ضَعوا أنفسَكم في مكانَ لبنان واحكُموا

موظفون من وزارة العمل اللبنانية يحققون مع عامل في أحد مطاعم بيروت (أ.ف.ب)
موظفون من وزارة العمل اللبنانية يحققون مع عامل في أحد مطاعم بيروت (أ.ف.ب)
TT

ضَعوا أنفسَكم في مكانَ لبنان واحكُموا

موظفون من وزارة العمل اللبنانية يحققون مع عامل في أحد مطاعم بيروت (أ.ف.ب)
موظفون من وزارة العمل اللبنانية يحققون مع عامل في أحد مطاعم بيروت (أ.ف.ب)

في لبنان يأخذُ موضوعُ عملِ الأجانب عموماً، والفِلسطينيين والسوريين خصوصاً، أبعاداً سياسيّة وطائفيّة ومذهبيّة لعِدّة أسبابٍ أبرزُها:
1) طبيعة تكوينِ الكيانِ اللبناني المرتكِزِ على التوازنِ الطائفيّ.
2) خطورة الأزمة الاقتصاديّة التي أَضعفَت النموَّ وعَقَّرت فرصَ العمل، فارتفعت نسبة البطالة إلى 35% في صفوفِ الشباب، والمديونيّة إلى 90 مليار دولار، وعددُ اللبنانيين غيرُ المضمونين إلى 70%، والّذين يعيشون تحتَ سقفِ الفَقر إلى 1.280.000 لبنانيٍّ.
3) اجتياحُ النازحين السوريين سوقَ العملِ اللبناني حيث ناهز عددُ العامِلين منهم بشكلٍ غيرِ شرعي الـ800 ألف عامل.
4) خوفُ اللبنانيين من أن يؤدّي عملُ اللاجئين الفلسطينيين إلى اندماجِهم في لبنانَ فتوطينِهم.
استقرَّ عددُ اللاجئين الفِلسطينيين في لبنان على نحوِ نِصف مليون لاجئٍ، بينما تخطّى عددُ النازحين السوريين المليون ونصفَ المليون نازح. وما يُقلق اللبنانيين، أنَّ هذه الاستضافة طالت: الفِلسطينيّون هنا منذ سبعينَ سنة، والسوريّون منذ تسعِ سنوات. ولا شيءَ يُشير في المدى المنظورِ إلى احتمالِ عودة الفِلسطينيين إلى فلسطين والسوريين إلى سوريا. «اتفاقاتُ أوسلو» والحلُّ على أساسِ الدولتَين و«صفقة القرن» سلبت الشعبَ الفِلسطيني الـمُشتَّت «حقَّ العودة». والمجتمعُ الدولي يرفض عودة النازحين السوريين قبل التسوية السياسيّة للحرب، وهيهات أن تأتيَ، والنظامُ السوريُّ، الذي خاض حرباً مذهبيّة الهوّية، لا يَقبل إلا بعودة «سُنِّيي النظام».
قبلَ نكبة فِلسطين كان آلافُ الفِلسطينيين يعملون في لبنانَ، وقد نَجحوا واندَمجوا وتَجنّسوا، ونحن فخورون بهم. وقبلَ الحربِ في سوريا كان المواطنون السوريّون يَشتغلون في قطاعاتِ البناءِ والزراعة والبيئة ويعيشون في المجتمعِ اللبناني من دون أي إشكالية. لكن ما يُطلب اليومَ من لبنان ليس السماح بالعملِ لأفرادٍ فِلسطينيين وسوريين، بل للشعبين الفِلسطيني والسوريّ، فيما الاقتصادُ اللبناني عاجزٌ عن إيجادِ عملٍ لأفرادٍ لبنانيين. أي عقلٍ يُبرِّرُ هذا المنطِق؟ وأي أدبيّاتٍ تُجيز هذا المطلَب؟
رغم ذلك، يرعى القانونُ اللبناني عملَ الفلسطينيين ويُراعيهم. فالدولة اللبنانيّة خَصَّت اللاجئين الفلسطينيين بإجراءاتٍ مميزَّة عن سائر الأجانبِ تسمحُ لهم بالعملِ وإن كانت حَصَرت مهناً معيّنة بمواطنيها اللبنانيين أُسوة بما يجري في كلِّ بلدانِ العالم. من هنا، إنَّ الاحتجاجاتِ الفلسطينيّة الأخيرة كانت غيرَ مبرَّرة لأنّها صَوّرت لبنان كأنه دولة تكافح الفِلسطينيين بينما الواقعُ هو عكسُ ذلك. وحين كنت وزيراً للعمل بين سنتي 2014 و2016 أعطيت الفِلسطينيين تسهيلاتٍ من دون الإساءة إلى حقوقِ اللبنانيين. لكن إذا كان الفِلسطينيّون، تحت ذريعة أنّهم لاجئون، يريدون أنْ ينافسوا اللبنانيين على فرصِ العمل، فالأمرُ، بصراحة، مرفوض. شاءَ من شاءْ، وأبى من أبى.
