رفيف الظل: إنهم في وعورة أنسابهم

رفيف الظل: إنهم في وعورة أنسابهم
TT
20

رفيف الظل: إنهم في وعورة أنسابهم

رفيف الظل: إنهم في وعورة أنسابهم

هذا صباح يذكرني بالشمس.
هل رأيتم شمسا في الأيام الأخيرة؟
لا يليق بنا، نحن الذين نعيش في رحم الشمس،
أن نقرأ هذا السؤال.
لدينا من الشمس ما يحرق نعاس كل من يفيق الآن، ويفكر في العودة للنوم.
يحرقه ويتصدق برماده على فقراء الجليد.
ثمة المفارقة،
عوض أن تضيء لنا الشمس، فهي تحرقنا.
ما الذي يبقى لجهنم إذن؟
جهنم هي التي تضيء الطريق للفردوس،
هي التي توقد الشمس حين يعتريها اليأس ويطفئ لهيبها الملل،
هي التي نمتحن بها صبرنا.
ما هو ليس ليلا، لا يكون نهارا بالضرورة.
الليلُ ياقة قميص النهار،
لن يسترَ عنقك،
لكنه سيُبرئُ ربطة نشوتك.
هي الأشلاءُ،
هوية خطواتِكَ المتعثرة في غبارِ المسافة،
وشمُ جلدِكَ العربي المثخنُ بالجليد.
هي أن يكون مبتدؤكَ القتل الصباحي،
وخَبرُكَ أدوية الهدوء.
فهل ستهدأُ؟!
هل سينقشعُ الغبارُ، ويتبخر الوشمُ؟
تجلس في شفير شغف. تسمع ماءَ القلب يشرقُ بالحب، فتظن أنه صباحُك المنتظر. تزعم أن أصدقاء لك في شفير الشغف الآخر يقدرون على تأجيلك حتى الشهقة التالية، فتفتح أجنحتك، تنسى أنكَ قد نسيت عادة الهواء منذ الموت الأخير قبل الربيع الماضي، كنت تقول إن الماضي لا يذهب والمستقبل لا يأتي. أصدقاؤك يسعفونك قبل نهاية الشفير بمتر واحد من الشغف. تحلم.
إنهم هناك، في وعورة أنسابهم،
مربوطون بما يمنع الطين من الاحتفاظ بعود،
دروبهم زلقة، وكلما عبروا.. انحرفوا للشفير الأخير.
وأنتَ هنا، تسمع تنهدات من ماتوا وهم ينادونك،
ولشدة شوقهم أدمنوا وصفك كغيم محتمل،
فلا النجوم بعد ذلك بعيدة، ولا المسافة عرجاء.
رأيته وهو يقطف الأحرف من حنظل البكاء،
ويغرزها في برودة الكفن.
انتظرَ حتى سعلَ الحاجب سعلتَهُ المعتادة، ثم كبّر.
وفي نهاية الفريضة، جفّتِ الوجوهُ، فاستسقى لهم راحته وارتخاء أوصاله.
كانت خطواتهم الحافية تنزع من الأرض نكهتها الأخيرة،
كان يسمع تلك النكهة كبرق يضيء المسافة الأخيرة.
بعد قليل ستمطر،
ستظلم ثم ستمطر.
يتدحرجُ الصمتُ بينهما،
فيكبرُ الجليد.
وكلما يحاولُ أن يشعلَ الطريق،
يحترقُ النص.
النص أكثر حريقا من الشخص.
الشخص في غيهب الغياب.
يرقّمُ الحصى بدم الجملة،
فيلتهمه ذئب المعنى.
يتأجج ذائبا كذئب حزين، شوقا إلى كهفه الأول.
في الكهف،
القِبلة هي خريطة عظامه،
والحطبُ الباردُ كنزُ صلاتِه.
يبقى له أن يثق،
أن يؤمن،
أن تصيبه رعشة الأمل.
يبقى له.
لكن من أين،
كيف؟



