوقعات الاقتصادية لمنطقة اليورو مصدر قلق لبعض الوقت، ولكن منذ فوز ترمب بالرئاسة ساء الوضع بشكل كبير.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
رياضة عالمية غابرييل بورتوليتو (رويترز)

ساوبر يكمل تشكيلته لموسم 2025 بالبرازيلي بورتوليتو

أعلن فريق ساوبر المنافس في بطولة العالم لسباقات «فورمولا 1» للسيارات، اليوم الأربعاء، تعاقده مع السائق البرازيلي غابرييل بورتوليتو ليكمل تشكيلته لموسم 2025.

«الشرق الأوسط» (بيرن)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)