منذ سنة 2006، تاريخِ الحربِ بين إسرائيل و«حزب الله»، وسوقُ العملِ اللبناني لا يَفرِزُ سنوياً سوى 3500 فرصة عملٍ، بينما المتخرِّجون سنوياً في المعاهدِ المهنيّة والجامعات يَبلغون 47 ألفَ لبنانيِّ. أي أنَّ لبنان أمام عجزٍ سنوي يُناهز 33500 فرصة عمل. فمن أين سيأتي بفُرصِ العمل لغيرِ بنيه أكانوا فِلسطينيين أم سوريين؟
مطلعَ سنة 2019 ارتفَعت نسبة البطالة في «كانتون» جنيف، عاصمة سويسرا، من 4.1% إلى 4.4% فقط، فسارعَ مجلسُ المدينة وقَرّر إعطاءَ الأولويّة في العملِ لمواطني جنيف على سائرِ مواطني سويسرا. فما بالنُا في لبنان ونُسبة البطالة ارتفعت إلى 35% من القوى العاملة؟ لمن نعطي الأولوية؟ رجاءً، ضَعوا أنفسَكم مكاننا وأعْطوا الجواب.
قبل حقوقِ اللبنانيين وغيرِهم في دولِ الخليج هناك حقوقُ الخليجيين. وقبلَ حقوقِ الفِلسطينيين والسوريين في لبنان هناك حقوقُ اللبنانيين. هذه مبادئُ دوليّة تنسجِم مع شِرعة حقوقِ الإنسان والقوانينِ الدوليّة. رُبَّ قائلٍ: لماذا أنتم في لبنان لا توظّفون غرباءَ فيما المهاجِرون اللبنانيّون يعملون في جميعِ دولِ العالم، وبخاصة في دول الخليج؟ الجوابُ هو التالي: 1) ليس صحيحاً أنَّ لبنانَ يمنع الغرباءَ من العمل، فعددُ العربِ والأجانب، العاملين شرعياً في لبنان يفوق الـ400 ألفِ شخصٍ، أي 22% من نسبة اليدِ العاملة اللبنانيّة. 2) إنَّ اللبنانيين هاجروا كأفرادٍ ووَجدوا عملاً كأفرادٍ، بالحسنى لا بالقوّة، ولم يَنتزعوا فرصَ العمل ِمن مواطني الدولِ التي يَعملون فيها. 3) إنَّ هؤلاءِ اللبنانيين تَطلُبهم البلدانُ المضيفة ليعملوا في مجالاتٍ تحتاجُ إليهم فيها وليسهموا في نموِّها وتقدّمِها. 4) اللبنانيّون الّذين يعملون في الدولِ العربيّة والأجنبيّة ليسوا مجنَّدين في فصائلَ عسكريّة وتنظيماتٍ متطرِّفة، ولم يُنشئوا دويلاتٍ داخلَ الدولِ المضيفة. 5) إنَّ دولاً خليجيّة عزيزة حين طردت بعضَ اللبنانيين لمجرَّدِ أن اشتَبهَت في علاقاتِهم مع حزب لبناني معيَّن، لم يَتداعَ اللبنانيّون هناك إلى تنظيمِ مظاهرات في هذه الدولِ الشقيقة.
يبقى أنَّ الفلسطينيين في لبنان لا يستطيعون البقاءَ من دون عملٍ وحقوقٍ اجتماعيّة ومدنيّة؛ فما العمل؟ الحلُّ ليس في لبنان. إنّه في عودة اللاجئين إلى فِلسطين، لكن أين هم من هذه العودة المستحيلة؟ أو في إعادة انتشارِهم على بلدانٍ قادرة أن تؤمّنَ لهم حياة كريمة وعملاً مُستداماً.
في هذا السياقِ، يَتحتّمُ على دولة لبنان بَدءُ مفاوضاتٍ مع دولٍ عربيّة وأجنبيّة لاستضافة اللاجئين الفِلسطينيين. وعلى سبيل المثال: مساحة العالم العربي 13.3 مليون كلم مربع ونسبة السكّانِ في الكيلومتر المربع 54 مواطناً عربياً. أما في لبنان، فنسبة السكّان في الكيلومتر المربع 574 مواطناً (ومع الفِلسطينيين والسوريين تُصبح 841 ساكناً في الكيلومتر المربع)، ومساحة لبنان لا تتعدى الـ10452 كيلومتراً مربعاً، أي أنَّ العالم العربي هو أكبرُ من لبنان بـ1272 مرّة. من هنا يبدأ الحلّ.