«وداعاً للسلاح»... طبعة جديدة من رائعة إرنست همنغواي

«وداعاً للسلاح»... طبعة جديدة من رائعة إرنست همنغواي
TT
20

«وداعاً للسلاح»... طبعة جديدة من رائعة إرنست همنغواي

«وداعاً للسلاح»... طبعة جديدة من رائعة إرنست همنغواي

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من رواية «وداعاً للسلاح»، ترجمة مراد الزمر، التي تعدّ من أشهر ما كتبه الأديب الأميركي الشهير إرنست همنغواي «1899-1961»، وتدور أحداثها في إيطاليا خلال الحرب العالمية الأولى، بطلها ملازم أميركي شاب يدعى «فريدريك هنري» يعمل في مجال الإسعاف والإنقاذ لحساب أحد المستشفيات الميدانية.

ويمكن القول إن الرسالة الرئيسية التي تحملها الرواية هي صرخة احتجاج ضد فظائع وويلات الحروب عموماً، أما الحدث الدرامي الرئيسي فيتمثل في علاقة حب رومانسية، تنشأ بين ممرضة إيطالية حسناء تدعى «كاترين باركلي» وفريدريك الذي أصيب في إحدى المعارك إصابة بالغة، وهو يؤدي عمله بنقل الجنود المصابين. وبالرغم من أن هذه الإصابة كادت تودي بحياته، فإنه عدّها فرصة ثمينة، إذ جمعته بكاترين التي اعتنت به عناية خاصة على نحو جعله يهيم بها حباً إلا أن هذا العشق الذي صادفه على غير ميعاد لم ينسه الحرب وويلاتها، فقد ظل يتساءل بينه وبين نفسه: أين ذهبت الإنسانية، فيما يرى ويلات الحرب وبشاعتها يومياً خلال عمله. ظل السؤال يلاحقه، حتى بات على يقين بأن الحرب، أي حرب، وحشية بطبيعتها ولا يمكن تبريرها على الإطلاق.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«في أخريات صيف هذا العام، أقمنا في منزل في قرية تطل عبر النهر والسهل الممتد إلى الجبل، وقد امتلأ حوض النهر بالحصى والحجارة التي كانت تبدو جافة بيضاء تحت أشعة الشمس، وكانت المياه صافية سريعة الانحدار، وإن بدت زرقاء خلال القنوات. وكانت الفرق العسكرية تمر إلى جانب البيت صاعدة في الطريق، وتثير في مسيرها غباراً يتراكم فوق أوراق الأشجار. وفي ذلك العام تساقطت أوراق الأشجار قبل أوانها، وكنا طيلة الوقت نرى الفرق تقطع الطريق، والأتربة تتصاعد، وأوراق الأشجار يعبث بها النسيم فتسقط، والجنود لا تكف عن المسير، ثم لا يلبث الطريق أن يصبح أبيض اللون خاوياً من كل شيء إلا من أوراق الأشجار.

كان السهل غنياً بالمحاصيل، به حدائق كثيرة، فيها فاكهة، وخلفه ربضت جبال داكنة اللون جرداء، كان يدور فيها القتال. واستطعنا أن نرى في أثناء الليل وميض نيران المدافع، الذي كان يبدو في حلكة الظلام كأنه يروق الصيف، إلا أن الأمسيات كانت باردة، ولم يخالجنا شعور بأن عاصفة ستهبّ.

وأحياناً يخيم الظلام ونسمع وقع أقدام الجنود وهي تسير تحت النافذة والمدافع تجرها السيارات الكبيرة، الحركة دائبة وعدد كبير من البغال يسير في الطرقات يحمل صناديق معبأة بالعتاد الحربي، مدلاة على جوانبها، وسيارات حربية رمادية اللون تحمل الرجال، وأخرى تحمل أثقالاً مغطاة تسير في القافلة أكثر بطئاً وتهادياً. رأينا كذلك المدافع الضخمة في أثناء النهار، تسحبها الجرارات وقد وضعت على فوهاتها الطوال أغصان خضر، أما الجرارات نفسها فقد كُسيت بغصون مورقة خضراء وأعواد الكروم».