- وزير العمل اللبناني السابق



«بريكست» بريطانيا... الحمى أقل زخماً

نتائج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا تزال تثير جدلاً سياسياً واجتماعياً (أ.ب)
نتائج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا تزال تثير جدلاً سياسياً واجتماعياً (أ.ب)
TT

«بريكست» بريطانيا... الحمى أقل زخماً

نتائج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا تزال تثير جدلاً سياسياً واجتماعياً (أ.ب)
نتائج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا تزال تثير جدلاً سياسياً واجتماعياً (أ.ب)

خلال السنوات الـ8 التي مرت منذ التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) عام 2016، كُتبت ملايين الكلمات عن آثاره. وحتى يومنا هذا، لا تزال قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تقسم البريطانيين.

في المملكة المتحدة، هيمن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على النقاش السياسي لسنوات، سيما بين عامي 2016 و2019. وبدا الأمر وكأن الملحمة لا نهاية لها. كنت نائباً في البرلمان ووزيراً في الحكومة البريطانية طوال ذلك الوقت. وأعلم كم من الوقت استهلك الجدل الذي يبدو بلا نهاية.

لكن الساحة السياسية في المملكة المتحدة اليوم أصبحت أقل زخماً بحمى البريكست. واستقر النقاش الآن على شواغل أطول أجلاً: كيف يمكننا تنمية الاقتصاد؟ وكيف يمكننا التعامل مع مستويات الهجرة المرتفعة للغاية؟ وكيف يمكن للمملكة المتحدة أن ترسم طريقها في الساحة الدولية؟

وزير الخزانة البريطاني السابق كوازي كوارتنغ (غيتي)

في الأثناء، وفي أوروبا نفسها، هناك مشاكل ملحة لا علاقة لها بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والمشاكل التي تواجهها أوروبا تماثل بشكل ملحوظ مشاكل بريطانيا.

يُنظر إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على اعتبار أنه عمل غريب وضرب من الجنون من جانب البريطانيين، في الوقت الذي أصبحت فيه القوى الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي وألمانيا وفرنسا أكثر تركيزاً على الداخل وأكثر تفتتاً من الناحية السياسية.

كان سقوط حكومة ميشال بارنييه بفرنسا، في بداية ديسمبر (كانون الأول)، مثالاً على مشكلة أوروبية لا علاقة لها بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. جاء رحيل بارنييه، بعد 3 أشهر فقط، بعد وقت قصير من انهيار الائتلاف في ألمانيا، الذي دفع باتجاه إجراء انتخابات مبكرة في فبراير (شباط) 2025، بدل الموعد الذي توقعه الجميع في سبتمبر (أيلول).

في بريطانيا، بطبيعة الحال، حصلنا على نصيبنا العادل من الانتخابات المبكرة. كان قرار ريشي سوناك بإجراء الانتخابات في يوليو (تموز) 2024 أحدث دعوة لإجراء انتخابات مبكرة، بعد الانتخابات المبكرة الناجحة التي أجراها بوريس جونسون عام 2019، وانتخابات تيريزا ماي المبكرة الكارثية عام 2017.

تظهر كل هذه الانتخابات المبكرة كيف أن الخروج البريطاني استشرف عصراً يتسم بقدر أكبر من عدم اليقين والفوضى. لا شك أن الأمور أصبحت أقل قابلية للتنبؤ بها بعد خروج بريطانيا، برغم أن المؤرخين سوف يتناقشون بلا أدنى شك حول ما إذا كان خروج بريطانيا أحد أبرز أعراض عصر الاضطرابات، أو بالأحرى أحد تداعياتها.

يشير نجاح دونالد ترمب في الانتخابات الأميركية عام 2016 إلى أن الخروج البريطاني، الذي سبق انتخابات ترمب، كان جزءاً من مجموعة أوسع من المتغيرات.

كانت القضايا التي أدت إلى بريكست؛ بما فيها ركود النمو الاقتصادي والهجرة الجماعية وفقدان الهوية بالنسبة للعديد من الناس في الغرب، هي القضايا نفسها التي ساهمت إلى حد كبير في انتصارات ترمب الانتخابية في عامي 2016 و2024.

يواجه البريطانيون أسئلة ملحة عن النمو الاقتصادي (إ.ب.أ)

في بداية عام 2025، يواجه الاتحاد الأوروبي وبريطانيا مشاكل تراجع النمو وارتفاع الهجرة نفسها. وتكمن خلف هذه الأسئلة القضايا المتعلقة بسياسات الهوية، والسياسات المثيرة للانقسام والمتعلقة بالعرق والجنس.

ويُقال إن الهوس المتصور بسياسات الهوية كان سبباً في إلحاق ضرر هائل بالديمقراطيين، كما بدا واضحاً في أحد الإعلانات الانتخابية الجمهورية، الذي يقول: «كامالا من أجلهم، والرئيس ترمب من أجلكم!».

هذه الرسالة المؤثرة بكل فعالية ألمحت إلى أن الديمقراطيين صاروا منغمسين في قضايا مثل حقوق المتحولين جنسياً، والاستخدام الصحيح للضمائر الشخصية، فضلاً عن مجموعة كاملة من النقاشات «المقبولة سياسياً» التي لم تكن على الإطلاق بين اهتمامات غالبية الأميركيين.

في أوروبا، هناك أيضاً مسألة الطاقة الرخيصة. وإلى أي مدى يتعيّن على الناس العاديين أن يدفعوا مقابل «التحول في الطاقة» لتصفير الكربون في اقتصاد بلدانهم عبر التخلي عن الوقود الأحفوري؟ لم تسبق أي قارة أوروبا في جهود «تصفير الكربون» أو الترويج للتخفيف من استخدام الوقود الأحفوري. ومع ذلك، لم تشهد أي قارة صعوداً أقوى للشعبوية اليمينية من أوروبا. فالشعبوية اليمينية عموماً ليست صديقة لـ«التحول الطاقي» والطاقة الخضراء.

من الواضح أن كل هذه المشاكل تتجاوز قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التي تبدو أضيق وأكثر محدودية؛ إذ تنحسر أكثر في الزمن الماضي.

لكن بالنسبة لعشاق الاتحاد الأوروبي، فهناك شعور بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان بمثابة خسارة لكل من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. وهم يزعمون أن المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي كان بوسعهما التعامل مع هذه القضايا بشكل أكثر فاعلية.

غير أن الحقيقة الواقعية تشير إلى خلاف ذلك. فمن المرجح ألا يختلف الوضع الراهن من عدم اليقين والخلافات السياسية إذا ظلت المملكة المتحدة داخل الاتحاد الأوروبي. خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في حد ذاته لم يتسبب في الوعكة التي يعيشها الآن كل بلدان الغرب.

*وزير الخزانة البريطاني السابق